إن الأمل لن يكتب لنا إلا بفضل
أولئك الذين ليس لهم أمل (والتر بنيامين)
السؤال حول أزمة العقل التنويري يحمل في حد ذاته نقدا متنورا
للفلسفة المعاصرة وتشكيكا وارتيابا من المصير الذي تردت إليه ولكنه
أيضا دعوة إلى بناء تنوير أصيل وتثبت تجريبي من صدق الفرضية التي ترى
أن حضارة اقرأ ليست في مهب العولمة كما يقال أو لحظة القطيعة الكارثية
كما ينظر إلى ذلك دعاة نهاية التاريخ وإطلالة الإنسان الأخير بل علامة
على أننا في عصر يسير نحو التنوير وقابلية التقدم الاجتهادي هي الأكثر
ترجيحا من واقعية التقليد المذهبي.
ولو اعترض علينا البعض بقولهم أن التنوير الغربي أنتج الاستعمار
ونشر العنف والحرب على الصعيد الأممي باسم تعميم دائرة التحضر في
العالم وإخراج العديد من الثقافات من حالة الجمود التي هي عليها ودفعها
إلى التجدد والحراك فإننا نرد عليهم بما فعلته مدرسة فرانكفورت مع
مجتمعها وثقافتها عندما جعلت قلق التفكير يبدد أوهام السلطة ويتحمل
عناء الحياة وصوبت سلاح المعقولية ضد اللاعقلانيات الضاغطة وأرجعت
النقد إلى حصنه المنيع ليصبح نقدا للنقد وجعلت النظرية النقدية تواجه
النظرية التقليدية والعقل التواصلي يحل محل العقل الأداتي فنصل
بالتنوير إلى روحه ونعبر بالفن والمخيال والأدب ما لم نعبر عنه
بالفلسفة والعلم ونكشف بالتحليل النفسي والسوسيولوجيا عن تحول التقنية
إلى إيديولوجيا وانحطاط سياسة المعرفة إلى تسلط ناعم وخبيث يختفي وراء
اللغة حينا ويفصح عن نفسه من خلال الدعاية والصورة أحيانا أخرى.
كما أن البعض من نخبنا قد لا تعجبهم نبوءتنا لهول ما نراه من تصدع
وتشققات تحصل بين الفينة والأخرى للذات ولتنامي العنف وأشكال التنازع
والتقاتل وانتشار وباء التشاؤم والنظرة السوداوية لانسداد الآفاق وبقاء
دار لقمان على حالها بل أكثر من ذلك اكتسحت الماضوية الساحة وصارت
الرجعية موضة العصر وشكل من أشكال إثبات الذات في مواجهة الأغيار
ولمقاومة الأعداء.
وقد تحدث البعض عن التحالف مع الاقطاع والاتجاه نحو اليمين
النيوليبرالي بأقصى سرعة والقبول بثقافة اقتصاد السوق كأمر واقع لا راد
له وما يعني ذلك من تغريب واغتراب وغروب وعولمة وتعولم وأمركة وتأمرك
وصارت الشمس عندهم تشرق من الغرب طالما أنها غربت إلى الأبد في الشرق.
والحجج التي يقدمها أصحاب هذا الرأي كثيرة أهمها أن التنوير في
حضارة اقرأ فشل فشلا ذريعا سواء في الماضي البعيد مع احتماء شيوخ
المعتزلة بقلاع الاستبداد السلطاني زمن المأمون واضطهادهم باسم العقل
لكل من يخالفهم وضياع كتبهم دون أن ننسى المحنة التي تعرض لها ابن رشد
واحراق مجهوده بنار التزمت أو في الماضي القريب لما انقلب السحر على
الساحر وخسر العرب والمسلمون معركة النهضة ولم تقدر الخطب الحماسية
التي أذاعها الأفغاني وعبده والطهطاوي وخير الدين وأدباء المهجر ولا
ليبرالية وداروينية المسيحيين الشوام على إضاءة الطريق نحو الترقي
والتقدم بل انتصرت سلفية رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب وحلت الأنظمة
القومية الشمولية محل التعددية الحزبية وحركات التحرر العربية التي
ناضلت من أجل تحرير الأرض من الاستعمار وإقامة الدولة الأمة.
ويجد أصحاب هذا الرأي عزاء آخر لتمرير اليأس والترويج للاستسلام
فهم عادة ما يذكرون بالنكبة والنكسة والمحنة والعاصفة والتصحر الذي
أصاب الملة في وجودها ويقرون أن جهود أصحاب المشاريع والبدائل
الإيديولوجية التي عقبت المنعطفات التاريخية الكبرى التي تعرضت لها
الملة كلها لم تجدي نفعا وكانت كالعويل في الصحراء ولم تكترث بها
الجماهير والشعوب التي ظلت وفية للغزالي وابن تيمية وابن القيم وابن
حنبل والشافعي وظلت حديث صالونات ضيقة ونخب مرتهنة لدوائر سلطوية مكرسة
لأشكال متخلفة من الاستبداد.
بيد أن مثل هذه الآراء على وجاهتها ظاهريا تظل مجرد آراء سيئة
التفكير ومجانبة للصواب لأن التنوير الزائف فقط هو الذي يتحالف مع
الاستبداد وينتج الاستعمار وهذا ما بينه كل من هوركايمر وأدرنو وبلوخ
وماركوز وبنيامين وهابرماس وكل منظري مدرسة فرانكفورت في نقدهم لكانط
وماركس بينما التنوير الأصيل الذي نراه بصدد التحقق في حضارة اقرأ
يقاوم الاستعمار ويفكك قلاع الاستبداد ويوظف من أجل ذلك جميع الأسلحة
وتتظافر من أجل تحقيقه كل الجهود ويسير وفق حركة بطيئة وينمو بتؤدة.
لكن هل يحتاج التنوير الأصيل إلى نقد أم أن نقد العقل التنويري
الحالي هو السبيل إلى بلوغ مرحلة التنوير الأصيل؟
ربما يكون الرأيان مطلوبين في الآن نفسه، فالنقد ضروري وينبغي ألا
يتوقف، كما أن التنوير هو مؤسسة عقلية ومدنية تطلب التقويم والتمييز
والتصويب باستمرار حتى يخرج الناس من حالة الوصاية والقصور التي هم
مسؤولون عنها.
إن الإشكالية التي تطرح على صعيد البحث هي التالية: لمن الأسبقية
وبماذا نبدأ بالتنوير أم بالنقد؟ هل ينبغي أن ننقد لكي نعبر عن وصولنا
إلى مرحلة التنوير أم أن النقد الحقيقي لا يتم إلا عبر العقل الذي قد
بلغ أولا مرحلة التنوير؟
ما نراهن عليه هو ألا نشرع لعقولنا على نحو قبلي وألا نرسم الحدود
لفكرنا بصورة مسبقة وألا نشيد أسوارا عالية نسجن داخلها ذواتنا
بالمقولات المطلقة ونقبر فيها هوياتنا بالأصول المحكمة ونعمل على ترك
الأبواب مفتوحة والنوافذ مشرعة أمام العقل والتجربة من أجل إطلاق ما
بهما من طاقة على الخلق والإبداع.
1- التنوير من أجل النقد:
إن إثارة العقل ضد نفسه وتزويده بالأسلحة في كلا الجانبين ثم بعد
ذلك مشاهدة القتال العنيف بينهما بهدوء واستخفاف هو أمر ليس من شأن
وجهة النظر الدغمائية بل يبدو عليه مظهر المزاج الشرير المحب للأذى
(كانط نقد العقل المحض ص577)
ليس النقد بالأمر الهين حتى يخوض فيه من هب ودب ويتباهى بممارسته
المتفاخرون بل هو تجربة صعبة ومهمة شاقة تطلب التحقيق والتدقيق وتقتضي
العزيمة والحذر. وهيئته على هذا النحو لا تعود لانشداده إلى حبل الأزمة
كما درج على ذلك البعض نظرا لقرابة اللفظ الفرنسي critique من ابن عمه
crise بل لتمنعه الدائم وتعطله المستمر ومبارحته المتواصلة للحياة
اليومية،فالناقد هو مترفع دائما ويتخذ مسافة من الواقع ولذلك نراه
متحفزا على التعالي والمفارقة والابتعاد مقيما على خطوط التباين
والعتبات منصتا صامتا أكثر منه ثرثارا متكلما. من هذا المنطلق يقوم
النقد على إستراتيجية ويتطلب مجموعة من الشروط والمستلزمات أهمها بلوغ
العقل مرحلة التنوير،فالقاعد في عالم البداهة لا يخطر بباله أن ما
يعرفه هو الدرجة الصفر من المعرفة وادعاءه للحكمة هو عين الجهل لتساوى
النقد عنده مع الدينار والدرهم وفي أحسن الأحوال مع النقاش والإفحام
وإسقاط الخصوم بالضربة القاضية حتى يعود إلى كهفه فرحا مسرورا أما
المتشرد في فيافي العدم والصعلوك المطارد من جميع الملل والنحل الذي
يصر على الاهتداء بالنور الذابل المنبعث من مصباحه وسط ضوء النهار
الساطع بالمألوف والعادات فانه فارس النقد وملكه المتوج يحمل المطرقة
ويحطم قصور المعارف وهي مكتملة البناء،مفعم بالأنوار ومغتبط بتقوى
الفكر وذخيرة المعنى. هذا الناقد المتنور يجعل من النور الفطري المنبعث
من عقله سلاحه من أجل الهدم والتحطيم والإلغاء والكف والابتعاد حتى
يحاصر الأوهام في منابتها ويحمل حملة هوجاء على الأخطاء دون رحمة أو
شفقة. المبدع المنعتق من أسر الماضي هو وحده الطائر المحلق فوق ركام
الآراء المتطاحنة القادر على تفعيل عملية النقد أما المقلد فهو كالبلبل
المغرد المحبوس داخل القفص سجين الكهف يأسف على زمانه الذي مضى عاجز لا
يقدر على النهوض لوحده دون متكأ أو مساعدة الآخرين.
التنوير عند كانط شعار حقبة وروح عصر ويعني خروج المرء من القصور
الذي سببه بنفسه نتيجة جهله وخوفه واستسلامه للوصاية وخضوعه للسلطة
،أما عند مدرسة فرنكفورت فإنه يعني تنوير العقول وتنوير الأفكار عن
طريق الإيضاح والإعلام والاستعلام حتى يصل الناس إلى مرحلة من
الاستنارة وتزداد درجة اطلاعهم على الحقائق والأشياء ويكتسبون قدرة لا
بأس بها على الفهم والتفهيم. وقد كانت الغاية من التنوير عند مدرسة
فرنكفورت إعادة تكوين الوعي الإنساني حتى يكون قادرا على نفي الواقع
البائس وفق نظرة نقدية عقلانية تتجدد ذاتيا ومهيأة لبناء مناخ اجتماعي
تواصلي مخالف لماهو موجود.
2- النقد من أجل التنوير:
إن الطاقة الرفضية لمثل هذا النوع من النقد والذي ينزع القناع عن
العقل ليس إرادة القوة السافرة الكامنة وراءه بل هو نقد يفترض أن يخلخل
القفص الفولاذي الذي تجسدت فيه الحداثة اجتماعيا... (يورغن هابرماس،
الخطاب الفلسفي في الحداثة –المقدمة)
عوض أن نعتقد في عصمة الفقهاء ماضيا وحاضرا وننقل عنهم عن ظهر قلب
ونعبر عن انتمائنا إلى الفرقة الناجية ونسير على الصراط المستقيم ونظن
مباشرة أن الأشياء معلومة يجدر بنا أن نتخذ من واقعنا مسافة ونبتعد
قليلا عن قناعاتنا ونتساءل:كيف ومن أين لنا أن نعرف ما نعرفه؟ وننتقل
من سؤال ماذا أعرف؟ وكيف يمكنني أن أعرف؟ إلى سؤال: كيف أعرف؟ وما قيمة
ما أعرفه؟
إن النقد يعني عند كانط الفحص عن قدرة العقل بوجه عام فيما يتعلق
بكل المعارف التي يطمح إلى تحصيلها مستقلا عن كل تجربة ويتحدد النقد
كقسم من المنطق يعني بالأحكام ويمكن أن نميز بين أحكام واقع وأحكام
قيمة ويفيد معناه المنهجي معالجة مبدأ أو حدث بغاية إعطائه حكما
تقييميا مثل نقد الحقيقة في المنطق ونقد الأثر الفني في الجماليات.
وقد أعطى كانط معنى عام للنقد وهو المعالجة الحرة والعمومية للقضايا
التي تطرح على العقل من تاريخ البشر وبالتالي يتسم هذا النقد بالطابع
التحرري العمومي الإنساني ولكنه ما لبث أن نحت مفهوما أكثر تحديدا وهو
التفكير في شروط الصلاحية وفي حدودها وبالتالي قلل من شأنه وجعله يتم
داخل المثالية الألمانية لا غير ويكتفي بالإجابة عن سؤال: كيف تكون
الأحكام التأليفية القبلية ممكنة؟،فضيق من دائرة المعرفة ووسع من دائرة
الإيمان.
إن ظل النقد عند كانط نقدا متعاليا موجه نحو العقل والميتافيزيقا
متناسيا شروط إمكانه فإن مدرسة فرانكفورت اقتحمت تحت تأثير ماركس بحر
النقد المحايث الموجه نحو السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين والثقافة
الآثمة بأسرها من أجل تفكيك كل أشكال التشويه الذي تتعرض له الحقيقة
وكل أشكال الاغتراب الذي يقع فيه الإنسان. لعل أهم مجال يجب إخضاعه
للنقد بالنسبة لمدرسة فرنكفورت هو التنوير وريث العقلانية المعاصرة
التي انبنت على العلم والتقنية لأن هذا التنوير أدى إلى مضاعفة أشكال
الاستبداد في الداخل وتبرير الاستعمار في الخارج والى إنتاج معقولية
أداتية ترتكز بالأساس على عقل حسابي موجه من قبل كوجيتو البضاعة ومبدأ
المردود.إن نقد العقل التنويري هو استعادة نقدية للعقلانية التي أراد
المجتمع الاستهلاكي إخضاعها وتدجينها من أجل الكشف عن كينونة الموجود
البشري.فإذا كان الوجود قد وقع طمس حقيقته والإنسان تحول إلى آلة راغبة
فان مهمة الناقد التنويري ليس ملاحظة الواقع وتشخيصه وتفسيره بل محاكمة
هذا الواقع وإدانته قصد مساعدة البشر على الاعتناء بحياتهم ضمن حقيقة
الوجود عبر حمل الأمل والاحتفاظ به. هكذا اكتسب مفهوم النقد عند مدرسة
فرنكفورت مضمونا فلسفيا واجتماعيا وسياسيا خصبا بالمقارنة مع النقد
المتعالي عند كانط موقع المثالية الألمانية وتمظهر ذلك في عزوفه عن
الأجوبة الميتافيزيقية وإثارته لمفارقات وإشكاليات راهنة خاصة وأن
النقد الحقيقي لا يحلل الإجابات بل الأسئلة أي فعالية نظرية تخصيصية أو
لنقل فعالية فكرية لعملية تفكير ذاتي للعقل.
المطلوب هو الابتعاد عن التنوير الزائف البهرج الذي يمارس النقد من
أجل فرض سلطة دكتاتورية على العقل والمجتمع باسم الحقيقة وما نسعى إلى
انجازه هو نقد العقل التنويري من أجل فسح المجال للمواطنين الأحرار في
الفضاء العمومي حتى يجرون مداولات يصلون بمقتضاها إلى إجماع حول
الحقيقة.
3- في التنوير الأصيل:
إن شيئا ما يتكلم فقط عندما يتكلم على نحو أصيل أي كما لو كان يقول
شيئا ما لي خاصة. وهذا لا يعني أن ما يتكلم بهذه الطريقة يقاس بمعيار
يتجاوز التاريخ بل إن ما يتكلم بهذه الطريقة هو الذي يضع المعيار...
(هانس جورج غادامير، -الحقيقة والمنهج –الخاتمة)
المقصود بالتنوير الأصيل أنه يستعمل العقل دون الادعاء بسلطته
المطلقة على بقية الملكات الإدراكية ويتحول إلى شجرة من الحكمة العملية
وليس إلى قلعة من الاستبداد والتسلط كما يعني التدافع دون تنازع أو
صراع والتعارف دون تحارب أو استعمار أي يتخلى عن الميتافيزيقا ويبحث عن
الانطولوجيا ،يتجاوز التفسير وينخرط في التأويل،يكسر زجاجة الإتباع
والتقليد ويغوص في بحار الاجتهاد والتجديد،ويتحصن بالذات دون التقوقع
في الهوية ويقاوم الانعكاسات الخطيرة للتقنية والعلم دون أن يعزف عن
ممارستهما.
التنوير الأصيل هو التنوير الذاتي الداخلي الذي يقوم على الاعتراف
بالتفاعل المشترك بين مجموعة من العناصر مثل اللغة والدين والفن
والتاريخ والفلسفة من أجل بناء وعي نقدي بالزمنية الوجودية التي يعيشها
الناس في حقبة تاريخية معينة.هذا النمط من التنوير لا يعتبر الآراء
التي يحملها إلينا الزمن من الماضي مجموعة من الأحكام المسبقة ينبغي
تحطيمها بل ينطلق منها لكي يحقق فهما متكاملا، إن المعرفة المسبقة
والرأي الموروث والحكم الجاهز كلها شروط إمكان من أجل فهم أفضل للماضي
ونقدي جذري للحاضر وتأسيس مشروع في المستقبل.ألم يقل غادامير: التراث
ليس تبريرا لما وصل إلينا من الماضي بل هو إبداع آخر للحياة الأخلاقية
والاجتماعية وهو يعتمد على كونه مدركا ومدارا بحرية؟ أليس التنوير
الأصيل هو أن تلتقط فجأة كرة رماها قرينك الأبدي نحو أعماقك رمية لا
تخطيء أبدا؟
لكن عندما ننقد العقل التنويري وننقل الحرب من ساحة الفلسفة والعقل
إلى ساحة المجتمع والسياسة ألا نسقط في الفوضوية الهدامة ؟ وألا تكون
المعقولية الفرينوزيسية التي نتبنها عقلانية مبتورة؟ فكيف ننقل التفكير
التأويلي من الظلامية اللاهوتية إلى الفلسفة العقلانية النقدية؟
* كاتب فلسفي |