ب- طليعة الإصلاح المؤسسي
مع توسع المؤسسة التعليمية الدينية الأولى ودخول الاجتهاد عاملا
أساسيا في حياة الأمة عقب انقطاع عهد التشريع الإسلامي، كانت هذه
المؤسسة في حاجة كبيرة وماسة إلى تنظيم وتطوير العلوم الإسلامية
ومناهجها ومعارفها، فضلا عن وضع القواعد للإصلاح والإبداع والتجديد بما
يتوافق والمستجدات العلمية.
فالتراث الذي خلفه عهد التشريع عظيم وثري جدا، وان مبدأ الاجتهاد
كان قادرا على إحياء هذا التراث وجعله متفاعلا وحيويا في الحواضر
العلمية الدينية، لكن مبدأ الاجتهاد مر بمنعطفات تاريخية لم تجعله في
حال من الاستقرار العلمي، وذلك لأسباب مختلفة، بعضها ذاتي وبعضها
موضوعي. وهو الأمر الذي استدعى وجود مبدعين ومصلحين أسسوا لجهود إصلاح
وتطوير رافقت الحواضر التعليمية الدينية وعلومها حتى مراحل لاحقة.
ولعل ابرز ما ميز جهود الإصلاح أنها لم تكن انقلابية كشأن الحركات
السياسية أو الاجتماعية التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرنيين
الماضيين، بل أنها جهود انطلقت من واقع الجمود ومحل عدم الاستقرار
العلمي وتطوره وأسبابه، ووجدت أن العالم الإسلامي ومؤسسته التعليمية
الدينية تعج بمتناقض فكري لا يميز بين ما هو ثابت ويتطلب الثبات وما هو
متغير ويتطلب التغيير والتطوير والتحديث في أحيان ومواضع كثيرة.
وقد وجدت جهود الإصلاح والإبداع أن التمكن من وضع أسس الإصلاح
التعليمي وفق مناهج سليمة ومناسبة ومواكبة للمتغيرات والتحولات
المستجدة لم يكن بالأمر السهل، سواء بالنسبة إلى مساعيهم الحميدة وما
كانوا يمتلكون من مؤهلات قيادية ناضجة ومؤثرة وبرنامج عملي قادر على
إخراج ما كانوا يطمحون إليه من أهداف نظرية إلى حالها الواقعي.
لقد ظل الواقع يشير إلى جمود في كل ما كان من شأنه التطور والتغير،
وكان مجتمع العلم في المدارس والمراكز والمعاهد الدينية يرى في هذا
الجمود تمسكا بالأصالة والمحافظة على التراث من الاندثار والإندراس،
كما كان يرى في بعض العطاء الفقهي والعلمي قمة ما بعدها قمة، بحيث لم
يترك الأولون للآخرين ما يمكنهم من تقديم الجديد والمزيد. من هنا توقفت
آلة الاجتهاد في مختلف الميادين التعليمية الفقهية والعلمية والأدبية
وغيرها.
ومن خلال مراجعة مسيرة المادة العلمية المهمة (علم الأصول) - على
سبيل المثال - في المؤسستين التعليميتين التابعتين لاتجاهي التشيع
والخلافة، تبرز لنا الكثير من المعالم التي توضح اتجاهي الجمود والتطور
واهم أسبابهما فضلا عن الصراع العلمي بين هذين الاتجاهين، خصوصا وان
هذا العلم قد ولد عن مسيرة فقهية نجحت في بناء تراث ضخم بين عصر
التشريع وما بعده، وتميزت بكونها علما إسلاميا خالصا.
(1) التبعية مقتل الإبداع
في القرنين الخامس والسادس الهجريين بدأت حركة الجمود في الفكر
الأصولي لدى اتجاه الخلافة الذي أسس بعد انتهاء عهد التشريع بوفاة
الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، حيث لم تبد المؤسسة التعليمية
إبداعا جديدا أو تطويرا لهذا العلم، ووقفت على التقليد والاستنساخ
والتفصيل في التعليقات والشروح حتى انتهى الأمر بحال العلم في مجال
الفقه إلى انسداد باب الاجتهاد بالتزامن مع سيادة المذاهب الفقهية
الأربعة لكل من أبى حنيفة والشافعي والمالكي وابن حنبل بفعل تأثير بالغ
للنظام السياسي الحاكم آنذاك الذي انتهى إلى وقف العمل بعشرات المذاهب
المنتشرة وأطلق العمل بالمذاهب الأربعة حصرا، فضلا عن تدخل الاتجاه
الاجتماعي الكبير والواسع الذي قبل بهذه المذاهب كمسار فقهي مبرئ للذمة
كما هي الحال القريبة في عهد دولة الظاهر بيبرس في مصر. وتكفي لإثبات
هذه الحقيقة شهادة أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505هـ)، وهو رجل
الدين الكبير الذي مثل اتجاه الخلافة، إذ تحدث عن شروط المناظرة في
البحث، فذكر منها"أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي
وأبى حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما
يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له، فأما من لم يبلغ رتبة الاجتهاد –
وهو حكم كل أهل العصر – فأي فائدة له في المناظرة"25.
وبما أن علم الأصول يظل في حال من النمو مع نمو مادة علم الفقه ؛
فإن جمود الحركة الفقهية أو تضاربها مع مرحلة انتشار المذاهب الفقهية
الأربعة كانت له مردودات سلبية على نمو علم أصول الفقه، ذلك أن علم
الأصول هو مجموعة القواعد التي تستخلص من علم الفقه، وبجمود الفقه
استسلمت القواعد لحال الارتخاء.
وقد ظل فقه اتجاه الخلافة في حال من الارتباط العضوي مع النظام
السياسي بحكم الأثر الكبير الذي كان يتركه هذا النظام على عامة الناس،
فضلا عن دوره في حركتها الاجتماعية وحاجة النظام السياسي الماسة لكل ما
كان له أثر إيجابي في تشريع وتأييد بقائه على سدة الحكم. وكان الفقهاء
آنذاك يشكلون قطبا مؤثرا في سير النظام السياسي، ويحتلون الدرجة
الثانية من حيث الترتيب الطبقي للمجتمع من بعد السلطان أو الخليفة. من
هنا استظل النظام السياسي بمظلة الفقه والفقهاء وتبادل المصالح
والمقاصد مع مذاهبهم وجعل منها جهات لا تنفك عن أنظمته وقوانينه.
وعلى أساس من هذه العلاقة الوطيدة ظل الفقه مرتبطا ومقيدا بدوائر
السلطة الرسمية وتقاليدها وبروتكولاتها، فيقوى بقوتها ويضعف بضعفها.
"الأمر الذي يجعل الفقه السني يتأثر بالأوضاع السياسية ويزدهر في عصور
الاستقرار السياسي وتخبو جذوته في ظروف الارتباك السياسي. وعلى هذا
الأساس كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السني شيئا من جذوته في القرنين
السادس والسابع وما بعدهما، تأثرا بارتباك الوضع السياسي وانهياره
أخيرا على يد المغول الذين عصفوا بالعالم الإسلامي وحكوماته"26.
وأما الفكر الأصولي العلمي عند اتجاه التشيع فقد ظل في حال من النمو
برغم كونه جاء متأخرا على أول انطلاقة للفقه الأصولي السني بحوالى مائة
عام، فتأثر بمنهجه في البحث لكنه استقل في مادته.
ولم يكن فقهاء اتجاه التشيع يستمدون دوافع البحث العلمي من حاجات
الجهاز الحاكم الذي اعتزلوه ورفضوه حاكما، إنما كانوا ينظرون في حاجات
الناس الذين آمنوا بإمامة علي (عليه السلام) واتبعوا نهج أهل البيت
(عليهم والسلام) ورجعوا إلى فقهاء مدرستهم الأولين في حل مشكلاتهم
الدينية والتعرف على أحكامهم الشرعية. من هنا كان فقه اتجاه التشيع
متأثرا بنظام وحاجات الناس ولم يكن متأثرا بالوضع السياسي كما يتأثر
فقه اتجاه الخلافة.
وربما كانت المؤسسة التعليمية الشيعية أوفر حظا من نظيراتها في
اتجاه الخلافة، لأن أبواب الاجتهاد المفتوحة لدى اتجاههم كانت حاكمة،
على عكس الباب المسدود للاجتهاد عند المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه
الخلافة، لكنها بقيت على جمودها في الكثير من المواد والأساليب
والوسائط التعليمية برغم مرور ألف عام على تأسيس بعض مدارسها.
"فمساق الدروس (في النجف على سبيل المثال) محدد ويشمل اللغة العربية
والمنطق والدين، وأما الدروس التي يحق للطالب أن يختار منها فتشمل
الفلسفة والفلك والرياضيات، ولكن هذه العلوم الحديثة لا تزال تعلم في
هذه المدارس كما كانت تدرس في القرون الوسطى وبالمضمون والمحتوى
ذاتهما"27.
وقد تطورت علوم الفقه والأصول في المؤسسة التعليمية الدينية في
العراق، لكنها لم تكن تنمو في شكل منهجي تعليمي مكتوب متخصص، بل أنها
نمت كتراث علمي مقدس حمل بين طياته أحكام الشريعة الغراء رغم اعتماد
هذا التراث على مصادر قديمة جدا يمتد بعضها إلى القرن الثامن الهجري.
ومع تطور بعض المؤلفات في مجال الفقه من حيث التقسيمات المبسطة
والمنهجية والمبوبة في محتوى مادتها، كانت هذه المؤلفات محط رغبة شديدة
في سيادتها في المؤسسة التعليمية كمادة للتعليم والتدريس والحفظ، كما
هو الحال بالنسبة لكتاب (الشرائع). وبدراسة متأنية لهذه المؤلفات
والكتب التي اعتمدت للتدريس خلال تلك القرون يظهر جليا كيف أن تلك
المؤلفات والكتب كانت بعمق علمي كبير ومميز، سواء في الألفاظ والعبارات
أو في موضوع البحث والتحقيق ومادتها.
ثم نضجت مادة الفقه"في طريقة الاستلال بعد استقرار المدرسة الأصولية
على يد الوحيد البهبهاني، وذلك بتأليف كتاب (الرياض) للسيد الطباطبائي
وتأليف كتاب (الجواهر) للشيخ النجفي وكتاب (مفتاح الكرامة) للسيد
العاملي، ولم يجد له جديد في هذه الحقبة إلا بمحاولة التغيير في طريقة
العرض"28
فهذه المؤلفات كانت تمثل بحوثا احتلت قمة المستوى العلمي ومثلت
خلاصة وصلت إليها عقول العلماء الكبار في المؤسسة التعليمية الدينية
آنذاك، ما ساهم في جعلها محل اختيار من قبل المدرسين ومحل تفضيل وتوافق
من قبل الطلاب أيضا، سواء لغرض إدراجها في مجال المنهج التعليمي
المعتمد أو في ما يؤدي إلى تقوية الحس الفقهي لدى الطالب. ولم يكن
اختيار هذه المؤلفات والكتب لكونها مادة صالحة للتدريس من حيث شمولها
على التبويب والتقسيم والمرحلية أو لكونها مبدعة في العرض المنهجي
التعليمي، إنما لأهمية الاستنباط الجديد الذي حوته. وأما في مجال مادة
الأصول الفقهية، فقد"نضج على أيدي أساتذة المدارس الثلاث المعاصرة، وهي
مدرسة العراقي ومدرسة الأصفهاني ومدرسة النائيني التي صبت جميعها في
محيط ابرز تلامذتها من أساتذة هذه الحقبة الزمنية. وكل ما جد في مجال
أصول الفقه هو التعديل في التبويب والتغيير في أسلوب وطريقة العرض.
ولعل كتاب السيد السبزواري (تهذيب الأصول) يعرب عن هذا النضج وبدء طور
التغيير للخلوص إلى الخلاصة وطرح الزائد والاقتصار على المفيد"29.
ويقسم السيد محمد باقر الصدر الحركة العلمية لدى اتجاه التشيع في
علم الأصول إلى ثلاثة عصور: العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور
الأساسية لعلم الأصول، ويبدأ هذا العصر بابن عقيل وابن الجنيد وينتهي
بظهور الشيخ (الطوسي). وعصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك
البذور وأثمرت وتحددت معالم الفكر الأصولي وانعكست على مجالات البحث
الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي. ومن رجالاته
الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة الشهيد الأول وغيرهم من
النوابغ. وعصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم
المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ
الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود
متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي. وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار
وبحوث لرائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل
الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل
القمة.
ففي هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة: ويتمثل
الجيل الأول في المحققين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد، كالسيد مهدي
بحر العلوم المتوفى سنة (1212هـ)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة
(1227هـ)، والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى سنة ( 1227هـ)، والسيد
علي الطباطبائي المتوفى سنة (1221هـ)، والشيخ أسد الله التستري المتوفى
سنة (1234هـ). ويتمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرجوا على بعض
هؤلاء، كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم المتوفى سنة (1248هـ)، وشريف
العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة (1245هـ)، والسيد محسن
الأعرجي المتوفى سنة (1227هـ) هـ، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة
(1245هـ)، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة (1266هـ) وغيرهم. وأما
الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقق الكبير الشيخ مرتضى
الأنصاري الذي ولد بعيد ظهور المدرسة الجديدة عام (1214هـ)، وعاصرها في
مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها، وقدر له أن يرتفع بالعلم في
عصره الثالث إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها. ولا
يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الأمامية
يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد....
وعلى هذا نعتبر الشيخ الأنصاري قدس سره المتوفى سنة (1281هـ) رائدا
لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر
العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم"30.
(2) سيادة روح التقليد
مني الفكر الأصولي الشيعي بانتكاسة أنتجت جمودا في مرحلة زمنية
قدّرت بمائة عام كادت أن توصله إلى حال شبيهة بأوضاع الفكر الأصولي لدى
اتجاه الخلافة الذي عرف عنه الجمود والتوقف خارج دائرة الاجتهاد
والإبداع. حدث ذلك في مرحلة لاحقة لوفاة الشيخ الطوسي وخلال العصر
الثاني (عصر العلم) حسب تصنيف عصور تطور الأصول.
فالشيخ الطوسي الذي تسلم مرجعية الشيعة الإمامية وقاد مسيرتهم من
خلال المؤسسة التعليمية في النجف الأشرف عقب انتقاله إليها من بغداد
المدمرة خلال كوارث الاجتياح السلجوقي ؛ أقام اتجاها علميا في الأصول
الفقهية تميز بالمتانة والإبداع والتطور في وسط علمي حديث التأسيس عُد
أفراد طلابه بالمئات وذلك استنادا على موروث علمي تقدمت به مرحلة
أستاذيه الشيخ ابن الجنيد والسيد المرتضى. حتى أن الشيخ الطوسي"وقف
على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه (التهذيب) فذكر أنه لم ير لأحد من
الطائفة كتابا أجود منه ولا ابلغ ولا أحسن عبارة ولا ارق معنى منه.
وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة
الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشهادة تدل على قيمة البذور التي نمت
حتى أتت أكلها على يد الطوسي"31
وتدل مرحلة الشيخ الطوسي على أنها استفادت كثيرا مما وصل إليه منهج
علم الأصول في المؤسسة التعليمية على اتجاه الخلافة حتى رجع إلى الشيخ
بعض أتباع اتجاه الخلافة في تفاصيل دروسه وعلومه، ما يشير إلى أن
الطوسي كان قطبا علميا عظيما في عالم المؤسسات التعليمية الدينية
بمختلف اتجاهاتها المذهبية آنذاك.
وبهذه الآثار التي تركها الشيخ الطوسي في هذا العلم كان من الطبيعي
أن يعد عند طلابه علما ما بعده علم وكبير مراجع أهل زمانه، وهم الذين
وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد في هذه الحوزة الزاخرة"فله من الطلاب
المجتهدين ما يزيد على المائتين، وله رواد من العامة والخاصة، يرغبون
في علومه"32.
وبعد وفاة الشيخ الطوسي في سنة (460هـ) تولى المرجعية وزعامة
المؤسسة التعليمية في النجف أبو علي الحسن بن محمد الطوسي الملقب بـ
(المفيد الثاني)، والمتوفى بعد سنة (515هـ).
ولعمق أثر حب واحترام الشيخ الطوسي في نفوس تلامذته ولما كان له من
مكانة علمية كبيرة ومميزة ؛ فرض تقديسه عليهم - بصفته عالما- فرضا،
وبخاصة في مجالات الفقه والحديث، بلغ حد عدم الجرأة على مخالفة طريقته
وآرائه. فقيل: إن كتبه المعروفة في الفقه والحديث لعظم مكانتها خدرت
العقول، وسدت عليها منافذ التفكير في النقد قرابة قرن."وبلغ (قدس سره)
من العلم والفضل مرتبة كانت آراؤه وفتاواه تعد في سلك الأدلة على
الأحكام، ولذلك عبر غير واحد من الأعلام عن العلماء بعده إلى زمان ابن
إدريس بالمقلدة"33.
وخلال قرن مر على وفاة الشيخ الطوسي لم يقو أحد على بناء منهج جديد
أو إقامة بحوث فقهية أو أصولية قادرة على مجاورة أو مجاوزة أو مقاربة
التراث العلمي للشيخ الطوسي، ووصل الأمر بالمؤسسة التعليمية في النجف
الأشرف وفي باقي المدارس الأخرى التابعة لنهج هذه المؤسسة إلى حال
الجمود عن الاجتهاد برغم النمو المستمر في الفقه. وكانت هذه
الاستمرارية في الفقه تبعا لحاجة الناس إليها خلال قرن من وفاة الشيخ
الطوسي تستوجب حضورا مساهما وفعالا في الإبداع أصولا وفقها في إطار
المنهج المبدع عند الشيخ الطوسي. وظهر آنذاك أن اتجاه التشيع بدأ يقترب
من النهاية الخاتمة التي وصلت إليها من قبل مادتا الفقه والأصول عند
اتجاه الخلافة من بعد شيخوخته.
فروح التقليد وإن كانت قد سرت في المؤسسة التعليمية التي خلفها
الشيخ الطوسي كما سرت في فقه وأصول المؤسسة التعليمية لاتجاه الخلافة،
إلا أن نوعية الروح العلمية كانت تختلف، لأن الحوزة العلمية التي خلفها
الشيخ الطوسي كانت حوزة فتية لم تستطع التفاعل بسرعة مع إبداع وتجديد
الشيخ المتقدمة، وكان لابد لها أن تنتظر مدة من الزمن حتى تستوعب تلك
الأفكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثر بها على صعيد البحث
العلمي. وروح التقليد هذه كانت مؤقتة بطبيعتها. وأما المؤسسات
التعليمية الدينية عند اتجاه الخلافة فقد كانت تعاني شيوع روح التقليد
الناشئة عن شيخوختها بعد أن بلغت قصارى نموها وعطائها العلمي بعد أن
استنفذت جهدها، فكان من الطبيعي أن تتفاقم فيها روح الجمود.
ظل الشيعة المتعبدون بفقه أهل البيت (عليهم السلام) في نمو ديمغرافي
مستمر، وكانت علاقاتهم بفقهائهم وطريقة الإفتاء والاستفتاء تتجدد
وتتسع، ولم يفقد الفقه الأمامي العوامل التي تدفعه نحو النمو ؛ بل اتسع
باتساع التشيع وشيوع فكرة الاجتهاد بصورة منظمة. وهكذا نصل إلى أن
الفكر العلمي لدى المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه التشيع كان يملك
عوامل النمو داخليا باعتبار فتوته وسيره في طريق التكامل، وخارجيا
باعتبار العلاقات التي كانت تربط الفقهاء الشيعة بمجتمعهم وحاجاته
المتزايدة. ولم يكن التوقف النسبي له بعد وفاة الشيخ الطوسي إلا لكي
يستجمع قواه ويواصل نموه إلى مستوى التفاعل مع الآراء الإبداعية
الجديدة.
وأما عنصر الإثارة المتمثل في تطور المؤسسة التعليمية الدينية
التابعة لاتجاه الخلافة في مجالاتها العلمية والأصولية بوجه أخص فهو
وإن فقدته المؤسسة التعليمية التابعة لاتجاه التشيع نتيجة لجمود المادة
الفقهية لدى اتجاه الخلافة وتوقفها على مذاهبها ؛، إلا أنه استعاده في
صورة جديدة، وذلك نتيجة عمليات الانتشار المذهبي التي قام بها الشيعة
وتمدد الدعوة التي مارسها علماء الشيعة على نطاق واسع، وكان بينهم
العلامة الحلي وغيره، فشكل ذلك مثيرا جديدا ومحرضا على الاستمرار في
تعميق البحث والتوسع في درس الأصول إضافة إلى الفقه وعلم الكلام. ولذلك
نرى نشاطا ملحوظا في بحوث الفقه المقارن قام به العلماء الذين مارسوا
تلك الدعوة من فقهاء اتجاه التشيع كالعلامة الحلي.
.....................
25- السيد محمد باقر الصدر . دروس في علم الأصول مع
المعالم الجديدة . ص74
26- نفس المصدر السابق . ص74-76
27- عبد الله النفيسي . دور الشيعة في تطور العراق
السياسي الحديث . ص51
28- الجامعة الإسلامية . العدد الأول . كانون الثاني
1994. ص197-198
29- نفس المصدر السابق . ص197-198
30- دروس في علم الأصول مع المعالم الجديدة . ص92-94
31- نفس المصدر السابق . ص 67
32- انظر مقدمة (تهذيب الأحكام) . الطوسي . ص31-34
33- د . عبد الهادي الفضلي . تاريخ التشريع الإسلامي
. ص333-343
راجع
الاقسام:
الاول:
الثاني:
الثالث: |