نضحك في الظلام... ونبكي في الظلام

كاظم فنجان حسين الحمامي

لو كانت الكهرباء تمتلك صفة واحدة من صفات الوطنية لما تخلت عن العراقيين في هذه الظروف القاسية ؟. ولو كان في قلبها ذرة وطنية لما انقطعت عنا وغادرتنا وهي تعلم علم اليقين بأننا في أمس الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى ؟؟.

ولو كان للكهرباء بعض الحياء لما سمحت للظلام يخيم علينا ويلفنا بعباءته السوداء ؟؟، ولما حرمتنا من النور في هذه الليالي الحالكة ؟؟.

فنحن نضحك في الظلام، ونبكي قي الظلام، ونكتب في الظلام حتى لم نعد نميز أقلامنا من أصابعنا (1). فبعد انحسار (الكهرباء ); تسيّدت جيوش الظلام، واقتادت خيوط النور إلى الجبّ، واستباحت كل أفواه النهار.. إن يبلغ السيل الزبى يكن الدمار! هي ذي طقوس الانهيار(2).

اختفت الكهرباء من حياتنا كليا ولم يعد لها أي وجود، وتباينت أسباب اختفائها. فمنهم من يقول أنها اختفت بسبب سوء الأوضاع الأمنية وفقدان الاستقرار، ومنهم من يقول أن انقطاعها جاء بناء على خطة لمؤامرة تبنتها قوات الاحتلال من اجل نشر الفوضى وشل الحياة العامة، وهناك فئة أخرى تربط غيابها بالنقص الحاد في الميزانية المقررة لتنفيذ مشاريع توطينها.

 ويزعم البعض أن فرار الكهرباء من العراق يعزى إلى مشاكل تتعلق بالصيانة والى عمليات التخريب التي استهدفت خطوط النقل وأبراج الضغط العالي والى تعطيل محطات التوزيع، ويعتقد فريق آخر أن شحة الوقود هي التي دفعتها إلى الهجرة، ومنهم من يقول أن عزوف المواطنين عن دفع مستحقات أجور الكهرباء وتسديد حقوقها هو الذي جعلها تلملم أسلاكها وترحل، في حين يعتقد بعض العارفين أن أصحاب معامل الثلج هم الذين يقفون وراء اختفائها، لكن الفلكيين وعلماء التنجيم يقولون أنها أصيبت بالحسد من عين حارة، وانه يتوجب علينا أن نجلب ديك يتيم وندفنه شمال أحدى محطات التوزيع عند اقتراب مذنب هالي من الأرض في دورته القادمة، وقد سخر علماء الطبيعيات كثيرا من هذه التكهنات المبنية على الشعوذة، وأكدوا أن اختفاء الكهرباء كان بسبب مرورها بفترة سبات طارئة...

 لكن الثابت لدينا أن الكهرباء تتسكع الآن في كل المدن العالمية وفي دول الجوار، وأنها تتغذى الآن على أشهى أنواع مصادر الطاقة الهوائية والشمسية والغاز الطبيعي والفحم الحجري إضافة إلى المحروقات الأخرى، وذكر بعض الوافدين من الخارج أنها تعمل الآن بقوة المياه المتدفقة من الشلالات وبقوة مياه المد والجزر.وترقد في محطات خمس نجوم. وبرغم توفر جميع هذه المصادر عندنا فقد حزمت أمتعتها وأصرت على المغادرة، ونحن الآن بانتظار معجزة تعيدها إلينا، فمتى نشعر بوجودها عندنا أسوة بأقراننا من الجنس البشري في ارض الله الواسعة ؟.

فلا مستشفيات ولا جامعات ولا دراسة ولا تعليم ولا إنتاج ولا أسواق ولا محطات تحلية للمياه ولا مضخات لدفع المياه إلى الأحياء السكنية ولا دوائر حكومية، أصبحت حياتنا بدونها مهددة وداهمنا إحساس بالوحدة والملل فلا راديو ولا تلفزيون ولا ثلاجة ولا غسالة ولا هاتف، من دونها لا يمكننا تشغيل الكومبيوترات والمصاعد ووحدات التكييف والأنوار الكاشفة في الملاعب وخزانات البنوك.. وصناديق الحسابات في الأسواق والمطاعم..إنها عصب حياتنا ومصدر الطاقة الذي اعتمدنا عليه في تفعيل نشاطاتنا اليومية وتلبية احتياجاتنا الأساسية.

كنا نعتبرها ضرورة من ضرورات التقدم الاجتماعي والثقافي والاجتماعي، وكنا بحاجة إليها في بناء بلدنا وتطوير اقتصادنا وتشغيل مصانعنا فخذلتنا وفضلت الابتعاد عنا نهائيا رغم اهتمامنا بها، ورغم إشراكنا لها في جميع برامجنا ونشاطاتنا اليومية.

في غيابها توقفت كل الأجهزة الطبية عن العمل مما تسبب في إعاقة عمل الأطباء ومنعهم من تقديم الخدمات الطبية للمرضى الراقدين في المستشفيات وتعطيل حاضنات الأطفال الخدج وتوقف نبض الحياة في صالات العمليات الجراحية الكبرى...  لقد تهربت الكهرباء من أداء هذه الخدمات الإنسانية وتقاعست عن تحمل المسئوليات المنوطة بها، وهذا مؤشر لعدم امتلاكها أي حس وطني.

صبرنا على انقطاعها غير المنتظم وتصرفاتها الشاذة وحركاتها الطائشة التي كانت تقوم بها قبل أن تقرر الهرب والابتعاد عنا، كنا نحسب أن تلك التصرفات الرعناء مجرد تصرفات عابرة ومجرد سلوك طارئ، وأنها ستعود إلى صوابها والى رشدها، لكنها خذلتنا جميعا واختارت الفرار والهجرة خارج العراق، وتركتنا في أوضاع مزرية حيث نواجه جهنم في الصيف والزمهرير في الشتاء.

تركتنا وسط لهيب صيف استوائي قوامه رياح السموم والغبار ومعدلات حرارية تفوق الخمسين التهمت عقولنا وحرمتنا من المتعة والتسلية والقراءة والكتابة والسمر والسفر والماء والوقود، ونعيش الآن في فرن الاحتباس الحراري المنزلي الذي فرضته علينا الكهرباء اللاوطنية، حيث يتعذر علينا النوم ليلا على سطوح منازلنا خشية الإصابة بالشظايا المتطايرة أو العيارات النارية الطائشة، أو التعرض للغارات الشرسة التي تشنها علينا جيوش البعوض والحرمس والكارص.

في غيابها هبط المستوى العلمي للطلاب وتدنت علاماتهم الامتحانية وهذه الحقيقة تؤكد فقدان الكهرباء لمسئولياتها الوطنية وتخليها عن أبناءنا في مواسم الامتحانات.

يعلم الله بحجم الجهود المضنية والمحاولات الحثيثة التي قطعناها في مشوار البحث عن البديل، استوردنا أكثر من 2 مليون مولدة صغيرة ونحو ربع مليون مولدة كبيرة، واستهلكنا كميات هائلة من الوقود، وتحملنا ضجيج المولدات وصوتها المدوي، وتحملنا الغازات السامة المنبعثة من محركاتها، واستقطعنا من ميزانيتنا المتواضعة تكاليف شرائها وأجور صيانتها وتصليحها.

لقد ترك غيابها جرحا عميقا في نفوسنا، وقلب موازين حياتنا رأسا على عقب، وعصفت بقلوبنا الأشواق بانتظار تحقيق أحلامنا بلقاء قريب يجمعنا بها.

ولا ادري ما الذي يدفعني إلى ترديد هذا البيت من رائعة الشاعر الاندلسي ابن زيدون كلما مررت على لوحة الكهرباء التي تحولت في بيوتنا إلى لوحة تراثية تذكرنا بزمن الامبيرات والفولتات التي حرمنا منها:

حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ   ***   سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا

ـــــ

(1)     -- من ديوان الشاعر محمد الماغوط

(2)     – من ديوان الشاعر عبد الناصر حداد

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 25 آيار/2007 -7/جمادي الأول/1428