شبكة النبأ: مدينة تقع في طرف
الصحراء، بينها وبين الكوفة زهاء ستة أميال، ومناخها صحراوي، حار وجاف
صيفاً وبارد قارص شتاء، وترتفع المدينة عن سطح البحر بزهاء 230 قدماً،
ومعدل سقوط المطر في المدينة سنوياً 1 – 5 قطرة في كل بوصة، ومدينة
النجف عرضة لرياح السموم بسبب وقوعها في طرف الصحراء واختلاف درجة
الحرارة فيها، وقد تبلغ درجة الحرارة في المدينة صيفاً 48 درجة مئوية
وأكثر أحياناً وتقع النجف غربي بغداد وعلى بعد حوالي 180 كم.
والنجف قريبة من الحيرة، عاصمة المناذرة بل إنها ضاحية من ضواحيها
الجميلة، وقد انتشرت الأديرة المسيحية في منطقة النجف، ومن أشهرها دير
فاثيون وهو في أعلا النجف ودير ابن مزعوق في جنوبها، قال الشاعر محمد
بن عبد الرحمن الثرواني:
قلت له والنجوم طالعةٌ في ليلة النصح أول السحر
هل لك في مار فاثيون وفي دير ابن مزعوق غير مختصر
يفيض هذا النسيم من طرف الشام
ودرّ الندى على الشج
ومن الأديرة المشهورة، ديارات الأساقف، وهذه الديارات بالنجف، بظاهر
الكوفة، وهو أول الحيرة، وهي قباب وقصور تسمى ديارات الأساقف وبحضرتها
نهر يعرف بالغدير، عن يمينه قصر أبي الخصيب مولى أبي جعفر، وعن شماله
السدير، وفيه يقول علي بن محمد جعفر العلوي الحماني:
كم وقفة لك بالخور نق ما توازى
بالمواقف
بين الغدير إلى السدير إلى ديارات
الأساقف
وقصر أبي الخصيب، هو أحد المنتزهات يشرف على النجف وعلى ذلك الظهر
كله، يصعد من أسفله في خمسين درجة إلى سطح آخر، أفيح في غاية الحسن وهو
عجيب الصنعة، وفي قصر ابي الخصيب يقول بعضهم:
يا دار غير رسمها مَرُّ الشمال مع الجنوب
بين الخورنق والسدير فبطن قصر أبي الخصيب
فالدير فالنجف الأشم جبال أرباب الصليب
ومن الأديرة المشرفة على النجف، دير مارث مريم، دير قديم من بناء آل
المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر ابي الخصيب، وفيه
يقول الثرواني:
بمارث مريم الكبرى وظل فنائها فِقِف
فقصر ابي الخصيب المشرف الموفي على النجف
ويبدو أن النجف كانت مسرحاً للوقائع الحربية في أثناء الفتوحات
الإسلامية، وقد نزل فيها خالد بن الوليد وقواده الذين شاركوا في فتح
منطقة الحيرة، وبالقرب من النجف الأشرف دارت المعركة الفاصلة في تاريخ
الفتوحات الإسلامية، تلك هي معركة القادسية، في آخر سنة 16 هـ.
والقادسية بين الكوفة والعذيب، وقد انتصر المسلمون في تلك الوقعة
المشهورة، انتصاراً عظيماً، وفتحوا السواد..
والنجف في اللغة، مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد ويكون في بطن
الوادي وقد يكون ببطن من الأرض، جمعه (نجاف) والنجف محركة، التَلُّ
وقشور الصليان، وهو بظهر الكوفة كالمسناة تمنع مسيل الماء أن يعلو
الكوفة ومقابرها.
إن أهم القبائل التي كانت تُحوِّل في أطراف الحيرة والنجف هي قبيلة
تغلب التي هاجرت بعد حرب البسوس في أيام عمرو بن هند، وكذلك قبيلة بكر
ومن أشهر فروعها قبيلة شيبان، وكانت لهذه القبيلة الأخيرة مواقف مشهورة
وقد انتصرت مع حليفاتها القبائل العربية على الجيوش الساسانية في موقعة
ذي قار.
وقد أصبحت منطقة النجف ضمن الأراضي التي تم فتحها بأيدي المسلمين،
وبنيت الكوفة سنة سبع عشرة للهجرة، واستمرت هذه المدينة ولاية مهمة من
ولايات الدولة الإسلامية حتى سنة 36هـ، ففي هذه السنة قدم إليها الإمام
علي بن أبي طالب (ع) بعد فراغه من موقعة الجمل، وأقام فيها، وأضحت
الكوفة عاصمة للخلافة الإسلامية مدة أربع سنوات.
وفي الحادي والعشرين من رمضان سنة 40 هـ 661م أستشهد الإمام علي
متأثراً من جرحه أثر الضربة التي أصابه بها أحد الخوارج وهو عبد الرحمن
بن ملجم المرادي، وقام بدفنه أولاده وأعضاء اسرته المقربون سراً في
النجف، وطوال الحكم الأموي لم يشيد لمدفنه الشريف ضريح، وإنما كان
التقاء وزيارة العلويين لقبره هو الذي شخص مدفنه حتى زال الحكم الأموي.
ونتيجة للأخبار التاريخية تعتبر عمارة هارون الرشيد العباسي أول
عمارة للقبر الشريف، وبداية الدفن في منطق النجف، ونزول الناس ذلك
المكان تبركاً بالراقد الكريم.
وعقبت عمارة الرشيد، عمارة محمد بن زيد بن محمد بن الحسن العلوي
الحسني، صاحب طبرستان والديلم الذي ولي الامرة بعد وفاة أخيه الحسن بن
زيد سنة 270هـ. فقد بنى على قبره الشريف قبة.
وممن اشتهر أنه عني في بناء قبة على القبر الشريف وجعلها مرتفعة
الأركان من كل جانب لها أبواب وسترها بفاخر الستور وفرشها بثمين الحصر
السامان، أبو الهجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي المقتول سنة
317هـ 929م.
ولعل أجل العمارات وأهمها تلك التي قام بها الملك البويهي عضد
الدولة، وأنه صرف أموالاً طائلة وعمر المشهد عمارة جليلة، والتي ظلت
حتى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وكان قد ستر الحيطان بخشب الساج المنقوش،
فاحترقت تلك العمارة، وجددت عمارة المشهد على ما هي الآن.
وتمصرت النجف واتسع نطاقها بعد ذلك وحين زارها الرحالة ابن بطوطة في
سنة 727 هـ 1326م قال عنها: انها مدينة حسنة في ارض فسيحة صلبة من أحسن
مدن العراق وأكثرها ناساً واتقنها بناء، ولها أسواق حسنة نظيفة، ومما
جاء في وصفه للروضة الطاهرة قوله: ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة
يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من
الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب
القبة وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم
إليه أحدهم أو جميعهم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على العتبة
ويستأذنون له ويقولون: عن أمركم يا أمير المؤمنين، هذا العبد الضعيف
يستأذن على دخوله للروضة العليا فإن أذنتم وإلا رجع وإن لم يكن أهلاً
لذلك، فأنتم أهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من الفضة
وكذلك العضادتان ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير
وسواه وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار وفي وسط القبة
مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل
مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها
دون القامة.
ومما جاء في وصف ابن بطوطة لأهلها قوله: (وليس بهذه المدينة مغرم
ولا مكاس ولا وال وإنما يحكم عليهم نقيب الأشراف وأهلها تجار يسافرون
في الأقطار وهم أهل شجاعة وكرم ولا يضام جارهم، صحبتهم في الأسفار
فحمدت صحبتهم.
والروضة المقدسة التي في وسطها القبر الشريف، مربعة الشكل، طول
ضلعها ثلاثة عشر متراً وأرضيتها مفروشة بالرخام الإيطالي المصقول
والجدران إلى علو حوالي المترين، مغطاة بالرخام ذي اللون البديع، وما
يعلو تلك الصخور فقد كسيت الجدران جميعاً بالمرائي الملونة والزخارف
الهندسية البديعة وبالفسيفساء ذات الأشكال الجميلة، ومن الجدير بالذكر
أن شاه إيران محمد رضا بهلوي، هو الذي أمر بوضع المرايا وتزجيج الروضة
الحيدرية على نفقته الخاصة، وقد بلغت كلفتها 12.000 دينار، والذي قام
برسم وتنظيم هذه المرايا الفنان الإيراني (حسين كيانفر) بمعمارية الحاج
سعيد المعمار.
وفي وسط الحضرة القبر الشريف الذي ضم البدن الطاهر وقد وضع عليه
صندوق من الخشب الساج المرصع بالعاج المنقوش عليه بعض الآيات القرآنية،
محاط بشباكين، الأول مما يلي الصندوق الخشبي من الحديد الفولاذ والثاني
من الفضة وقد كتبت في أعلاه أبيات من قصيدة ابن أبي الحديد، التي يقول
في أولها:
يا رسم لا رسمتك ريح زعزع وسرت بليل
في عراصك خروع
وأبيات من قصيدة السيد الحميري والتي مطلعها:
لأم عمرو باللوى مربع طامسة أعلامه
بلقع
وتعلو القبر الشريف قبة جميلة واسعة مرتفعة من قاعدة الروضة المقدسة
إلى 35 متراً ومحيط قاعدتها 50 متراً وقطرها حوالي 16 متراً، وللقبة 12
شباكاً، وهي مزينة بالقاشاني وما تحت الشبابيك بحوالي المتر، زينت
الجدران بأشكال مختلفة من المرايا البديعة.
وللروضة المطهرة ستة أبواب والباب الأول يقع في وسط الإيوان الذهبي
وقد نصب في حدود سنة 1219هـ وهو من آثار الحاج محمد حسين خان الأصفهاني
الصدر الأعظم، وقد استبدلت هذه الباب، بباب ذهبية مطعمة بالميناء
والأحجار الكريمة، متقنة الصنع، رائعة المنظر، قام بعملها وصياغتها
أمهر الصاغة في إيران، وفي أعلى الباب الرئيس كتابة نصها: قال الرسول
(ص) (علي مع الحق ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).
والباب الثاني والثالث اللذان يدخل منهما إلى الرواق إلى الحرم
المطهر فالذي يكون على يمين الداخل إلى الحرم نصب سنة 1283هـ في زمن
السلطان عبد العزيز، وكان الباذل لنفقته لطف علي خان الإيراني، والباب
الذي على يسار الداخل إلى المرقد الشريف نصب سنة 1287 هـ أيام زيارة
ناصر الدين القاجاري، وفي سنة 1376 هـ قلعا وأبدلا ببابين ذهبيين
جميلين رائعين، امتازا ببديع الصنعة والاتقان وكان الباذل لنفقتهما
المحسن الحاج محمد تقي الاتفاق الطهراني وبمسعى السيد محمد كلانتر.
وفي أعلى الباب كتابات هذا نصها:
قال الرسول (ص): أنا مدينة العلم وعلي بابها
– الحق مع علي وعلي مع الحق. علي حبه جنة. قسيم النار والجنة. وصي
المصطفى حقاً، يا علي، إمام الإنس والجنة.
وفي داخل الحرم بابان فضيان عند الرأس الشريف، أحدهما من جهة الشمال
نصب سنة 1316هـ وكانت الباذلة لنفقته بنت أمين الدولة زوجة علي شاه،
ونصب الآخر سنة 1318هـ وكان الباذل لنفقته الحاج غلام علي المسقطي،
ونصب في الرواق باب سادس محلى بالذهب سنة 1341هـ وموقعه قبال باب الصحن
الشريف القبلي، بذلت مصروفاته والدة الحاج عبد الواحد الحاج سكر زعيم
آل فتلة.
أما الصحن الشريف فيبلغ طول ضلعيه الشرقي والغربي 84 م وطول ضلعه
الشمالي 74م والجنوبي 75م وفي كل ضلع من ضلعيه الشمالي والشرقي خمسة
عشر إيواناً وفي كل من ضلعيه الغربي والجنوبي أربعة عشرة إيواناً وفي
كل إيوان حجرة هي مقبرة أحد المشاهير وقد شيدت هذه الحجرات لتكون مأوى
لطلاب العلم، أما الآن فقد أشغلت من قبل قراء القرآن الكريم على
المدفونين في تلك الحجر.
وللصحن الشريف خمسة أبواب، الباب الكبير وهو من جهة الشرق ويعتبر
الباب الرئيسي للروضة الحيدرية، وهو قبالة سوق النجف المشهور بالسوق
الكبير، والباب الثاني من جهة الشمال ويعرف بباب الطوسي نسبة إلى شيخ
الطائفة أبي جعفر محمد الطوسي المتوفي سنة 460هـ، وهذا الباب يؤدي إلى
شارع الطوسي وفيه مسجد الطوسي الذي يضم قبر الشيخ الطوسي رحمه الله.
والباب الثالث المعروف بباب القبلة، وقد عرف بهذا الإسم لوقوعه باتجاه
القبلة في الجهة الجنوبية من الصحن، والباب الرابع يقع في جهة الغرب،
فتح في أيام السلطان عبد العزيز العثماني سنة 1279هـ ويعرف بالباب
السلطاني، والباب الخامس وهو باب على مقربة من الباب الكبير.
وفي مشهد الإمام علي (ع) دفن الكثير من الشخصيات الإسلامية البارزة
من علماء وسلاطين وملوك ووزراء، تبركاً بالمكان المقدس وتقرباً من
المرقد الشريف الطاهر، ومن المشاهير الذين دفنوا بالقرب من الضريح
الشريف الأمير البويهي عضد الدولة المتوفى سنة 373هـ، كما دفن الأمير
شرف الدولة بن عضد الدولة المتوفى سنة 379هـ، وممن دفن في (المشهد) من
ولاة البويهيين بمنطقة الجبل وهمذان والدينور وبروجرد ونهاوند وأسد
آباد، بدر بن حسنويه، وكان مشهوراً بالشجاعة والسياسة والعدل، وهناك
العدد الكبير من الأمراء والوزراء البويهيين الذين دفنوا بالمشهد
الطاهر.
ودفن في المشهد الشريف، الشيخ حسن الكبير الجلايري المتوفى سنة
757هـ و الأمير قاسم، شقيق السلطان أويس المتوفى سنة 779هـ ودفن في
جوار والده الشيخ حسن الجلايري.
ودفن الشاه عباس الأول الصفوي في الرواق تحت القبة المقدسة التي
منها يدخل الداخل إلى الحرم الشريف من جهة رجلي الإمام علي (ع).
ونقل إلى النجف الأشرف جثمان السلطان محمد القاجاري المتوفى سنة
1211هـ ودفن في الرواق من جهة الشمال بالقرب من منبر الخاتم، وتعرف هذه
الحجرة اليوم بحجرة السلاطين، كما نقل إلى النجف جثمان الملك كيومرث
ميرزا الملقب بملك آراء ابن السلطان فتح علي القاجاري المتوفى سنة
1288هـ، كذلك نعش السلطان محمد حسن خان ونعش الملك حسين قلي خان ودفنوا
في النجف الأشرف.
ودفن في الإيوان الكبير، الملاصق للرواق وفي حجر الصحن عدد كبير من
كبار العلماء المسلمين منهم: المولى أحمد بن محمد المقدس الأردبيلي
المتوفى سنة 990هـ والشيخ أحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري
المتوفى سنة 1151هـ والشيخ محمد علي بن الحاج محمد الخونساري المتوفى
سنة 1254هـ، والسيد محمد مهدي بن السيد مرتضى بحر العلوم المتوفى سنة
1212هـ والشيخ مرتضى الأنصاري، والسيد أسد الله الأصفهاني أو الرشتي
والملا كاظم الخراساني المعروف (بالأخوند)، والسيد محمد سعيد الحبوبي،
والشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة، والميرزا النائيني، والسيد أبو
الحسن الأصفهاني المتوفى سنة 1376هـ ومدفنه في الحجرة الواقعة على
الجانب الأيسر بالنسبة للداخل إلى الصحن من الباب الكبير. وفي الحجرة
الأولى التي على يسار الخارج من باب الطوسي يرقد عدد من العلماء الكبار
أمثال محمد باقر القمي المتوفى سنة 1334هـ، وفي الحجرة الواقعة ما بين
مدخل الساباط وباب الصحن المؤدي إلى سوق العمارة، يرقد الشيخ ضياء
الدين العراقي المتوفى سنة 1361هـ.
ومن مشاهير من دفن في النجف شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن
علي بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ ودفن في داره بوصية منه.
أما عدد الملوك والأمراء والراجات الذين دفنوا في الرواق والصحن
الشريف والغرف المحيطة بالصحن فإنه كبير جداً.
وفي المدينة عدد غير قليل من مقابر المشاهير من الروحانيين والوجهاء
وكبار رجال الأدب، كمقبرة الشيخ جعفر الكبير، ومقبرة صاحب الجواهر،
ومقبرة الشيخ خضر شلال، ومقبرة الحاج ميرزا حسين الخليلي، ومقبرة آل
القزويني، وآل بحر العلوم ومقبرة المامقاني، ومدفن الشيخ أحمد كاشف
الغطاء، وآل الشيخ راضي، والشيخ عبد الكريم الجزائري.
وتعتبر مقبرة النجف المعروفة (بوادي السلام) من أوسع المقابر في
العالم، وتاريخ هذه المقبرة قديم قدم التعرف على مرقد الإمام علي بن
أبي طالب (ع). وتعتبر من أقدس وأطهر الأماكن لدفن المسلم في نظر
المسلمين عامة والشيعة منهم بشكل خاص، وتقع هذه المقبرة الواسعة في
شمال مدينة النجف، وتمتاز تربتها بأنها رملية ناعمة نقية، وتحتها
بحوالي 20 – 25 سم طبقة صخرية متكونة من صخور رملية قوية تسمح لحفر
اللحود فيها بصورة عمودية، وتمتاز أرض المقبرة بالجفاف التام باعتبارها
جزءاً من الهضبة الصحراوية الجافة، ولنقاوتها وجفافها، فهي تكون خالية
تماماً من العفونة ومن أي رائحة غير طيبة – قال إسحاق بن إبراهيم
الموصلي يمدح الواثق العباسي ويذكر النجف وتربتها التي يصفها بالمسك أو
العنبر، في قصيدته التي مطلعها:-
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف
والذين هاج (وادي السلام) – مقبرة النجف الكبرى شاعريتهم كثيرون وقد
يكون من الصعب الإحاطة بأسمائهم سواء من المتقدمين أو المتأخرين ومن
هؤلاء المتأخرين الشيخ علي الشرقي، ومحمد علي الحوماني، وعبد المنعم
الفرطوسي، ومحمد الخليلي، وحميد فرج الله وغيرهم.
اسماء النجف
1- بانقيا:
قال الحموي: بكسر النون، ناحية من نواحي الكوفة ذكرها في الفتوح.
وفي أخبار إبراهيم الخليل عليه السلام، خرج من بابل على حمار له ومعه
ابن أخيه لوط، يسوق غنماً، ويحمل دلواً على عاتقه حتى نزل بانقيا، وكان
طولها إثني عشر فرسخاً. وكانوا يزلزلون في كل ليلة، فلما بات إبراهيم
عندهم لم يزلزلوا. فقال لهم شيخ، بات عنده إبراهيم عليه السلام: والله
ما دفع عنكم إلا بشيخ بات عندي فإني رأيته كثير الصلاة، فجاؤوه وعرضوا
عليه المقام عندهم، وبذلوا له البذول، فقال: إنما خرجت مهاجراً إلى
ربي، وخرج حتى أتى النجف، فلما رآه رجع أدراجه، أي من حيث مضى،
فتباشروا وظنوا أنه رغب فيما بذلوا له، فقال لهم: لمن تلك الأرض؟ يعني
النجف، قالوا: هي لنا. قال: فتبيعونيها؟ قالوا: هي لك فوالله ما تنبت
شيئاً.
فقال: لا أحبها إلا شراء، فدفع إليهم غنيمات كن معه بها. والغنم:
يقال لها بالنبطية نقيا. فقال: أكره أن آخذها بغير ثمن، فصنعوا ما صنع
أهل بيت المقدس بصاحبهم وهبوا له أرضهم. فلما نزلت بها البركة رجعوا
عليه، وذكر إبراهيم عليه السلام: أنه يحشر من ولده من ذلك الموضع سبعون
ألف شهيد.
ولما رأى عليه السلام غدرهم به تركهم، ومضى نحو مكة في قصة لها طول.
وقد ذكرها الأعشى، فقال:
فما نيل مصر إذ تسامى عبابه ولا بحر
بانقيا إذا راح مفعما
بأجود منه نائلاً إنّ بعضهم إذا
سئل المعروف صد وجمجما
وقال أيضاً:
وقد سرت ما بين بانقيا إلى عدن
وطال في العجم تكراري وتسياري
وقال أبو الحسن أحمد بن يحيى البغدادي البلاذري، المتوفى سنة تسع
وسبعين ومائتين (279): لما قدم خالد بن الوليد العراق، بعث بشير بن سعد
أبا النعمان بن بشير الأنصاري، إلى بانقيا فلقيته خيل الأعاجم عليها
فرخبنداذ، فرشقوا من معه بالسهام، وحمل عليهم فهزمهم، وقتل فرخبنداذ،
ثم انصرف وبه جراحة انتقضت به، وهو بعين التمر فمات منها. ويقال: أن
خالداً ألقى فرخبنداذ بنفسه، وبشير معه. ثم بعث خالد جرير بن عبد الله
البجلي إلى أهل بانقيا، فخرج عليه بصبهرى بن صلوبا، فاعتذر إليه من
القتال وعرض الصلح فصالحه جرير على ألف درهم وطيلسان. ويقال: أن ابن
صلوبا أتى خالداً، فاعتذر إليه وصالحه هذا الصلح.
وقال: ليس لأحد من أهل السواد عهد إلا لأهل الحيرة، وأليس، وبانقيا،
فذلك قالوا: لا يصلح
بيع أرض دون الجبل إلا أرض بني صلوبا، وأرض الحيرة، وذكر إسحاق بن
بشير ابو حذيفة فيما قرأته، بخط أبي عامر العبدري بإسناده إلى الشعبي،
أن خالد بن الوليد، سار من الحيرة حتى نزل بصلوبا، صاحب بانقيا، وسميا،
على الف درهم وزن ستة، وكتب لهم كتاباً فهو عندهم إلى اليوم المعروف.
قال: فلما نزل بانقيا على شاطئ الفرات قاتلوه ليلة حتى الصباح.
وفي رواية أخرى أن خالداً لما نزل الحيرة، صالح أهلها، ولم يقاتلوا،
وقال ضرار بن الأزور الأسدي، يذكر بانقيا وجرحه بها أيام الفتح:
أرقت ببانقيا ومن يلق مثلما لقيت
ببانقيا من الجرح يأرق
والصواب أنهم قاتلوه فلما رأوا أنه لا طاقة لهم بحربه، طلبوا إليه
الصلح، فصالحهم وكتب لهم كتاباً فيه (بسم الله الرحمن الرحيم... هذا
كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن بصهبرى، ومنزله بشاطئ الفرات، إنك
آمن بأمان الله على حقن دمك في إعطاء الجزية عن نفسك، وجيرتك، وأهل
قريتك بانقيا، وسميا، على الف درهم جزية، وقد قبلنا منك ورضي من معي من
المسلمين بذلك، فلك ذمة الله وذمة النبي محمد (ص)، وذمة المسلمين، على
ذلك، شهد هشام بن الوليد، وجرير بن عبد الله ابن أبي عوف، وسعيد بن
عمرو، وكتب سنة 13، والسلام) ويروى أن ذلك كان سنة 12.
أما ابن الأثير فقال في حوادث سنة اثنتي عشرة: - ذكر مسير خلاد بن
الوليد إلى العراق، وصلح الحيرة – في هذه السنة في المحرّم منها، أرسل
أبو بكر خالد بن الوليد، وهو باليمامة يامره بالمسير إلى العراق. وقيل:
بل قدم المدينة من اليمامة فسيره أبو بكر إلى العراق، فسار حتى نزل
ببانقيا، وبار، وسما، وأليس، وصالحه أهلها. وكان الذي صالحه عليها ابن
صلوبا، على عشرة آلاف دينار، سوى حرزة كسرى، وكانت على كل رأس أربعة
دراهم، وأخذ منهم الجزية، ثم سار حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع
أياس بن قبيصة الطائي. وكان أميراً عليها بعد النعمان بن المنذر،
فدعاهم خالد إلى الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة، فاختاروا الجزية
فصالحهم على تسعين ألف درهم. فكانت أول جزية أخذت من الفرس في الإسلام
هي والقريات التي صالح عليها.
ومهما يكن من أمر فالنصوص التاريخية، والدينية، تدل بصراحة أن
بانقيا قرية بالكوفة، والمراد به ظهر الكوفة، وهو الغري.
2- الجودي:
ورد هذا الاسم في عدة أحاديث، جاءت على لسان أهل البيت عليهم
السلام، عند تفسيرهم لآية (وقيل يا أرض ابلعي مائك، ويا سماء أقلعي،
وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم
الظالمين)[1] فقالوا:
المراد من الجودي جبل في النجف استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، لما
نضب الماء وأصبح علماً لهذه البقعة الشريفة، وليس غيره ومن ذهب إلى غير
هذا المعنى فلا يعبأ بقوله لأنه الأصح.
وذهب جمع من المفسرين، واللغويين، أنه جبل مطل على جزيرة ابن عمر في
الجانب الشرقي، من دجلة من أعمال الموصل عليه استوت سفينة نوح (ع)،
مستدلين على صحة قولهم بما جاء في سفر التكوين، من الكتاب المقدس،
ولفظه: (ثم ذكر الله نوحاً وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك
وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه، وانسدت ينابيع الغمر وطاقات
السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً
متوالياً، وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر
السابع، في اليوم السابع عشر، من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه
تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر، وفي العاشر في أول الشهر ظهرت
رؤوس الجبال.
فذكروا أنه بديار بكر من الموصل، في جبال تتصل بجبال أرمينية، وقد
سماه في التوراة أراراط. قال في القاموس: والجودي، جبل بالجزيرة استوت
عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة (أراراط).
قال بطرس البستاني، في كلامه عن جبل (أراراط) وموقعه الطبيعي: ومن
الموافق أن نذكر آراء العلماء بخصوص الموضع الذي استوت عليه الفلك بعد
الطوفان كما هو مذكور في سفر التكوين. فقد ذهب بروزس الكلداني، معاصر
الإسكندر الأكبر، أن الفلك استوت على جبال كردستان، وهو حد أرمينية
الجنوبي، ووافقته في ذلك النسخ السريانية، والكلدانية التي ذكرت جبال
الأكراد عوضاً عن أراراط. ووافقه أيضاً القرآن الشريف[2]،
ولا تزال الروايات تشير إلى أن الجودي كان مركز الحادثة المذكورة، وهي
تسند هذا الرأي الذي ذكره بروزس إلى وجود آثار الفلك على قمة ذلك
الجبل.
3- الربوة
وهذا الاسم (الربوة) جاء أيضاً في أخبار أهل البيت عليهم السلام،
عند تفسيرهم لقوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى
ربوة ذات قرار ومعين)[3]،
فقد أورد المفسرون في تفاسيرهم أحاديث صحيحة، بأسانيد حسنة، دالة على
أن المراد من (الربوة) ظهر الكوفة النجف... كما أن المقصود من (المعين)
الفرات كما صرّح بذلك أيضاً بعض اللغويين وإليك ما جاء على لسان الأئمة
عليهم السلام.
حدثنا المظفر بن جعفر المظفر العلوي السمرقندي رضي الله عنه، قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن الحسين بن أشكيب، عن عبد الرحمن بن
حماد، عن أحمد بن الحسن، عن صدقة بن حسان، عن مهران بن أبي نصر، عن
يعقوب بن شعيب، عن سعد الإسكاف، عن ابي جعفر عليه السلام، قال: قال
أمير المؤمنين عليه السلام، في قول الله عز وجل: (وآويناهما إلى ربوة
ذات قرار ومعين) قال: الربوة، الكوفة، والقرار، المسجد، والمعين
الفرات.
وقال الصادق عليه السلام، في تفسير الآية المذكورة: الربوة، نجف
الكوفة. والمعين، الفرات.
4- الطور
وجاء (طور سيناء) وهو أيضاً من الأسماء التي وردت في أحاديث العترة
الطاهرة (ع) وقصدوا به بقعة النجف... وتناقلت كتب الحديث، هذه
الروايات، وصححوا أسانيدها، واخبتوا على توثيقها، واستدلوا بها وأذعنوا
إليها، وإليك بعضاً من نصوصها، مع تبيان أسانيدها الثابتة، وأن نقلها
بعضهم في بحوثهم مع حذف الأسانيد، وهذا ما لا أستسيغه لأن ذكر السند،
ورجال الحديث، يزيد في درجة الحديث واعتباره من ناحية الصحة والوثاقة.
علي بن إبراهيم، في معنى السورة قوله: (والتين والزيتون وطور سينين
وهذا البلد الأمين) التين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين
الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة.
وسينين، وسيناء واحد، ومعناه الجبل المبارك الحسن بلغة النبط.
ومعنى طور سيناء جبل البركة، وهو ما بين مصر وايلة، وفي أخبارنا
إشارة إلى أن طور سيناء نجف الكوفة، وأنه الموضع الذي فيه مشهد امير
المؤمنين عليه السلام.
وقال مؤلف كتاب (معارف الرجال) عند ترجمته للمولى عبد الله اليزدي
النجفي المتوفى 981هـ، والمعروف المتسالم عليه أنه أتى به السلطان
الشاه عباس الأول الصفوي الموسوي من إيران إلى العراق، ليتولى نقابة
الحرم المقدس، وسلمه مفاتيح الحرم والخزانة الكبيرة... وبنى له الشاه
عباس مدرسة في النجف في الجانب الشمالي الغربي منها، وسماها بمدرسة
الآخوند، تقع في محلة المشراق، حوالي دور السادة آل كمونة، والمدرسة
اليوم أعني سنة 1295هـ اندرست آثارها، وجلب له الطيور من الهند
المعروفة عند العامة في النجف بطيور (الحضرة) تارة و(الطورانية)
أخرى... نسبة إلى قطعة جبل يسمى بجبل الطور عند قدماء النجفيين، حيث أن
هذه الطيور كانت تألف له دائماً. يقع هذا الجبل حول بلد النجف من شرقيه
إلى الشمال، يقرب من خندق سور النجف الأخير غطاه تراب عمارة البلد
اليوم.
5- ظهر الكوفة
من الأسماء المعروفة المتداولة، بين أرباب الرواية، والدراية،
واللغويين، والمؤرخين، لشهرته الكبيرة الواسعة وكثرة وقوعه في كلامهم،
ويمتاز بإشاعته ووروده في أحاديث أهل البيت عليهم السلام، وفي كتب
المتقدمين... وإليك ما جاء في هذا الباب من الأحاديث الصحيحة الثابتة،
ومن ورائها كلمات اللغويين، والمؤرخين:
قال غياث الدين السيد ابن طاووس: رأيت في كتاب عن الحسن بن الحسين
ابن طحال المقدادي، قال: روى الخلف عن السلف، عن ابن عباس ان رسول الله
(ص) قال لعلي عليه السلام: يا علي، إن الله عز وجل عرض مودتنا أهل
البيت على السموات، فأول من أجاب منها السماء السابعة، فزينها بالعرش
والكرسي، ثم السماء الرابعة، فزينها بالبيت المعمور. ثم السماء الدنيا
فزينها بالنجوم ثم أرض الحجاز فشرفها بالبيت الحرام. ثم ارض الشام
فشرفها ببيت المقدس. ثم أرض طيبة فشرفها بقبري. ثم ارض كوفان، فشرفها
بقبرك يا علي.
فقال يا رسول الله: أقبر بكوفان العراق؟ فقال: نعم يا علي، تقبر
بظاهرها قتلاً بين الغريين، والذكوات البيض، وهذا خبر حسن كاف في هذا
الموضع ناطق بالحجة والبرهان.
روى أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمان العلوي
الحسيني، في كتاب (فضل الكوفة) بإسناد رفعه إلى عقبة بن علقمة أبي
الجنوب، قال: اشترى أمير المؤمنين علي (ع) ما بين الخورنق إلى الحيرة
إلى الكوفة من الدهاقين، بأربعين ألف درهم، وأشهد على شرائه، قال: فقيل
له يا أمير المؤمنين، تشتري هذا بهذا المال، وليس تنبت قط؟ فقال: سمعت
من رسول الله (ص) يقول: كوفان يرد أولها على آخرها، يحشر من ظهرها
سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، واشتهيت أن يحشروا في ملكي.
أقول: هذا الحديث فيه إيناس بما نحن بصدده، وذلك أن ذكره ظهر
الكوفة، إشارة إلى ما خرج عن الخندق، وهي عمارة آهلة إلى اليوم، وإنما
اشترى أمير المؤمنين (ع) ما خرج عن العمارة إلى حيث ذكروا. والكوفة
مصرت سنة سبع عشرة من الهجرة، ونزلها سعد في محرمها، وأمير المؤمنين
دخلها سنة ست وثلاثين، فدل على أنه اشترى ما خرج عن الكوفة الممصرة
بدفنه بملكه أولى، وهو إشارة إلى دفن الناس عنده، وكيف يدفن بالجامع
ولا يجوز أو بالقصر، وهو عمارة الملوك ولم يكن داخلاً في الشراء لأنه
معمور من قبل.
خاتم العلماء نصير الدين، عن والده، عن السيد فضل الله الحسني
الراوندي، عن ذي الفقار بن نعبد عن الطوسي، ومن خطه نقلت عن المفيد، عن
محمد بن أحمد بن داود، عن محمد بن بكار، عن الحسن بن محمد الفزازي، عن
الحسن بن علي النحاس، عن جعفر الرماني، عن يحيى الحماني، عن محمد بن
عبيد الطيالسي، عن مختار التمار، عن أبي مطر، قال: لما ضرب ابن ملجم
الفاسق أمير المؤمنين (ع) قال له الحسن (ع): أقتله؟ قال: لا، ولكن
أحبسه، فإذا مت فاقتلوه. فإذا مت فادفنوني في هذا الظهر في قبر أخوي،
هود، وصالح.
علي بن محمد عن علي بن الحسن، عن الحسين بن راشد، عن المرتجل بن
معمر، عن ذريح المحاربي، عن عباية الأسدي، عن حبة العرني، قال: خرجت مع
أمير المؤمنين إلى ظهر الكوفة، فوقف بوادي السلام، كأنه مخاطب لأقوام،
فقمت بقيامه حتى أعييت، ثم جلست حتى مللت، ثم قمت حتى نالني مثل ما
نالني أولاً، ثم جلست حتى مللت ثم قمت وجمعت ردائي، فقلت يا أمير
المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ثم طرحت الرداء
ليجلس عليه فقال يا حبة: إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته. قال: قلت
يا أمير المؤمنين، وإنهم لكذلك؟ قال: نعم لو كشف لك لرأيتهم حلقاً
حلقاً، محتبين يتحادثون، فقلت: أجسام أم أرواح؟ فقال: أرواح وما من
مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه، الحقي بوادي السلام،
وإنها لبقعة من جنة عدن.
عن سهل، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن عمر، رفعه عن أبي عبد الله (ع)
قال: قلت له إن أخي ببغداد، وأخاف أن يموت بها، فقال: ما تبالي حيث ما
مات أما أنه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها، إلا حشر الله روحه إلى
وادي السلام. فقلت له: واين وادي السلام؟ قال: ظهر الكوفة، أما إني
كأنهم بهم حلق حلق قعود يتحدثون.
أقول: روى السيد علي بن عبد الحميد في كتاب الغيبة بإسناده إلى
الفضل ابن شاذان، من أصل كتابه بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة، قال: خرج
أمير المؤمنين عليه السلام إلى ظهر الكوفة فلحقناه، فقال: سلوني قبل أن
تفقدوني، فقد ملئت الجوانح مني علماً، كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت
ابتديت، ثم مسح بيده على بطنه، وقال: أعلاه علم، وأسفله ثفل. ثم مر حتى
أتى الغريين فلحقناه، وهو مستلقي على الأرض بجسده، ليس تحته ثوب فقال
له قنبر: يا أمير المؤمنين ألا أبسط تحتك ثوبي؟ قال: لا هل هي إلا تربة
مؤمن ومن أحمته في مجلس فقال الأصبغ: تربة المؤمن قد عرفناها كانت أو
تكون، فما من أحمته بمجلسه؟ فقال: يا ابن نباتة لو كشف لكم لألفيتم
أرواح المؤمنين في هذه حلقاً حلقاً يتزاورون ويتحدثون، إن في هذا الظهر
روح كل مؤمن، وبوادي برهوت روح كل كافر. ثم ركب بغلته.
عن بدر بن خليل الأسدي، عن رجل من أهل الشام، قال: قال أمير
المؤمنين صلوات الله عليه، أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة، لما
أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة.
وروى أن أمير المؤمنين (ع) نظر إلى ظهر الكوفة فقال: ما أحسن منظرك
وأطيب قعرك، اللهم أجعل قبري بها.
من خواص تربته إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون
هناك، كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت.
6- الغري أو الغريان
يعتبر في طليعة الأسماء المتداولة الشائعة، لبقعة النجف عند كافة
طبقات أهل الفضل والمعرفة، لكثرة وروده في معاجم الحديث، وقواميس
اللغة، وكتب التاريخ، والأدب إلى جانب ما في اللغة العربية على قسميها،
الدارجة، والفصحى، في التحقيق، والبحث، والشعر على اختلاف أغراضه
وفنونه... بالإضافة إلى أن الكثيرين من أهالي مدينة الغري المقدسة، منذ
القدم يضيفون إلى أسمائهم كلمة (الغروي) و(النجفي) ويتخذوه لقباً لهم
ولعائلتهم وذراريهم، ليشعروا الآخرين والأجيال، من أنهم ينتسبون إلى
بلد الغري، أما من جهة الولادة، أو من ناحية الدراسة، والتوطن
والإقامة... فكما يقال على سبيل المثال: الرازي... الأصفهاني...
اللبناني... السوري... نسبة إلى البلدة، كذلك النسبة إلى الغري،
والنجف، وهذا ما لا مشاحة فيه ولا يفتقر إلى توضيح وشرح.
ونهجنا في متابعة هذا الموضوع، تبيان بعض الروايات الدينية التي
جاءت بخصوص (الغري) أو (الغريان) وأن المراد منه بقعة النجف. ومن ثم
عرض كلمات اللغويين، والمؤرخين، والأدباء فيه.
روي أن أمير المؤمنين (ع) لما حضرته الوفاة قال للحسن، والحسين (ع):
إذا أنا مت فأحملاني على سرير، ثم اخرجاني واحملا مؤخر السرير، فإنكما
تكفيا مقدمه ثم أتيا بي الغريين، فإنكما ستريان صخرة بيضاء فاحتفروا
فيها فإنكما تجدان فيها شيئاً فادفناني فيه. قال: فلما مات أخرجنا
وجعلنا نحمل بمؤخر السرير، ويكفي مقدمه وجعلنا نسمع دوياً وحفيفاً حتى
أتينا الغريين فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً.
ويقول ياقوت الحموي بهذا الصدد: - الغريان تثنية الغري، وهو المطلى
بالغراء ممدود. وهو الغراء الذي يطلى به. والغري فعيل بمعنى مفعول.
والغري الحسن من كل شيء يقال رجل غري الوجه، إذا كان حسناً مليحاً.
فيجوز أن يكون الغري مأخوذاً من كل واحد من هذين. والغري نصب[4]
كان يذبح عليه العتائر[5]
والغريان طربلان، وهما بناءان كالصومعتين بالكوفة قرب قبر علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. إلى أن قال بعد حديث طويل:
وأن الغريين بظاهر الكوفة، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء
السماء، وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد، يقال لأحدهما
خالد بن نضلة، والآخر عمرو بن مسعود، فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض
كلامه فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة، ودفنهما حيين.
فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك، وقصد حفرتهما
وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان. فقال المنذر: ما أنا بملك إن
خال الناس أمري. لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما وجعل لهما في
السنة يوم بؤس، ويوم نعيم. يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه، ويغرى بدمه
الطربالين فإن رفعت له الوحش طلبتها الخيل، وإن رفع طائر أرسل عليه
الجوارح، حتى يذبح ما يعن ويطليان بدمه. ولبث بذلك برهة من دهره، وسمى
أحد اليومين يوم البؤس وهو اليوم الذي يقتل فيه ما ظهر له من إنسان
وغيره، وسمي الآخر يوم النعيم يحسن فيه إلى كل من يلقى من الناس
ويحملهم ويخلع عليهم.
وبعد أن ذكر قصة طويلة عن المنذر قال:
وروى الشرقي، قال: الغري الحسن من كل شيء. وإنما سميا الغريين
لحسنهما. وكان المنذر قد بناهما على صورة غريين كان بعض ملوك مصر
بناهما. وقرأت على ظهر كتاب شرح سيبويه للمبرد، بخط الأديب عثمان بن
عمر الصقلي النحوي الخزرجي ما صورته: وجدت بخط أبي بكر السراج، رحمه
الله على ظهر جزء من أجزاء كتاب سيبويه، أخبرني أبو عبد الله اليزيدي،
قال: حدثني ثعلب، قال: مر معن بن زائدة بالغريين فرأى أحدهما وقد شعث
وهدم فأنشأ يقول:
لو كان شيء له أن لا يبيد على
طول الزمان لما باد الغريان
ففرّق الدهر والأيام
بينهما وكل ألف إلى بين وهجران
ويظهر من نصوص بعض كتب السير والتاريخ، أن أحد البناءين هدم أمر
بهدمه المنصور لكنز توهم أنه تحتهما فلم يجد شيئاً، ولم يبق حتى اسمه،
وبقي الآخر وهو القائم المائل كما في بعض الأحاديث والقائم المنحني كما
في بعض آخر، وهو الوجه في تسمية البقعة باسم (الغري) بالأفراد.
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني المتوفى 110هـ، وهو آخر من
مات من الصحابة، يذكر الغريين:
الا طرقتنا بالغريين بعد ما
كللنا على شحط المزار جنوب
أتوك يقودون المنايا
وإنما هدتها بأولانا إليك ذنوب
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار القرار
نصيب.
وروي أن الفرزدق نزل بالغريين، فعراه بأعلى ناره ذئب فأبصره مقعياً
يصيء، ومع الفرزدق مسلوخة فرمى إليه بيده فأكلها، فرمى إليه بما بقي
فأكله، فلما شبع ولّى عنه فقال:
وليلة بتنا بالغريين ضافنا على
الزاد موشي الذراعين أطلس
تلمسنا حتى أتانا ولم يزل لدن
فطمته أمه يتلمس
فلو أنه إذا جاءنا كان دانيا
لألبسته لو أنه يتلبس
ولكن تنحى جنبة بعدما دنا فكان
كقاب القوس أو هو أنفس
فقاسمته نصفين بيني وبينه بقية
زاد والركائب نعس
وكان ابن ليلى إذ قرى الذئب
زاده على طارف الظلماء لا يتعبس.
ومر أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي، في جيشه بالغري، وبالحاير،
فلم يعرّج على واحد منهما ولا دخل ولا وقف.
وقد جاء ذكر (الغري) وأنها مدفن الإمام أمير المؤمنين (ع) في الأدب
العربي بصورة مبسوطة أودعها الشعراء في قصائدهم خلال القرون المتمادية،
وتراهم في أشعارهم يحنون إليها ويتشوقون إلى معاهدها، ويتمنون لشم
تربتها المقدسة، والتوطن والمجاورة بها، من حيث الفضل والقداسة والبركة
والرحمة والمغفرة والإحسان والمحبة، والفضيلة المتجمعة فيها لتضمنها
البدن المعظم.
وإليك بعض الشواهد من الشعر القديم على سبيل المثل، لا على سبيل
الانتقاء والاختيار وعلى سبيل الإحصاء والجمع، ذلك لأن تأليف وجمع ما
ورد عن اسم الغري، والنجف، والمشهد، ووادي السلام... كناية وتصريحاً
لتعجز عن جمعه دواوين ضخمة ..
قال أبو محمد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي... من الشعراء المجيدين
والمكثرين ومن حملة الحديث ورواة نوادره، وفي طليعة رجال الرواية، ومن
أصحاب الإمام الصادق (ع) وزميل السيد الحميري المولود سنة 105 والمتوفى
178هـ. وكان السيد الحميري، يقول: أنا أشعر الناس إلّا العبدي، في
قصيدته البائية.
يا راكبا جسرة تطوي مناسمها
ملاءة البيد بالتقريب والجنب
تقيد المغزل الأدماء في
صعد وتطلح الكاسر الفتحاء في صبب
بلغ سلامي قبراً بالغري
حوى أو في البرية من عجم ومن عرب
واجعل شعارك لله الخشوع به
وناد خير وصي صنو خير نبي
وقال أبو علي دعبل بن علي بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد
الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، المقتول ظلماً وعدواناً سنة 246هـ:
سلام بالغداة وبالعشي على
جدث بأكناف الغري
ولا زالت عزالى النوء تزجي إليه
صبابة المزن الروي
ألا يا حبذا ترب بنجد
وقبر ضم أوصال الوصي
وصي محمد بأبي وأمي
وأكرم من مشى بعد النبي
الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن
أحمد ابن إدريس الطالقاني، المتوفى 358هـ وكان في طليعة الأمراء
والفقهاء، والمحدثين، والشعراء، والفصحاء، والبلغاء. افرد غير واحد من
رجال التأليف كتاباً في ترجمته. فقد ذكر الغري في أرجوزتين له، قال في
واحدة:
يا زائراً قد قصد المشاهدا وقطع
الجبال والفدافدا
فأبلغ النبي من سلامي ما لا
يبيد مدة الأيام
حتى إذا عدت لأرض الكوفة البلدة
الطاهرة المعروفة
وصرت في الغري في خير وطن سلم على خير
الورى أبي الحسن
7- اللسان
من أسماء النجف غير المشهورة ولا المتداولة، ولم يكن عنه أثر ولا
ذكر في الأحاديث الدينية، وكتب التاريخ والأدب، وإنما تفرد به بعض
اللغويين، والمؤرخين، مع العلم بأنه لم يكن مستعملاً كغيره من أسماء
النجف الأشرف. وإليك النصوص الواردة بشأنه:
قال ياقوت الحموي: (وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين
النهرين إلى العين عين بني الجراء. فما كان يلي الفرات منه فهو
الملطاط، وما كان يلي البط منه فهو النجاف.
واللسان، لسان البر الذي أدلعه في الريف عليه الكوفة اليوم، والحيرة
قبل اليوم. قالوا: لما أراد سعد تمصير الكوفة أشار عليه من رأى العراق
من وجوه العرب باللسان.
وسميت هذه الأرض المتعادية التي منها النجف (النجاف) وكأنه جمع
النجفة، وهي التي تلي الصحراء، ويقابلها مما يلي الفرات الملطاط.
وقال في موضع آخر: (الملطاط بالكسر ثم السكون، وتكرير الطاء
المهملة، قال ابن النجار، في كتابة الكوفة: وكان يقال لظهر الكوفة
اللسان، وما ولي الفرات منه الملطاط) ..
وقد جاء ذكر الملطاط في خطبة علي عليه السلام، عند المسير إلى الشام
فقال: أما بعد فقد بعثت مقدمتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم
أمري) فقال ابن أبي الحديد: الملطاط شاطئ الفرات.
وذكره ابن الأثير عز الدين، فقال في حوادث سنة ثلاث وثلاثين: - وفي
هذه السنة سير عثمان نفراً من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك
أن سعيد بن العاص، لما ولاه عثمان الكوفة، حين شهد على الوليد بشرب
الخمر أمره أن يسير الوليد إليه، فقدم سعيد الكوفة، وسير الوليد وغسل
المنبر، فنهاه رجال من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك فلم يجبهم
واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية، وقراء أهل الكوفة فكانوا هؤلاء
دخلته إذا خلا، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه فدخلوا عليه يوماً
فبيناهم يتحدثون، قال حبيش بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة ابن عبيد
الله؟ فقال سعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً. والله
لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغيداً. فقال عبد الرحمن بن حبيش،
وهو حدث: والله لوددت أن هذا الملطاط لك يعني لسعيد وهو ما كان
للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة.
8- المشهد
هذا الاسم وإن كان مشتركاً بين بقعة النجف، وبين بقاع أخرى إلا أنه
أصبح خاصاً بالنجف لشهرته وكثرة وقوعه في الكلام. والمشهد، معناه مجمع
الخلق ومحفلهم، وكل مكان يشهده الإنسان وتحتشد فيه الجموع، ولما كانت
المراقد المقدسة في كل بقعة وبلدة، مزدحمة بالوافدين ومحتشدة بالزائرين
من جميع النقاط والجهات الشاسعة والقريبة، عرفت بالمشاهد، فيقال: مشهد
الإمام أمير المؤمنين (ع)، ومشهد الإمام الحسين (ع)، ومشهد الإمام موسى
بن جعفر (ع)، ومشهد الإمام الرضا (ع)، غير أن إطلاق كلمة المشهد على
النجف أكثر، وإطلاقه عليه أظهر، كما جاء في الأحاديث الدينية، بحيث كاد
أن يختص به، ولهذا يقال في النسبة إليه المشهدي، كما يقال: الغروي،
والنجفي.
وقد كان الاسم هذا (المشهد) متداولاً وشائعاً في التاريخ قديماً
وحديثاً، وجاء في أحاديث المحدثين، والرواة وقصائد الشعراء، وكلمات
المؤرخين، والأدباء بصورة واضحة، وإليك النصوص الدينية، والتاريخية،
والأدبية الناطقة به.
حدثني الحسين بن محمد بن مصعب الزراع، وأخبرني أبو الحسين زيد بن
علي ابن محمد بن يعقوب بن زكريا بن حرب الشيباني الخلال، قراءة عليه،
في رحا أبي أيوب بالكوفة، قال: أخبرني الحسين بن محمد، عن مصعب إجازة
عنه، قال الحسين ابن مصعب الزراع: حدثني محمد بن الحسين بن ابي الخطاب،
قال: حدثني صفوان ابن علي البزاز، قال: حدثني صفوان الجمال، إنه قال:
خرجت مع الصادق (ع) من المدينة اريد الكوفة، فلما جزنا باب الحيرة، قال
يا صفوان: قلت لبيك، يا ابن رسول الله، قال: تخرج المطايا إلى القائم
وجد الطريق إلى الغري، قال صفوان فلما صرنا إلى قائم الغري، أخرج رشاء
معه دقيقاً قد عمل من الكنبار ثم تبعد من القائم مغرباً خطى كثيرة ثم
مد ذلك الرشاء حتى انتهى إلى آخره. فوقف ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخرج
منها كفاً من تراب فشمه ملياً، ثم اقبل يمشي حتى وقف على موضع القبر
الآن، ثم ضرب بيده المباركة إلى التربة فقبض منها قبضة ثم شهق شهقة حتى
ظننت أنه فارق الدنيا، فلما أفاق، قال: ها هنا والله مشهد أمير
المؤمنين (ع).
ثم خط تخطيطاً، فقال: يا ابن رسول الله ما منع الأبرار من أهل بيته
من إظهار مشهده؟ قال: حذراً من بني مروان، والخوارج أن تحتال في أذاه.
وذكر محمد بن المشهدي، في مزاره أن الصادق (ع) علم محمد بن مسلم
الثقفي، هذه الزيارة، وقال: إذا أتيت مشهد أمير المؤمنين، فاغتسل غسل
الزيارة وألبس أنظف ثيابك.
وقال ابن أبي الحديد، عند ترجمته لأبي القاسم علي بن الحسين
المغربي: قال أبو جعفر (يحيى بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة) وكان
أبو القاسم المغربي، ينسب في الأزد، ويتعصب لقحطان على عدنان، وللأنصار
على قريش... فقد كتب القادر إلى شرف الدولة بإلقاء القبض عليه اتصل
الخبر بأبي القاسم قبل وصول الكتاب إلى شرف الدولة، فهرب ليلاً ومعه
بعض غلمانه وجارية كان يهواها ويتحظاها، ومضى إلى البطيحة ثم منها إلى
الموصل، ثم إلى الشام، ومات في طريقه. فأوصى أن تحمل جثته إلى مشهد
علي، فحملت في تابوت ومعها خفراء العرب حتى دفن بالمشهد بالقرب منه
عليه السلام.
وقد عبر عز الدين علي بن محمد بن الأثير، عن النجف في كثير من مواضع
تاريخه بالمشهد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الاسم هذا كان
متداولاً ومعلوماً عند الأقدمين قال:
- في شوال اشتدت علة عضد الدولة، وهو ما كان يعتاده من الصرع فضعفت
قوّته عن دفعه فخنقه فمات منه ثامن شوال ببغداد، وحمل إلى مشهد أمير
المؤمنين علي عليه السلام فدفن به.
- في هذه السنة (379) توفى الملك شرف الدولة ابو الفوارس شيرزيل بن
عضد الدولة مستسقياً، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام
فدفن به.
- وكان الوزير أبو الحسن المغربي، قد سار من مشهد علي عليه السلام،
إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب فسير جيشاً.
9- النجف
يكاد أن لا تعرف تربة بقعة الإمام أمير المؤمنين (ع) باسم، من بين
شتى أسماءها إلا بالنجف... منذ القدم إلى يومنا هذا، وإن اشتهارها به
أظهر من بقية الأسماء السالفة، لذلك كان أكثر استعمالاً ووقوعاً في
الأحاديث الدينية، وكلمات اللغويين، والمؤرخين، والرحالين، والشعراء،
والأدباء، وعند سواد الناس من الرجال والنساء بصورة عامة، على اختلاف
طبقاتهم، ونحلهم، ولغاتهم، وجنسياتهم. حتى أن أكثر المصنفات التي
تناولت دراسة النجف، وتبيان تاريخها وجوانبها نجدها مشفعة عناوينها
باسم النجف، مع ذكرهم لواحد من أسماءها، أمثال: كتاب شعراء الغري أو
النجفيات... وفرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين (ع) في النجف...
ومشهد الإمام أو مدينة النجف... إلى غيره من المؤلفات التي يطول بنا
الحديث إذا ما توخينا ذكرها ففي كتب الفهارس نماذج مفصلة منها.
وإليك بيان بعض الأحاديث الدينية التي جاءت فيها اسم النجف...
محمد بن علي بن الحسن العلوي في كتاب (فضل الكوفة) بإسناد رفعه إلى
عقبة ابن علقمة أبي الجنوب، قال: اشترى أمير المؤمنين (ع) ما بين
الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة. وفي حديث ما بين النجف إلى الحيرة إلى
الكوفة، من الدهاقين بأربعين ألف درهم وأشهد على شرائه.
ابن أبي قرة عن محمد بن عبد الله عن إسحاق بن محمد بن مروان، عن
أبيه عن علي بن سيف بن عميرة، عن أبين عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (ع)
قال: كان أبي علي بن الحسين (ع) قد اتخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين
بن علي (ع) بيتاً من شعر، وأقام بالبادية فلبث بها عدة سنين كراهية
لمخالطة الناس وملابستهم. وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق
زائراً لأبيه وجده (ع). ولا يشعر بذلك من فعله. قال محمد بن علي: فخرج
سلام الله عليه متوجهاً إلى العراق لزيارة أمير المؤمنين (ع) وأنا معه
وليس معنا ذو روح إلا الناقتين. فلما انتهى إلى النجف من بلاد الكوفة،
وصار إلى مكان منه فبكى حتى اخضلت لحيته بدموعه.
أبو القاسم بن سعيد، عن شمس الدين فخار الموسوي، عن شاذان بن
جبرئيل، عن محمد بن القاسم، عن الحسن، عن أبيه محمد بن الحسن، عن
المفيد، عن الصدوق، عن ماجيلويه، عن عمه، عن البرقي، عن أبيه، عن ابن
أبي عمير، عن صفوان عن الصادق (ع) قال: سار وأنا معه في القادسية حتى
أشرف على النجف، فقال: هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدي نوح (ع) فقال:
(سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) فأوحى الله عز وجل إليه، أيعتصم بك مني
أحد؟ فغار في الأرض وتقطع إلى الشام. فقال (ع): اعدل بنا فعدلت به فلم
يزل سائراً حتى أتى الغري، فوقف على القبر، وقال: هذا قبر جدي علي بن
أبي طالب (ع).
حدثنا علي بن أحمد بن محمد رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن أبي
عبد الله الكوفي، عن موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسن بن يزيد
النوفلي، عن علي ابن أبي حمزة، عن ابي النعمي، عن أبي عبد الله (ع)،
قال: إن النجف كان جبلاً، وهو الذي قال ابن نوح: (سآوي إلى جبل يعصمني
من الماء) ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه، فأوحى الله عز وجل
إليه، يا جبل أيعتصم بك مني؟ فتقطع قطعاً قطعاً إلى بلاد الشام، وصار
رملاً دقيقاً وصار بعد ذلك بحراً عظيماً. وكان يسمى ذلك البحر (ني) ثم
(جف) بعد ذلك، فقيل: ني جف فسمى بنجف. ثم صار الناس بعد ذلك يسمونه
نجف، لأنه كان أخف على ألسنتهم.
هذا وإن أكثر الأحاديث الدينية التي وردت في اسم الغري، هي بعينها
التي جاءت في اسم النجف... ننتقل إلى قواميس اللغة، لنقرأ كلمات
اللغويين، والمؤرخين في هذا الاسم.
النجف اسم عربي، ومعناه (المنجوف) كالعدد بمعنى المعدود، قال ابن
فارس، النون، والجيم، والفاء أصلان صحيحان، أحدهما يدل على تبسيط في
شيء مكان أو غيره. والآخر يدل على استخراج شيء. فالأول، النجف مكان
مستطيل منقاد، ولا يعلوه الماء، والجمع نجاف. ويقال: هي بطون من الأرض
في أسافلها سهولة تنقاد في الأرض، لها أودية تنصب إلى لين من الأرض،
ويقال لابط الكثيب نجفة الأرض. ومن الباب النجيف من السهام العريض،
ونجفت السهم بريته. كذلك وأصلحته وسهم منجوف ونجيف وغار منجوف واسع.
قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: النجف، والنجفة بالتحريك،
مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد، والجمع نجاف وأورد بعد ذلك كبعض ما
نقلناه آنفاً.
وقال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري: وفي بطن الوادي نجفة ونجف،
وهي مكان مستطيل كالجدار لا يعلوه الماء.
وجاء في لسان العرب: النجفة أرض مستديرة مشرفة، والجمع نجف ونجاف.
ابن سيده: النجف، والنجاف شيء يكون في بطن الوادي، شبيه بنجاف
الغبيط جنداً، وليس بجد عريض له طول منقاد من بين معوج ومستقيم الماء،
وقد يكون في بطن الأرض... والنجفة شبه التل... وقال الليث: النجفة تكون
في بطن الوادي، شبه جدار ليس بعريض... ابن الأعرابي: النجفة، المسناة،
والنجف التل. قال الأزهري: والنجفة التي بظهر الكوفة، وهي كالمسناة
تمنع ماء السيل أن يعلو منازل الكوفة ومقابرها.
وقال الفيروز آبادي: النجف، محركة وبهاء (النجفة) مكان لا يعلوه
الماء مستطيل منقاد، وقد يكون في بطن الوادي، وقد يكون ببطن من الأرض،
جمعه نجاف أو هي ارض مستديرة مشرفة على ما حولها، والنجف محركة، التل،
والمسناة، ومسناة بظاهر الكوفة تمنع ماء السيل أن يعلو مقابرها
ومنازلها.
وقال المطرزي في المغرب: النجف بفتحتين كالمسناة بظاهر الكوفة على
فرسخين منها، يمنع ماء السيل أن يعلو منازلها ومقابرها، ومنه قول
القدوري، كان الأسود إذا حج قصر من النجف وعلقمة من القادسية.
وقال ابن الأثير: وفي الحديث، أي رب قدمني إلى باب الجنة فأكون تحت
نجاف الجنة... قيل: هو اسكفة الباب. وقال الأزهري: هو دروندة. يعني
أعلاه. والنجفة: شبه التل. وفي حديث عمرو بن العاص، أنه جلس على منجاف
السفينة، قيل: هو سكانها الذي تعدل به. سمي به لارتفاعه.
وقال الخوري الشرتوتي: النجاف بالكسر مصدر. وفي الأساس على بابه
نجاف، وهو ما بنى فوق الباب مشرفاً عليه كنجاف الغار. ونجاف الغار،
صخرة ناتئة تشرف عليه، النجف: محركة مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد،
ويكون في بطن الوادي، وقد يكون في بطن من الأرض. والنجفة: محركة النجف،
للمكان المذكور والمسناة. ومسناة بظواهر الكوفة، تمنع ماء السيل أن
يعلو مقابرها ومنازلها.
وقال ياقوت الحموي: النجف بالتحريك... وهو بظهر الكوفة كالمسناة،
تمنع مسيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها. وبالقرب من هذا الموضع قبر
أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرته الشعراء في
أشعارها فأكثرت.
وقال أبو الفداء الملك المؤيد إسماعيل بن علي. في وصف الحيرة: -
والحيرة مدينة جاهلية كثيرة الأنهار، وهي عن الكوفة على نحو فرسخ.
والحيرة على موضع يقال له النجف، زعم الأوائل أن بحر فارس كان يتصل به
وبينها اليوم مسافة بعيدة.
10- وادي السلام
من أسماء النجف المشهورة، هذا الاسم الذي ورد في بعض الأحاديث
الدينية، وعلى لسان بعض الأئمة عليهم السلام، وقد اختصت هذه البقعة
المقدسة بفضل الدفن فيها، والتختم بحصبائها، وجوارها المقدس. وثبت لها
مزية على سائر بقاع الأئمة (ع) من رفع عذاب القبر عمن دفن بها وعدم
سؤال منكر، ونكير في البرزخ، وأنها محشر أرواح المؤمنين... وطار صيتها
في آفاق الشيعة في حياة أمير المؤمنين (ع)، وبعد وفاته أخذت الشيعة
باختلاف فرقها، تقبر موتاها بتلك التربة الطاهرة، قبل أن يقبر بها
مشرفها (ع) وتنقلهم إليها من الأقطار النائية، رغم وعثاء السفر ومشقة
الطريق، ومؤونة النقل، فهم مع هذه المشاق والمتاعب يتفانون في نقل
موتاهم إليها طمعاً في خلاصهم من العذاب ورجاء لشفاعته (ع) لهم.
لذلك يمكن القول بصراحة أن وادي السلام، من اكبر وأوسع مقابر
العالم، وأن النجف بمجموعها مقابر ومدافن، وسراديب البيوتات القديمة
وغرفها مكتظة بالأموات، وقد حدث هذا خلال محاصرة الروم للنجف سنة
1032هـ، حين تحصن أهلها داخل البلد، وأغلقوا الأبواب ومنعوا من الدخول
والخروج، أخذت الناس تقبر موتاهم في بيوتهم، وكذلك خلال الحوادث
الدامية التي اجتازت النجف في القرون الأربعة الأخيرة.
........................................................
[2]
- ليس في القرآن الكريم ما يثبت وجود بل أراراط (الجودي) في
موضع خاص.
[4]
- النصب: حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية ويتخذونه صنماً
فيعبدونه، ويذبحون عليه فيحمر بالدم.
[5]
- العتائر، جمع العتيرة، وهي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام،
فيصب دمها على رأسها.
|