التهميش والتجاهل الإعلامي المبرمج

كاظم فنجان حسين الحمامي

 تحملنا من ويلات وأهوال وكوارث ومآسي الحروب ما لم يتحمله إنسان على كوكب الأرض، ونلنا من صنوف القهر والعذاب والتخلف والظلم والألم والتمزق والبهدلة ما لم ينله أحد على الإطلاق، وخضنا مكرهين كل أنواع الحروب والمعارك التي تناولتها القواميس والمناهج العسكرية، حتى بات من الصعب العثور على تسمية ملائمة تنطبق على الحروب الدائرة الآن على ارض العراق، إذ يتعذر تصنيفها وفق التصنيفات التقليدية التي عرفها العالم.

وما زالت الحروب التي تشن علينا تقف خارج المعايير والمقاييس الحربية المعتادة بكل تفاصيلها وبكل مفرداتها المملة،فقد تعاقبت علينا سلسلة متواصلة من كل أنماط الحروب من عالمية أولى وعالمية ثانية إلى مسلسل الصراعات والانقلابات الداخلية وما رافقها من حروب إقليمية واستنزافية وثقافية وإعلامية واقتصادية، أعقبتها سلسلة أخرى من المعارك الشاملة على طول الحدود الشرقية استمرت لثمانية أعوام متواصلة، فقدنا خلالها أكثر من (مليون ونصف المليون) إنسان؛ حسب إحصائيات منظمات الأمم المتحدة.

 تلتها موجة أخرى من الغزوات الخليجية المجلجلة التي بدأت باجتياح الكويت وانتهت برأس الخفجي، فهبت علينا عواصف الصحراء التي شاركت فيها أقوى جيوش العالم وبدعم عربي مطلق لتكتسح المحافظات والمدن العراقية وتسحق بنيتنا التحتية والفوقية، أعقبتها مباشرة مرحلة الهجمات الداخلية الضارية التي قتلنا فيها أنفسنا، فمزقنا أحشائنا بحرابنا، ودمرنا بأيدينا كل ما تبقى لدينا، وكنا نحن الجلاد ونحن الضحية...

 وسقطت علينا مقصلة الحصار، فقطعت أرزاقنا وحطمت أعناقنا، وحولتنا إلى شعب فقير معدم يقاسي الذل والهوان والجوع والأمراض الفتاكة في بلد من أغنى بلدان العالم.وتجاوز الحصار اثني عشر عاماً من السنين العجاف، فقدنا فيها أكثر من (نصف مليون) طفل نتيجة سوء التغذية وعدم توفر العلاج...

 ثم تذرعت أمريكا بحادثة 11 أيلول، فأصدرت استراتيجيّتها الأمنية القوميّة NSS.، واختارت العراق هدفا لها.

 وتسلحت بترسانتها العسكريّة الفتاكة في معركة طاحنة وغير متكافئة، مستخدمة كل أبعاد قواها الجوية والبرية والبحرية والفضائية.  وأطلقت على هذه الحرب الزلزالية اصطلاح (الحرب الأستباقية) ثم قامت بتعديل تسميتها (بعدما استنفرت كل قواتها الغازية) إلى الحرب الشاملة Total، ثم عادت ثانية لتستخدم اصطلاح( الميكرو- حروب، Micro-Wars.)، لكنها تطلق عليها الآن تسمية (الحرب القذرة)، ربما لأنها اشتملت على معظم أنماط الحروب الاغتصابية، والمحدودة، والشاملة، والدفاعية، والأهلية، والنفسية، والكيماوية، والجرثومية، والنجوم  والطائفية، والخاطفة، والرخيصة، وبالنيابة، والوقائية، والحرب على الإرهاب، وحرب المياه، وغيرها. وتحول العراق إلى مستنقع كبير لكل العمليات الحربية القذرة، وفقدنا الأمن والأمان، ولم نذق طعم الاستقرار....

 وتحالفت أمريكا مع حلفائها الصهاينة من بني النضير وبني قينقاع ليضعوا في سرية تامة خطة لمؤامرة تستهدف إشعال حرب طائفية بين السنة والشيعة وبث الفرقة وتمزيق النسيج العراقي (1)، وذلك تحت ذريعة نشر الإصلاح الديمقراطي الغربي بالمفهوم الأمريكي الصهيوني،  ناهيك عن شعارات التحرير البراقة التي أصبحت غطاءا كثيفا لأبشع أنواع الحروب والفتن الطائفية، ومسوغا لتدبير مؤامرة خسيسة حيكت في الظلام تهدف إلى إثارة القلاقل وإشاعة الذعر والفوضى في أرجاء المدن العراقية، وكنا نحن ضحية هذه المخططات التآمرية التي اشتملت على حروب لم نألفها من قبل بهذا الشكل المريع، تعرضنا خلالها إلى أفظع جرائم التخريب والتقطيع والتدمير والتهجير، وطرد الناس من منازلهم وإحراقهم في بيوتهم، ومصادرة ممتلكاتهم، ولم ينقطع مسلسل الحروب، إذ فتحت علينا جبهات جديدة لم تندرج في القاموس الحربي من قبل، ابتدأت بحرب الأسواق الشعبية المنتشرة داخل الأحياء السكنية...

  سيارات مفخخة وصهاريج معبئة بالكلور وعبوات ناسفة تنفجر كل صباح بين أكشاك بيع الفواكه والخضار، حرب جديدة في لقمة العيش، ونموذج بشع للظلم والبربرية والقتل الهمجي.

فمن أساسيات الوجود للناس هو الغذاء والطعام اللازم لاستمرار الحياة البشرية وديمومتها، وهكذا حرمنا من التسوق اليومي، ومازال مسلسل تفجير الأسواق العامة يحصد العشرات من المنكوبين حتى هذه الساعة...

ثم شنت علينا حربا أخرى هي حرب الكهرباء التي بدأت بسرقة القابلوات المحورية وأبراج الضغط العالي، وانتهت بالانقطاع الكلي وتمددت كالسرطان في المدن والقرى وسط لهيب صيف استوائي قوامه رياح السموم والغبار ومعدلات حرارية تفوق الخمسين التهمت العقل والمتعة والتسلية والقراءة والكتابة والسمر والسفر والماء والوقود (2)، ونعيش الآن في فرن الاحتباس الحراري المنزلي المفروض علينا، وحرمنا من النوم ليلا على سطوح منازلنا خشية الإصابة بالشظايا المتطايرة أو العيارات النارية الطائشة، أو الغارات الشرسة التي يشنها علينا البعوض...

ثم تلتها حرب القتل على الهوية التي استهدفت جميع شرائح المجتمع العراقي بصرف النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها، فشملت النساء والأطفال والشيوخ والشباب ولم تسلم من هذه المجازر أي طائفة عراقية مهما كان لونها...

وتفاقمت شدة الهجمات علينا لتشمل هذه المرة الجسور والمعابر الرئيسية،  فدمرتها كليا وحولتها إلى أكوام ركامية، وليس للجسور أي ذنب سوى أننا نعتمد عليها كوسيلة من وسائل النفع العام، تسهل علينا عبور الأنهار والانتقال من ضفة إلى أخرى، فهي مجرد حلقة وصل تربطنا بمدننا وأريافنا.

 وكانت هذه الحروب بداية لسلسلة استهدافات للبنى التحتية التي شملت المعامل الإنتاجية والمصانع الأهلية والمباني الحكومية والمعاهد والكليات والمدارس والمكتبات العامة ودور الطباعة والنشر، وشملت أيضا المراقد المقدسة وأضرحة الأئمة والمساجد والحسينيات والكنائس وجميع دور العبادة، واستهدفت المصلين وزوار العتبات المقدسة..

 تلتها حرب الأطباء والتدريسيين الذين تعرضوا لتصفيات جسدية ولم ينج منهم أي طبيب أو أستاذ جامعي موهوب مهما كان تخصصه، وكانت هذه الحرب بداية لهجرة الأطباء ومؤشر لتفشي الأوبئة والأمراض وتردي الوضع الصحي العام. وبداية لإفشال برامج التأهيل العلمي العالي وتكريس التخلف..

وتسارعت وتيرة سيناريو الحروب بمنهجيتها العدوانية الوحشية وأساليبها القذرة التي لم تستثني احد من العراقيين مهما كان عمره أو جنسه أو انتمائه أو اختصاصه أو مكانته.

وصبت علينا الحروب سوط عذابها وحقدها دفعة واحدة وبخطوط متوازية غير عابئة بحجم الدمار والكوارث والنكبات التي لحقت بنا، وغير مكترثة بقوافل الضحايا والأرواح البشرية البريئة التي طحنتها ظلما وعدوانا.

  فالفضائيات العربية والعالمية كانت وما تزال منشغلة باستعراض نشرات إحصائية يومية لعدد الجنود الأمريكيين الذين نفقوا في العراق بشكل تصاعدي، لكنها لم ولن تبدي أي اهتمام بالعراقيين الذين استشهدوا وجرفتهم بلدوزرات مشاريع القتل والتفجير والتفخيخ والتدمير التي تسحق يوميا 200 عراقي على أقل تقدير، وهو رقم فلكي يكشف حقيقة مفزعة للحروب المستعرة اليوم في العراق، والتي لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج منها في الوقت الراهن فهي شديدة التعقيد داخلياً وإقليمياً إلى الدرجة التي لا يمكن معها صنع شيء.

 وبرغم وضوح هذه المأساة كان التهميش من نصيبنا والموت المحتوم الذي لا مفر منه مصيرنا. الأمر الذي يستدعي ضرورة الانتباه إلى لعبة ( التلاعب بالعقول ( التي تمارسها ضدنا بدهاء وبخبث كل الفضائيات تحت غطاء من الديمقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية (3)، وأصبحنا بحاجة إلى قدر كبير من التمحيص والذكاء في التعامل مع الطوفان الإعلامي المزيف الذي تبثه الفضائيات المغرضة، ليس فقط من أجل تمييز الصواب من الخطأ والكذب من الصدق فيها، ولكن لتجنب حالة خطرة يستدرج إليها المواطن البسيط لاتجاهات إعلامية تهدف إلى تكريس الاحتلال وتجاهل حقيقة ما تفعله بنا أمريكا والجيوش المتآلفة معها، وهذا يعني تعرض العراق وأهله لحرب جديدة من التجاهل والصمت، ويعني التعمد بتجاهل الكوارث التي حلت بنا وعدم النشر حولها وتقليل أهميتها وإبعادها عن دائرة الاهتمام وتحويلها إلى قضية ثانوية أو مجهولة.

وبرغم الويلات والنكبات والأحزان والآلام والدمار والتخريب والإرهاب والقتل العمد الذي نواجهه في ظل الاحتلال الغاشم، برغم ذلك كله نرى وللأسف الشديد أن الكثير من الفضائيات العربية قد تخلت عن إنسانيتها ودينها وعروبتها فانجرفت مع المخططات الأمريكية، وجندت جيوشها لكي تصبح أداة من أدوات الحرب والصراع والهيمنة والترويج للفوضى والتحريض وبث السموم وزرع الفتن وتزييف الحقائق وصب الزيت على النار وإرهاب الناس وتغييبهم ومصادرة حقوقهم،  إلى أن تحامتنا العشيرة كلها وافردنا إفراد البعير المعبد.

وتتراوح مواقف القائمين على الفضائيات إزاء الوضع في العراق: بين شامت وساخر، وبين محرض وكاذب، وبين متباكي ومتشفي، وبين متجاهل وصامت، باستثناء القليل منها طبعا،  ويبدو في الظاهر أن ثمة تنوعا كبيرا في البث الفضائي مستمدا من مخططات معادية مدروسة تهدف إلى زعزعة ثقتنا بأنفسنا، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد يحركها، فالمادة الإخبارية يجري انتقاؤها من الإطار المرجعي الأمريكي الإعلامي الذي يفرض على الفضائيات العربية رغباته، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد.

وكنا كالجبل الشامخ الذي تدكدك ثم مال بجمعه في البحر فاجتمعت عليه الأبحر. وقد آن الأوان لنسترد كرامتنا وحقوقنا وحرياتنا ونستعيد عزتنا، لننهض من جديد ونستعيد على مشارف القرن الحادي والعشرين المكانة التي تليق بنا بأذن الله، ولنتذكر دوما أن أمضى سلاح نقاتل به أعدائنا ويحقق لنا النصر المؤزر هو سلاح المحبة والتسامح والتآلف والتآخي والتراحم والتوادد والتعاون ونبذ كل أسباب وعوامل الضعف والهزيمة من تحاسد وتناقض وتباغض وتنافر.

 اللهم وحِّد كلمتنا، ووحد صفنا، وانصرنا على من ظلمنا يا أرحم الراحمين.  ورحم الله من خدم العراقيين ودافع عنهم، وأذل وأخزى من تعدى على حقوقهم. 

ـــــ

(1) المخاطر من حولنا، بقلم الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي اللواء عثمان كامل،          ( منشور على الشبكة الدولية، الانترنت ).

(2) حرب على الناس، شاكر الانباري، ( منشور على الشبكة الدولية، الانترنت ).

(3) للإطلاع على تفاصيل هذه اللعبة، أقرأ كتاب: "المتلاعبون بالعقول" من تأليف هربرت شيلر، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا والذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت في عدة طبعات (50 ألف نسخة في الطبعة الواحدة ).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22 آيار/2007 -4/جمادي الأول/1428