مفهوم الثقافة
الثقافة بعناصرها وآفاقها تشكل نوراً يضيء أمام الإنسان سبل الحياة،
ويجعله يرى الأمور بمصباح العقل ويضاء في دروبها طريقة التعامل مع
الأشياء والقضايا المختلفة..
إنها (الثقافة) دعوة مستمرة للمعرفة والفهم والوعي. وبالتالي فإنها
تكتنز قدرة خلاقة، تمكن المرء من تحويل طاقاته وإمكاناته إلى إنجازات
وأفعال ترجع بالفائدة عليه وعلى وطنه ومجتمعه وربما يصح على ضوء هذه
الحقيقة قول (هوريو) في الثقافة من أنها ذلك الذي نحتفظ به حينما ننسى
ما تعلمناه.. من هنا تعتبر نتاجاً لبعدين أساسيين:
1) نتاج لتراكم تاريخي يعيش عبر عدة أجيال، ويضيف كل جيل ويلغي، بما
يتناسب وظروفه ومحيطه الاجتماعي والحضاري .
2) نتاج معاصر، فهي أيضاً نتاج للتفاعل الاجتماعي القائم، وبرغم
كونها (الثقافة) نتاجاً للتفاعل إلا أنها بمجرد تشكلها، فإنها تتحول
إلى هذا التفاعل لتشكله حسب قوالبها الخاصة، وتضبط سلوكياته وترفعها في
اتجاهات محددة.. لهذا فإن لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية،
ولها توازناتها الذاتية المستمدة من معطى المنابع والمصادر الأصلية
لهذه الثقافة، ومعطى الواقع وتفاعلاته، لذلك فإن لكل ثقافة شخصية
متميزة عن الثقافة الأخرى .
لهذا فإنه من الطبيعي أن يتعدد مفهوم الثقافة بتعدد الأيدلوجيات
والانتماءات المعرفية المختلفة حتى بلغت نحو (160) تعريفاً، حسب رأي
عالم الأنثربولوجيا الفرد كروبر وكلاسكهون.. ومن هنا تنبع أهمية تحديد
مفهوم الثقافة، باعتباره يشكل الأرضية والقاعدة التي تنطلق منها جميع
المناشط الثقافية .
والثقافة في منظور علماء الإنسان الأنثربولوجيا هي: المضاف الإنساني
إلى حالات الطبيعة.. أي كل المكتسبات والإنجازات النظرية والعملية التي
أنتجها الإنسان في تاريخه الاجتماعي .
وعرفت الثقافة في قاموس أكسفورد بأنها: الاتجاهات والقيم السائدة في
مجتمع معين، كما تعبر عنها الرموز اللغوية والأساطير والطقوس وأساليب
الحياة ومؤسسات المجتمع التعليمية والدينية والسياسية .
ويعرف (إدوارد تايلور) الثقافة في كتابه "الثقافة البدائية" الذي
نشره في عام (1871م) بأنها: هذا الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة
والاعتقاد والفن والحقوق والأخلاق والعادات، وكل قدرات وأعراف أخرى
اكتسبها الإنسان كفرد في مجتمع .
ويفرق الكاتب (وليام اوجبرن) في الثقافة بين مجالين، يطلق على
أحدهما الثقافة المادية وعلى الأخرى الثقافة المتكيفة.. فالمجال الأول
يضم في رأيه الجانب المادي من الثقافة أي مجموع الأشياء وأدوات العمل
والثمرات التي تخلقها.. ويضم المجال الثاني الجانب الاجتماعي كالعقائد
والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم، وهذا الجانب الاجتماعي
هو الذي ينعكس في سلوك الأفراد .
وعرفت المنظمة العالمية (اليونسكو) (UNESC) الثقافة بقولها: أن
الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها على أنها جميع السمات
الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة
اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرق الحياة كما تشمل الحقوق
الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات.
وعلى هذا فإن الثقافة تعني كل ما ينتجه المجتمع من نتاج مادي أو
معنوي .
كيف ينظر مالك بن نبي إلى مفهوم
الثقافة؟
بعد أن ينتقد بن نبي مفهوم الثقافة في المدرسة الغربية والمدرسة
الاشتراكية، ويحدد رؤيته لمفهوم الثقافة بقوله: فالثقافة إذن تتعرف
بصورة علمية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية
التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه،
والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وهذا
التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس
حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، وهكذا نرى أن هذا
التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي معطيات
الإنسان ومعطيات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه
المعطيات في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تجرها الشرارة
الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات (1).
وانطلاقا من هذا المفهوم للثقافة ووظيفتها المجتمعية يقوم بن نبي
بربطها بالتاريخ والتربية حتى تشكل الثقافة نسقاً متكاملاً .
فالثقافة هي أولا محيط معين، يتحرك في حدوده الإنسان، فيغذي إلهامه
ويكيّف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل والثقافة (جو) من الألوان
والأنغام والعادات والتقاليد والأشكال والأوزان والحركات، التي تطبع
على حياة الإنسان اتجاها وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته،
ويغذي طاقاته الخلاقة.. إنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي
يحوطه.. وعلى ضوء هذه الحقيقة عرّف (مالينوفسكي) الثقافة بأنها: الحرف
الموروثة والسلع والعمليات الفنية والأفكار والعادات والقيم والبناء
الاجتماعي، والمواثيق التي تتعاهد الجماعات المختلفة والأفكار والأعراف
فهي كل ما نعيشه وكل ما نلاحظه، أو هي باختصار كل ما يتعلق بعملية
تنظيم بني البشر في جماعة .
مشكلة الثقافة
تقوم مشكلة الثقافة على تحديد يشمل أساساً الناحيتين الحيوية
والتربوية، فالثقافة في مهمتها التاريخية، تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة
الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي
تصون الحيوية والتوازن في الكائن كما تكون جهاز مقاومته الذاتية .
وان مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه
الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو
بصفة عامة قوة في الأساس وتوافق في السير، ووحدة الهدف فكم من طاقات
وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم
تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه متجهة إلى الهدف
نفسه .
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت فهناك ملايين السواعد
العاملة، والعقول المفكرة في البلاد العربية والإسلامية، صالحة لأن
تستخدم في كل وقت والمهم أن ندير هذا الجهاز الهائل المكوّن من ملايين
السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية، وهذا الجهاز حين
يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساساً فكرة
توجيه الإنسان وإرشاده نحو المأمول..
وبلغة الاجتماع: الإنسان الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى الجماعة
ومعنى الكفاح، وليس يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً، بل يجب أن نوجهها
طبقاً لمهمتها الاجتماعية المتحدة التي نريد تحقيقها .
يقول توماس هوبزان أن الثقافة في أحد معانيها ومفاهيمها تعني: عمل
يبذله الإنسان لغاية تطويرية، وحسب رأي ماثيوارنولد من أن الثقافة تقوم
بعملية الارتقاء نحو الكمال الإنساني، وتتم بتمثل أفضل الأفكار التي
عرفها العالم، وبتطوير الخصائص الإنسانية المميزة. لذلك فإن الثقافة
عامل مهم من عوامل رقي المجتمعات وتقدم الأمم.. وحتى تمارس الثقافة
دورها النهضوي والتطويري في المجتمع من الضروري تحديد عناصر الثقافة
لإنجاح مهمتها في المجتمع .
عناصر الثقافة
وعناصر الثقافة عند مالك بن نبي الآتي:
التوجيه الأخلاقي: لسنا هنا نهتم بالأخلاق من الزاوية الفلسفية ولكن
من الناحية الاجتماعية وليس المقصود هنا تشريع مبادئ خلقية بل نحدد قوة
التماسك اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، هذه القوة
مرتبطة في أصلها بغريزة الحياة في الجماعة عند الفرد، والتي تتيح له
تكوين القبيلة والعقيدة والمدنية والأمة وتستخدم القبائل الموغلة في
البداوة هذه الغريزة لكي تتجمع. والمجتمع الذي يتجمع لتكوين حضارة فإنه
يستخدم نفس الغريزة ولكنه يهذبها ويوظفها بروحية خلقية سامية.. هذه
الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها من نزول الأديان،
عندما تولد الحضارة ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض .كما
يشير القرآن الكريم (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما
ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ).
التوجيه الجمالي: لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن
لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صورة
قبيحة لابد أن يظهر أثر هذه الصورة في أفكاره وأعماله ومساعيه والأفكار
بصفتها روح الأعمال التي تعبّر عنها أو تسير بوحيها، إنما تتولد من
الصورة المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من
يعيش فيه، وهنا تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره فالجمال الموجود في
الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح، وحركات وأشكال، يوحي
للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل، أو السماجة
القبيحة.. فالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في
نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل وتوخياً للكريم من العادات.
المنطق العملي: لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله
ووضعت قواعده منذ أرسطو وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله
ومعانيه، وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً بغير مقياس يستمد معاييره
من واقع الوسط الاجتماعي وما يشمل عليه من إمكانيات أنه ليس من الصعب
على الفرد المسلم أن يصوغ مقياساً نظرياً يستنتج به نتائج من مقدمات
محددة غير أنه من النادر جداً أن نعرف المنطق العملي أي استخراج أقصى
ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق
العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا غير أن العقل
التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون
معدوماً. وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في
افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه بين سياسة ووسائلها، بين
ثقافة ومثلها، وبين فكرة وتحقيقها فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا
تعرف مثلها العليا، وأن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة
نخطوها.
الصناعة (الفن التطبيقي): لا نعني بالصناعة ذلك المعنى الضيق
المقصود به اللفظ بصفة عامة في البلاد الإسلامية فإن كل الفنون والمهن
والقدرات وتطبيقات العلوم تدخل في مفهوم الصناعة ومن المسلَّم به أن
الصناعة للفرد وسيلة لكسب عيشه وربما لبناء مجده ولكنها للمجتمع وسيلة
للمحافظة على كيانه واستمرار نموه .
وهذه العناصر الأربعة تتكامل لكي تشكل نسقاً يبدأ من الفكرة وينتهي
بالإنتاج، وينبغي القول في هذا الإطار أن اختلاف مضامين الثقافات يؤدي
إلى اختلاف الآثار على المستوى المجتمعي .
فإذا كانت مضامين الثقافة صالحة - دينامية - فإن هذه الثقافة ستكون
عاملا مهماً من عوامل النهوض بالحياة الاجتماعية. وإذا كان مضمون
الثقافة فاسداً سيئاً فإنها ستؤثر على فاعلية المجتمع وتجعل النمو
الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً .
ويعلمنا التاريخ أن عالم الأفكار هو الأساس في عملية النهوض الحضاري
لأي مجتمع، بمعنى أن بقاء نظام الأفكار سليماً وفاعلاً سوف ينقل
المجتمع إلى الواقع الأحسن. ويشير إلى هذه المسألة (بن نبي) بقوله: لقد
أرانا تاريخ ألمانيا الحديث، كيف أن بلداً شهد الانهيار الكامل لعالم
أشيائه قد استطاع باحتفاظه بعالم أفكاره أن يبني كيانه من جديد .
وتأتي العناصر الثقافية التي قام ببلورتها (مالك بن نبي) في إطار
البحث عن أطر علاجية للمشكل الحضاري الذي تعانيه الأمة العربية
والإسلامية إذ سعى إلى بلورة المشروع الثقافي الفكري، الذي يقاوم خطر
التحلل والاندثار الحضاري التي كانت تعانيه الأمة من جراء المرحلة
الاستعمارية البغيضة وتداعياتها المختلفة على مستوى الأمة أجمع.. لهذا
فإن الجهد الفكري والنظري الذي بذله (بن نبي) كان بمثابة خط الدفاع
الأول اتجاه حركة التفكك الطاحنة التي كان يتعرض لها المجتمع العربي -
الإسلامي .
ويأتي اهتمام (بن نبي) بالثقافة وضروراتها في البناء الحضاري لما
تشكل من أهمية قصوى لأنها تلخص تجربة المجتمع ووعيه بذاته ومحيطه. وجاء
هذا الاهتمام في زمن بدأ الابتعاد التدريجي عن ما هو ثقافي ودوره
التاريخي والحضاري، إلى ما هو سياسي كنظرية وممارسة.. "وهكذا يمكن
القول أن الاهتمام بالثقافة لذاتها، أي لما تعبر عنه وما تمثله في
النسق الاجتماعي بقي اهتماما ضعيفاً في العالم العربي واعتبرت الثقافة
بشكل عام أقل قيمة في إحداث التغيير الاجتماعي من العوامل السياسية
والاقتصادية، بالرغم من حصول المناقشة كلها تقريباً في الميدان
الثقافي، ولم يهتم الدارسون العرب بالثقافة إلا من زاوية ما تستطيع أن
تقدمه من دعم للممارسة السياسية أو الاجتماعية" (2) .
لهذا فإن اهتمام (بن نبي) بالثقافة أعاد لها الاعتبار ووضح دورها في
النهضة ووظيفتها المعرفية والاجتماعية، وهو بهذا لا يعزل الثقافة كأفق
وحركة عن حقل الحضارة والعلاقة مع الآخر الحضاري، كما انطلق (بن نبي)
في بلورة نظريته الثقافية، من واقع اتصال الثقافة بالحضارة واعتبارها
أحد الحقول المهمة للحضارة .
لهذا كله فإن الثقافة ميدان أساسي، ينبغي أن نوليه العناية الفائقة
وبالخصوص في هذه الحقبة من الزمن الذي كثر فيه الحديث عن النظام الدولي
الجديد.. والعناية بهذه الثقافة من الضروري أن تصل إلى مستوى التجديد
والإبداع الثقافي. لأن بقاءنا نستهلك الثقافات والأفكار التي صنعها
الغير في ظروف مختلفة عن ظروفنا، يحولنا إلى امة جامدة لا تستطيع بناء
نفسها بما ينسجم ومتطلبات العصر، فضلاً على أن التجديد الفكري
والثقافي، هو الذي يكشف عن عوامل الحركة والتطور ويعمقها في البناء
الاجتماعي .
وأخيراً إذا أدرك الإنسان العربي والمسلم أهمية الثقافة ودورها في
الوجود الاجتماعي، فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في
نهايات القرن العشرين . (يتبع)
خصائص النظرية الثقافية
إن التطورات والتغيرات السريعة التي تجري في بقاع العالم قاطبة،
تؤكد علينا جميعاً ضرورة القيام بمراجعة فكرية - ثقافية، نكتشف من
خلالها أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الأصلية كخطوة أولى في سبيل إعادة
تأسيس لمفاهيمنا ومقولاتنا الفكرية والثقافية، لكي نشارك بفكر فاعل
وثقافة ناهضة في تطورات العالم ومنعطفاته الحضارية .
وبما أن المسألة الثقافية تلخص تجربة الأمة والمجتمع، ووعيها بذاتها
ومحيطها فهي تشكل نافذة أساسية يطل من خلالها المرء على العالم وأحداثه
وتطوراته. وعن طريق الجهاد الفكري والمعرفي تتحول الثقافة في محيطنا
الخاص والعام إلى ثقافة فاعلة وإيجابية، وتنقل الكتل البشرية المختلفة
من موقع الصمت السلبي أو الاستهلاك الدائم، إلى موقع المشاركة
الإيجابية في مسيرة المجتمع والوطن .
وتأسيساً على هذه الحقائق من الأهمية بمكان أن نتعرف على خصائص
النظرية الثقافية عند ( مالك بن نبي ) لما تشكله هذه الخصائص من جوهر
كتاباته وإنتاجه الثقافي وبنود وأركان مشروعه الثقافي - الفكري.. وهذه
الخصائص هي كالآتي :
1- التجديد والإبداع:
وتتجلى هذه الخاصية، حينما يتحدث (بن نبي) عن شروط الحضارة ويقول:
أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية - مشكلة الإنسان - مشكلة
التراب - مشكلة الوقت - فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس
المنتجات وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها.
وحتى تؤتي هذه العناصر ثمارها، لابد من وجود مركب الحضارة وذلك فإن
مجموعها ناتج للإنسان والتراب والوقت، فلم لا يوجد هذا الناتج تلقائياً
حيثما توفرت هذه العناصر الثلاثة؟
وإنه لعجب يزيله اقتباسنا للتعليل الكيماوي.. فالماء في الحقيقة
نتاج للهيدروجين والأوكسجين وبرغم هذا لا يكونانه تلقائياً، فقد قالوا
إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقضي تدخل (مركب) ما، بدونه لا تتم
عملية تكون الماء.. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: إن هناك ما يطلق عليه
(مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها
ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي نجد أن هذا المركب موجود فعلاً،
هو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ .
ويوضح بن نبي هذه العناصر كالتالي :
الإنسان: إن المشاكل التي تحيط بالإنسان تختلف باختلاف بيئته..
فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة بل مشاكل متنوعة تبعاً لتنوع مراحل
التاريخ.. فلا يمكن لنا أن نقرن في الوقت الحاضر (بتعبير مالك بن نبي)
بين رجل أوروبا المستعمر ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار، لأن
كليهما في طور تاريخي خاص به.. فالأمر في الحالة الأولى يتعلق بحاجات
غير مشبعة وديناميكية، مضطربة، على حين يتعلق في الأخرى بعادات راكدة
وضعت للفرد في حالة توازن خامد، وخمول تام، في الوقت الذي خطت فيه
الحضارة خطوات العماليق. وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في
أساسهما، فهنالك هم في حاجة إلى مؤسسات بينما نحتاج هنا إلى رجال، فمن
الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها. ومشكلة الإنسان في أساسها لا
تعالج إلا بتوجيه ثقافته، وتصفية العادات والتقاليد الميتة في نفسيته
وتنمية روح الإبداع لديه.
التراب: وهو أحد العناصر الثلاثة التي تكّون الحضارة فإذا ما توفر
المركب الديني لتركيب هذه العناصر فإننا نرى التراب في بلاد الإسلام
جديراً ببحثه كعامل من عوامل الحضارة وحينما نتكلم عن التراب لا نبحث
في خصائصه وطبيعته ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية وهذه
القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة
الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب عالي القيمة وحيث تكون الأمة
متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط .
الوقت: بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج وهو معنى
الحياة الحاضرة الذي ينقصنا هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد وهو مفهوم
الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط في تكوين المعاني والأشياء
فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان ولا يزال يفوتنا قطارهما، فنحن
في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا ويشير عمر
كامل مسقاوي إلى الإبداع الثقافي عند بن نبي بقوله: فقد جاءت أفكار بن
نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة لم تألفها المصطلحات المستوردة التي
تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي أو في أطار الفكر الاشتراكي
التقدمي لذا شعر أستاذنا مالك بن نبي بالحاجة إلى جميع أفكاره حول
الثقافة وعرضها من جديد، في صورة تحليلية تحفز الفكر العربي والإسلامي،
وتحركه باتجاه اكتشاف الحقائق والمصطلحات بوسائل خاصة ووفق المعطيات
النابعة من تجربته.
وتتجلى قيمة الإبداع من الإنتاج الفكري لدى مالك بن نبي حينما يقول:
"إن التاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، وإنما بفتح
دروب جديدة.. ولا يتحقق ذلك إلا بأفكار صادقة تتجاوب مع جميع المشاكل
ذات الطابع الأخلاقي وبأفكار فعاله لمواجهة مشكلات النماء في مجتمع
يريد إعادة بناء نفسه".
والتجديد الثقافي الذي ينشده مالك بن نبي في العالم العربي
والإسلامي يتحقق بطريقتين:
1- سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
2- إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة.
ويضرب (بن نبي) على ذلك بمثال من واقع الثقافة الغربية إذ يقول
"ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتنا حيث
كان توما الاكويني - ولو كان عن غير قصد منه لتكون الأساس الفكري
للحضارة الغربية ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين إلا
مظهرا للتجديد السلبي حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة
إسلامية أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية. واتى بعده (ديكارت)
بالتجديد الإيجابي الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الطريق
الذي بني على المنهج التجريبي. والذي هو في الواقع السبب المباشر بتقدم
الحضارة الحديثة تقدمها المادي .
2- تكامل الأصالة والمعاصرة:
إذ من الأخطاء العميقة التي وقع فيها الكثير من الكتاب والمثقفين،
أن عطاءهم الفكري والثقافي، انطلق إما من موقع تراثي لا يرى في العلم
الحديث ومكتسبات العصر ما يستحق الذكر والاستفادة منه .أومن مواقع
القطيعة مع الثقافة الذاتية، والوقوف على أرضية الثقافة الغربية
ومفاهيمها.. وكلا الموقعين قد ضّيعا المسألة الجوهرية في هذا المضمار:
التراث المنغلق.. ضيع مكاسب العصر وإنجازاته، والمغترب المتعالي قد ضيع
تاريخه وقيم مجتمعه الجوهرية.. وانطلاقا من منطق الإلغاء والنفي كل
منهما للآخر فقد" تحول النقاش إلى تبادل للاتهامات، وأصبحت براهين
الطرفين وحججهما واحدة تقريباً في الشكل والمضمون ومنهج الحوار، رغم
اختلاف الحقب وتبدل السياق التاريخي والاجتماعي والفكري فقد أخذ أصحاب
الحداثة على خصومهم تخلف تفكيرهم ومعاداتهم للتقدم وضلوعهم نتيجة ذلك
موضوعياً مع القوى التي تريد للمجتمع العربي أن يبقى في حالة الانحطاط
التي هو فيها..
وما لبث هذا الاتهام أن تحول إلى اتهام بالتآمر مع الغرب ومشاركته
في إضعاف المقاومة العربية. ودرج الأصوليون بالمقابل من إسلاميين
خالصين أو إسلاميين عروبيين على اعتبار فكر الحداثة والتحديث امتداد
لفكر الغرب ووصموهم بالنقل عن المستشرقين والضلوع معهم في التآمر على
الثقافة العربية، ونظروا إليهم على أنهم طابور خامس يساهم في تأكيد
الغزو الروحي والسياسي والاقتصادي للغرب وتوسيعه". وظل عطاء الكثير من
الكتاب والمفكرين حبيس هذه المساجلات والاستقطابات المتبادلة بين
التيارين.. بينما العطاء الثقافي الذي أوجده بن نبي قد تميز بتكامل كلا
العنصرين.. إذ لا يمكن المقايضة بين التاريخ والحاضر.. وتتضح مسألة
تكامل الأصالة والمعاصرة في فكر مالك بن نبي من خلال فهمه لمفهوم
الحضارة، باعتبارها قدرات تنبثق من إمكانات الداخل العربي والإسلامي،
وليست هي مجموع المظاهر الاستهلاكية للحضارة.. إذ يقول: "الحضارة ليست
شيئاً يأتي به سائح في حقيبته لبلد مختلف كما يأتي بائع الملبوسات
البالية.. بل إن ابن المستعمرات هو الذي يذهب إلى الحضارة، إلى مصادرها
البعيدة.. وقبل كل شيء إلى مصادرها الأقرب إلى أصالته، وليس الحضارة في
نية المستعمر ولو صحت هذه النية، بل هي نتيجة الجهد الذي يبذله كل يوم
الشعب الذي يريد التحضر" .. وهو بهذا يرد على أولئك الذين يعتقدون أن
محاكاة الغرب وتقليده في كل شيء هو سبيل التحضر وامتلاك ناصية الحضارة
وتتضح هذه المسألة جلياً أيضا في النتاج الثقافي ل (بن نبي) حينما يقول
في كتابه شروط النهضة: لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان
أمته ومركزها.. بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته
مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو
الغرب، فإن ذلك تضييعاً للجهد ومضاعفة للداء.. إذ كل تقليد في هذا
الميدان جهل وانتحار وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ناتجة عن
فكرة معينة تؤرخ ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي
ندرسها فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية،
ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية.
ومجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات،
لأن أي حل ذا طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائما على عناصر لا توزن..
ولا يمكن تعريفها ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف، على حين تعد ضمنا
جزءا منه لا يستغني عنه، عندما تطبق في ظروف عادية أي في ظروف البلاد
التي نستورد منها وإذن فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية،
ينبغي ألا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا
إذ أن الصيغة المقتبسة صحيحة بلا أدنى شك ولكن في إطارها الاجتماعي في
محيطها الذي تحققت فيه، نفحة الروح التي تخيلتها .
3- المنهجية والفاعلية:
وهي عبارة عن القدرة الفذة التي تميز بها مالك بن نبي في إبراز
مشكلة العالم المتخلف باعتباره قضية حضارة أولا وقبل كل شيء.. ويكشف
لنا (بن نبي) عن منهجيته الفذة حين حديثه عن الدورة الخالدة إذ يقول:
"إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو
يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق
بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني
الحضارات أو تهدمها، وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام
الماضي والحضارات المستقبلية إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر
القرون إلى نهاية الزمن". والمنهجية في فكر بن نبي لا تعني الجمود
والترهل على المستوى الفكري والعملي، وإنما أسند بن نبي فكره المنهجي
بفعالية وديناميكية تتصف بها معالجاته لشؤون الثقافة والحضارة.. إذ
يقول: فالفكرة من حيث كونها فكرة ليست مصدراً للثقافة أعني عنصراً
صالحاً لتحديد سلوك ونمط معين من أنماط الحياة، فإن فاعليتها ذات علاقة
وظيفية بطبيعة علاقاتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها
مستوى قد يتغير بطريقتين: فهو عندما يرتفع تعرض له في الطريق أفكار
ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية فإذا بهذه
الأفكار تتقادم ثم تختفي ..ففكرة حجر الفلاسفة التي كانت من أكبر دوافع
الفكر العلمي خلال العصر الوسيط، هذه الفكرة قد ماتت منذ أعلن
(لافوازييه) نتائج أبحاثه الكيميائية.. وهو عندما يهبط تنقطع من منابع
خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي
وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي". ولكي يكون عطاء الثقافة فعالاً ومستديما،
لابد من أن نوثق الصلة الضرورية بين الفرد وعالم الأفكار وعالم الأشياء
وعالم العناصر والظواهر الطبيعية .
إن توثيق صلة عالم الأشخاص بهذه العوالم هو الكفيل بخلق واقع
اجتماعي جديد. . من خلال هذه الخصائص الثقافية نجد أن المشروع الفكري ل
(مالك بن نبي) (1905- 1973م) اتجه إلى المشكلة الأصلية والأساسية في
العالم العربي والإسلامي.. ولهذا فقد عاشت فكرة الحضارة في عقله
ووجدانه وشغلت تفكيره في كل كتاباته، إلى درجة نستطيع أن نقول معها أن
الفكر الإسلامي المعاصر لم يشهد تقريباً مفكرا شغلته قضية الحضارة مثل
(مالك بن نبي)، الذي يعتبر شخصية فكرية خصبة جديرة بالدراسة، وهو
المفكر الذي اهتم بالجانب الحضاري وفلسفة التاريخ والاجتماع وشغلته
مشكلات أمته فعالجها بروح موضوعية" .
فمشكلة الحضارة هي مشكلة العالم العربي والإسلامي الجوهرية ،ولذلك
اهتم بن نبي بها وركز جهوده الفكرية والنظرية في سبيل بلورة الرأي،
واقتراح الحلول لتجاوز هذه المشكلة الحضارية. ويشير إلى هذه المسألة
مالك بن نبي نفسه بقوله: أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري
واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن ، هي مشكلة الحضارة وكيفية
إيجاد الحلول الواقعية لها، وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف
المعنوي، أعني تخلف القيم أو إهمالها، ولقد شعرت منذ فترة طويلة وعلى
وجه التحديد منذ وصولي إلى أوروبا لتلقي العلم عام ( 1930م) أن
المجتمعات المعاصرة بالغة التعقيد ومتعددة الأنواع .
ويتجه عطاء بن نبي الثقافي والفكري نحو إدخال العالم العربي
والإسلامي في دورة حضارية جديدة وإعادة الشعوب العربية والإسلامية إلى
حلبة التاريخ. |