ما ان افلت شمس الاتحاد السوفيتي خلف جبال الجليد
المتجمدة وانتهى زمان النظام الاشتراكي كأيدلوجية اقتصادية عالمية
ذائعة الصيت دان بها عشرات الدول لعشرات السنين، حتى ازداد سطوع شمس
النظام الرأسمالي وخاصة بعد ان اخذ يتربع على عرش العالم كايدولوجية
اقتصادية واجتماعية وحيدة ذات نفوذ قوي وسطوة جبارة، وأخذت تغزو دول
العالم دولة تلوى الأخرى وخاصة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي
التي بدأت تدخل في إطاره بشكل منقطع النظير طمعا وأملا في التخلص من
براثن القيود الشديدة التي كان يفرضها النظام الاشتراكي على الإنسان
ومعيشته –من وجهة نظرها على الأقل -.
ان الأسس التي يقوم عليها النظام "الاقتصادي القديم- الجديد " هي
أسس براقة مزركشة جميلة تغري الناظر إليها من الخارج على أنها توفر له
العيش الكريم والرغيد من خلال كميات الأرباح التي يجنيها كل من يتعامل
وفق الأسس الراسمالية،ان أول هذه المبادئ والأسس هو تحقيق الحد الأقصى
من الأرباح باستخدام نظام المنافسة الحرة البعيدة عن القيود والضوابط
المعيقة، ولا يتم ذلك إلا من خلال حرية السوق وسهولة انسياب البضائع
والإنتاج دون قيود جمركية وعوائق جغرافية.
من هنا برزت الحاجة – وفقا لهذا النظام – الى فتح العالم كله كسوق
واحدة يتم فيها سيلان البضائع بسهولة ويسر، لا شك ان المستفيد من تحقيق
هذه المطالب هو الدول الغنية صاحبة رؤوس الأموال وصاحبة الصناعات
القوية التي تقوى على المنافسة والدول التي تحوي في إطارها أهم أدوات
الاقتصاد العالمي الرأسمالي وهي الشركات المتعددة الجنسية التي بدأت
تدخل كلاعب جديد في العلاقات الدولية ينافس الدول –بل يتغلب عليها –
وذلك لان قوة كثير من هذه الشركات تفوق قوة كثير من الدول وان
موازناتها تفوق بعشرات المرات موازنات كثير من الدول،بل ان بعضها يفوق
عدد عمالها المليون عامل وان البعض الأخر له أكثر من 100 ألف فرع في
أنحاء متعددة من العالم،لذا فقد بدأت مرحلة جديدة من السيطرة والهيمنة
على العالم وهي سيطرة اقتصاديه بحتة، ولمزيد من الفائدة لا بد من إلقاء
الضوء على أهم أدوات واذرع السيطرة الاقتصادية الجديدة وهي:
الشركات المتعدية (المتعددة ) الجنسية:
إنها شركات كبرى يتجاوز نشاطها حدود الدول القومية ذات السيادة
والجنسيات المختلفة وتصل أعمالها الى بقاع الأرض كلها، وكما أسلفنا فقد
بلغت قوة بعض هذه الشركات درجة تجاوزت قوة الكثير من الدول المستقلة
ذات السيادة، إن مما يزيد من قوة هذه الشركات ويدعم نفوذها أسباب كثيرة
يمكن ان نوجزها فيما يلي:
1. الدعم الكبير الذي تتلقاه هذه الشركات من الحكومات الأم على
الصعد كافة،ماليا وسياسيا واقتصاديا مما دفع بهذه الشركات الى ممارسة
ادوار متعددة أهمها التدخل في خصوصيات الدول المضيفة السياسية
والاقتصادية والامنية والاجتماعية.
2. ضعف كثير من الدول المضيفة إمام جبروت وقوة هذه الشركات مما
يجعلها عرضة للاستغلال والابتزاز رغبة في تحقيق بعض المكاسب التنموية
نتيجة للضغوط الشعبية التي تتعرض لها الحكومات في كثير من الدول.
3. استغلال الشركات للنزاعات والخلافات المحلية في كثير من الدول
لتدخل كوسيط يدعم طرف على حساب طرف أخر مما يمنحها موطئ قدم ونفوذ في
هذه البلاد.
لقد تزايد الدور النسبي للشركات الكبرى في العلاقات الدولية وأصبحت
من اللاعبين الرئيسيين في السياسة العالمية نتيجة لما تتمتع به من قوة
مالية وسياسية لذا فقد بدأت تمارس أدورا مختلفة تتمثل بما يلي:
1. استغلال خيرات وثروات الأمم الضعيفة والدول الفقيرة مقابل عوائد
بسيطة بالإضافة الى تحويلها الى سوق استهلاكية ضخمة لمنتجاتها.
2. التدخل في الشؤون السياسية لكثير من الدول وخاصة الدول النامية
والضعيفة وإجبارها على اتخاذ سياسات وقرارات محددة.
3. التحكم بالتكنولوجيا المتقدمة واستخدامها كوسيلة ضغط على الدول
النامية لإجبارها على اتخاذ قرارات سياسية تتوافق مع سياسات الدول
الأم لهذه الشركات.
4. تعمل هذه الشركات كوكيل عن الدول الأم في دول العالم المختلفة
بأمور كثيرة سياسية واقتصادية تخدم مصالح هذه الدول (الكبرى ) الأم
لهذه الشركات.
5. أصبحت تمارس أدورا عسكرية مختلفة مثل إثارة النزاعات والحروب
واستغلال بؤر التوتر في المناطق المختلفة من العالم وخاصة شركات صناعة
السلاح التي ترى ان استمرار النزاعات والحروب هو من أولى مصالحها
لتبيع اكبر كمية من إنتاجها للأطراف المتحاربة.
6. تمارس هذه الشركات ادوار سياسية داخلية في بلادها الأم، حيث تقوم
بدور جماعة وقوة ضغط بهدف دعم مرشح رئاسي معين وإيصاله إلى سدة الرئاسة
على حساب مرشح آخر وبما يخدم مصالحها المستقبلية.
7. ممارسة ادوار اجتماعية وإعلانية- سلبية-،حيث تعمل على نشر قيم
ومفاهيم وثقافة الاستهلاك في كثير من الدول من خلال استغلال وسائل
الإعلام المحلية المتاحة والتي أحالت دول العالم النامي الى سوق
استهلاكية كبرى متلقية لا منتجة لصناعات وبضائع هذه الشركات.
8. إجبار الدول النامية على إتباع سياسات اقتصادية معينة تخدم مصالح
هذه الشركات بل أنها تتدخل في بنود ميزانيات بعض الدول من خلال تقييد
هذه الدول بشروط صعبة ومقعدة من خلال العقود التي تتم بينها وبين هذه
الشركات وفي حال الرفض يتم تطبيق هذه الشروط القاسية والتي تدفع بهذه
الدول الى حافة الانهيار السياسي والاقتصادي.
لقد وفرت التطورات التقنية الحديثة والتقدم العلمي الهائل
الارضية الخصبة للاقتصاد الرأسمالي ليحكم العالم وبكل سهولة ويسر وخاصة
ان وسائل الاتصال والمواصلات الحديثة تتخذ من الدول الكبرى المتقدمة
اقتصاديا مقرا لها،مما يوفر سهولة الاتصال مع الأطراف المختلفة وفي
بقاع العالم ويؤمن أقامة التحالفات الكبرى بكل سهولة ويسر، يضاف الى
ذلك ان متغيرات العولمة ساهمت ويسرت لهذه الدول الكبرى ومن خلال
الأدوات المالية العالمية – كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وما
تفرضه من شروط قاسية- سهولة تحكم الدول الكبرى باقتصاد العالم كله.
وسائل الحكم الاقتصادية العالمية:
إن نهاية القرن الماضي وبداية القرن العشرين هي بداية
تفوق الاقتصاد كقوة تحكم العالم وتتفوق – من خلال الأدوات المختلفة-
على القوة العسكرية والسياسية حيث بدأت هذه القوة تجند كل ما لديها من
قوة استعدادا لحكم العالم، وان مما عزز هذه القوة ورفع من شانها هو
ظهور حقبة (العولمة)،حيث ان ظروف العولمة قد أتاحت حرية انتقال رؤوس
الأموال مما ساهم –ظاهريا – بتحسين الأوضاع الاقتصادية لكثير من دول
العالم النامية من خلال استقطاب الكثير من المشروعات الاستثمارية التي
تخدم وتنشط اقتصاديات هذه الدول.
ولكن في الحقيقة ان هذه المشاريع ما هي إلا وسائل وأساليب تخدم
مصالح الشركات الكبرى التي لا يعنيها كثيرا ظروف البلد الذي تستثمر
فيه، ان هيمنة الدول الكبرى الغنية والشركات المتعددة الجنسية على
اقتصاد العالم تم من خلال استخدام طرق ووسائل مختلفة تمثلت بما يلي:
1. تكريس تبعية اقتصاديات الدول النامية لها:
ان الانفتاح على الاقتصاد العالمي من خلال انضمام كثير من الدول
النامية الى منظمة التجارة العالمية قد كرس تبعية اقتصاديات هذه الدول
للاقتصاديات القوية التي تمتاز بالتقدم الصناعي والتكنولوجي الهائل
وجعلها في مهب الريح لأنها اقتصاديات ضعيفة لا تقوى على المنافسة في ظل
حرية السوق التي يحيا في ظلها الاقتصاد العالمي.
2. الإبقاء على الصناعات الوطنية ضعيفة وهزيلة:
ستبقى كذلك لأنها تابعة لاقتصاديات ضعيفة أصلا وخاصة في ظل تدفق
السلع والبضائع العالية الجودة فان قدرة هذه الصناعات على المنافسة
معدومة وليس أمامها من حل سوى الخضوع لقوى السوق الرأسمالية وشروطه
القاسية.
3. استنزاف موار الدول الضعيفة وثرواتها:
إنها أداة هامة من الأدوات التي تتحكم بها القوى ألاقتصادية
العالمية باقتصاد العالم وبالتالي سياسة العالم، فقد أسلفنا قدرة هذه
الشركات على اختراق الدول الضعيفة وبوسائل مختلفة وممارستها للضغوط
المتنوعة على الدول النامية لاستخدامها كمنجم متكامل للموارد الاولية
الهامة واللازمة لاستمرار صناعتها، لذا فهي تمارس عملية نهب منظمة
لخيرات وثروات هذه البلاد دون ان يكون لدى هذه الدول القدرة على
الاعتراض او الرفض.
4. تحويل الدول النامية الى سوق استهلاكية كبرى:
ان النمط الاستهلاكي هو ما يميز مرحلة السيطرة والهيمنة
الاقتصادية التي يعيشها العالم وخاصة الدول النامية منه التي تحولت الى
سوق كبرى لتصريف منتجات وبضائع هذه الشركات والتي في غالبها بضائع غير
صالحة للاستهلاك البشري او أنها ليست بالجودة والمواصفات المطلوبة،بل
ان الغاية منها هو استنزاف الأموال وتحقيق الأرباح.
5. التحكم بالتكنولوجيا والبحث العلمي:
إنها سلاح ضغط فعال تمارس من خلاله الشركات الكبرى والدول
الغنية استغلالها للدول النامية، فهذه الشركات عندما تقدم على
الاستثمار في الدول النامية فإنها لا تجلب معها الا الصناعات
الاستهلاكية او القديمة او المتقادمة تكنولوجيا او كثيفة العمالة او
الملوثة للبيئة ليس إلا، إما الصناعات المتقدمة علميا وتقنيا
والاستراتيجية فإنها تبقيها في وطنها إلام وتحتكرها في مقراتها
الرئيسية.
ان وسائل تحكم الاقتصاد بمصير العالم اكبر بكثير مما ذكرنا فقد تعدى
ذلك لممارسة ادوار اجتماعية وثقافية وحضارية على شعوب العالم النامية
خصوصا،لذا فان الدول الغنية الكبرى والمتقدمة تقنيا والتي تمتلك ناصية
القوة الاقتصادية ستبقى هي المتحكم بمصير العالم لان هذه الحقبة هي
حقبة الأرقام وحقبة من يملك ناصية العلم والمال والتقنية لأنها مؤهلات
حكم العالم اجمع،لذا فان على الدول النامية اتخاذ خطوات جادة وجريئة
تساعدها على التحكم بمصيرها بنفسها والتخلص من تبعية الدول
الغنية،وسنتطرق للحديث عن مثل هذه الوسائل في مقالة قادمة إنشاء الله.
|