عودة تركيا إلى حضارة اقرأ كان تقدميا وأنموذجا ينبغي أن يحتذي به
على الرغم من موجة التغريب التي هبت زمن الحقبة الأتاتوركية ووصاية
العسكر الطويلة على هذا الإرث واستماتتهم في الدفاع على مبادئ
العلمانية الشاملة التي التصقت بتلك الحقبة وعلى رغم خشية البعض من
المؤرخين من ردة الفعل العنيفة التي قد يلجئ إليها المجتمع بعد تصاعد
أسهم السلفيين والتيار الصوفي ورغبتهم في استعادة مجد آل عثمان
بحذافيره.
ولكن بروز حزب العدالة والتنمية ونجاحه الباهر في الانتخابات
وقدرته على تصريف أعمال الأمة التركية بكل اقتدار وتحقيقه لإنجازات
كبيرة في وقت قياسي قد كذب كل التوقعات المرتابة والتشكيكات المتوجسة
وبرهن أن توظيف الدين ليس دائما وأبدا يصير توظيفا رجعيا انتهازيا
يتعارض مع المدنية والعصر بل يمكن أن يكون توظيفا تنويريا تأصيليا
يقاوم الفساد ويزرع الفلاح والرشاد لكل مجتمع يتطلع إلى النمو والرقي
ويقضي على التوتر والاضطراب.
وما يلفت الانتباه أن هذا الحزب تبنى النهج العلماني الجزئي ودافع
بكل ضراوة عن الطريقة الديمقراطية في تسيير شؤون الحكم ومارسها والتزم
بها في كل مناهج الحياة وآمن باستقلالية المؤسسات وحيادية الإدارة.
وما يثير الدهشة أن تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية انفتحت على
العالم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا فأعلنت عن رغبتها المتجددة للانضمام
للإتحاد الأوربي وترأست هرم منظمة المؤتمر الإسلامي بل لم تكن غائبة عن
القمم الأخيرة التي نظمتها جامعة الدول العربية وأبرمت اتفاقات تعاون
مع دول آسيا الوسطى وإيران وباكستان وبرهنت أنها دولة ذات سيادة عندما
منعت الجيش الأمريكي من أن يستعمل أجوائها للعدوان على العراق ولطفت
صراعها مع اليونان بكل دبلوماسية ودافعت عن حقوق الأتراك في شمال قبرص
وفي البلقان وبدأت تجهز نفسها للرحلة إلى أدغال إفريقيا من أجل تصدير
نموذجها في التنمية إلى تلك البلدان عبر بعض المؤسسات النقدية
والجمعيات التعاونية الثقافية.
بيد أن العرب أمام كل هذه التحولات ظلوا غير مكترثين وحذرين فهم
مازالوا ينظرون إلى الترك كنظام إمبراطوري استعماري غزا أرضهم باسم
الإسلام وحكمهم بالحديد والنار لعدة قرون ومنعهم من النهضة واللحاق
بالغرب وصار رجلا مريضا ومحل أطماع كل الأمم المجاورة، فهم حسب العرب
سبب ضياع فلسطين وجلب اليهود وزرع الكيان الصهيوني في العمق
الاستراتيجي وسبب تسارع نسق الانتداب البريطاني والاستعمار الفرنسي
الذي رسم حدود اصطناعية وخلق دويلات وهمية ويتحجج بعض العرب بأن تركيا
تخلت عن اللغة العربية واستبدلتها باللغات الأوروبية وألغت دولة
الخلافة كمؤسسة رمزية تمثل الرابطة الروحية لكل المسلمين في العالم
وأقامت مكانه نظام علماني فيكتوري يفصل بين الدين والدولة وبين الشريعة
والحياة،زيادة على أن تركيا مازالت تحتل أراض عربية مثل إقليم
الاسكندرونة السوري ولها أطماع في الموصل وكركوك تتنافس فيها مع إيران
وأمريكا وإسرائيل.
إن هذه الرؤية رغم وجاهتها في القرن العشرين إلا أنها لم تعد صالحة
للتحليل اليوم في مستهل القرن الواحد والعشرين لأن المعطيات الموضوعية
قد تغيرت والخارطة الجيوسياسية للمنطقة قد تبدلت ومن الأفضل بالنسبة
للعرب أن تكون الأمة التركية إلى جانب الأمة العربية وليس ضدها أو
متحالفة مع غيرها فكيف نلوم الأتراك على تحالفهم مع إسرائيل والدول
العربية لم تبادر إلى الاستفادة من التجربة السياسية والحضارية التركية
ولم تقتدي بها بل ساندوا اليونان وتحالفوا معها ضد من يشاركهم في
التاريخ والدين والحضارة.
من يفسر لنا اليوم من القوميين العرب تلك المسيرات المليونية التي
خرجت في أنقرة واسطنبول مساندة لانتفاضة الفلسطينيين ورافضة العدوان
الغربي على العراق ورافعة أعلام الولاء والانتماء إلى حضارة اقرأ وأمة
القرآن،ألم يعد الأتراك اليوم أحرص على مستقبل العرب من أنفسهم ومن
حكامهم لوعيهم أن الضرر الحاصل للعرب سيمسهم ولإدراكهم خطورة المرحلة
وحجم الكارثة التي ستحل بالمنطقة لو تتفكك الأمة العربية أكثر مما هي
عليه الآن مفككة ،ألم يتحالف العرب مع الاستعمار ضد الإمبراطورية
العثمانية وسموا ذلك ثورة عربية كبرى في حين أن الذي حصل هو مساعدة
مجانية من أجل المزيد من التوسع الاستعماري الاستيطاني في المنطقة
العربية.
غير أن ما طرأ في الآونة الأخيرة من مستجدات في الساحة التركية
واحتدام الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين على السلطة يطرح العديد من
التساؤلات ويثير عدة نقاط استفهام ويضع مستقبل هذا الكيان الديمقراطي
الناشئ على المحك ويحرك همة البحث حول وجهة الأمة التركية وحول أحقية
الإسلام السياسي المعتدل والتنموي في قيادة الدول وتحمل مسؤولية
مصيرهم.
من البين أن الظاهرة الأوردغانية جاءت لتحل محل الظاهرة الأربكانية
حيث نجح حزب العدالة والتنمية بعد أن تدارك الأخطاء التي كان قد وقع
فيها حزب الرفاه أو الفضيلة غير أن طموح الإسلاميين الأتراك للوصول إلى
سدة الرئاسة هو طموح زاد عن اللزوم في عيون رجال الجيش من حراس
العلمانية الشاملة وفي عيون الطبقة السياسية المتربصة من حزب الشعب
واليسار التركي والاتجاه الليبرالي فقد صوت النواب غير موالين لحزب
العدالة والتنمية ضد ترشيح عبد الله غول لمنصب رئاسة الجمهورية لأنه
إسلامي ولأن زوجته تردي الحجاب ورفضت المحكمة الدستورية الاحتكام إلى
البرلمان في مرة ثانية وتداولت الأنباء بعض التصريحات النارية المهددة
والمتوعدة ورد رجب الطيب أوردغان بإمكانية الاحتكام إلى الشعب وتنظيم
انتخابات مباشرة وليس فقط التصويت في البرلمان لاختيار رئيس للجمهورية
التركية وتسارعت الأحداث والكل يراقب وينتظر ما ستؤول إليه الأمور، فمن
سينتصر في النهاية إرادة الشعوب الطامحة للإصلاح والتغيير أم إرادة
القوى المحافظة والطبقة السياسية القديمة المدافعة عن قيم أكل عليها
الدهر وشرب؟
ما نراه هو أن الصراع بين العلمانيين والإسلاميين ليس مفتعلا بل
معقول ويدخل ضمن قواعد اللعبة السياسية في ظل تنامي المد السلفي المقلد
للماضي والمد التحديثي المقلد للحاضر الغربي وما ننصص عليه هو شرعية
الاختلاف ووجاهة تباين المواقف والرؤى فمن حق المعارضة أن تستعمل جميع
أوراقها لكي تتواجد في الحياة السياسية وأن ترفض مقترحات الحكومة ومن
حق حزب العدالة والتنمية أن يرتقي إلى أعلى الهرم بعدما انتخب
ديمقراطيا وكسب ثقة الناس وأنجز إصلاحات مهمة وأثبت جدارته بالمقارنة
مع بقية التنظيمات والأحزاب بشرط أن يحترم مبادئ الديمقراطية وأن تكون
اللعبة السياسية لعبة سلمية يغلب عليها التنافس النزيه والحوار
العقلاني والتداول الديمقراطي على السلطة حتى تحافظ تركيا على معدلات
النمو وعلى التقدم السريع في مجال حقوق الإنسان الذي أحرزته وحتى تظل
دولة ذات سيادة قادرة على أن تلعب دورا مركزيا في المنطقة وتنافس الدول
الكبرى وتنقذ ما يمكن إنقاذه من حضارة اقرأ وتعطي مثالا ناصعا عن نجاعة
الإسلام في تحقيق التنمية والعصرنة إذا فهم فهما تنويريا أصيلا وانتصر
على كل نزعات الماضوية والتقليد.
لكن ما نخشاه هو تعطيل المسار الديمقراطي وانقلاب العسكر على
السلطة وتعطيل المؤسسات وتهميش دور البديل الحضاري مثلما حصل في منتصف
القرن الماضي.
المحصلة النهائية بالنسبة إلينا نحن العرب أن ما يحدث في تركيا دليل
قاطع على نبض الحياة في الشارع وحيوية الساحة السياسية وديناميكية
التغيرات وقدرتها على إحداث الطفرة والإتيان بالمباغت والمدهش وهو أمر
بعيد عن حالنا المأساوي ومآلنا الكارثي بعد تأبد الاستبداد وتوطن
الاستعمار في ربوعنا وبالتالي لا ينبغي أن نخشى على مستقبل تركيا لأن
الإرادة العامة والإجماع الشعبي والمصلحة القومية والحضارية للأتراك هي
التي ستنتصر بل نخشى على أنفسنا المرمية في غرفة الإنعاش في حالة
احتضار بين الحياة والموت بل نحن أقرب إلى العدم والاضمحلال والانقراض
منه إلى الوجود والاستثبات والتوحد،فهل يكون ما يجري في تركيا من صراع
ديمقراطي سلمي على تنظيم الشأن العام تنظيما تقدميا تنمويا هو الصفعة
التي توقظنا من غيبوبتنا وتنقذنا من زوالنا القريب؟ فمتى نرى العدالة
والتنمية على المسطح الذي أثثه العرب للإقامة في العالم؟
* كاتب فلسفي |