إننا اليوم مطالبون لإعادة الاعتبار إلى العلم، وتوفير كل
عوامل الاحترام والتقدير إلى كل العلماء والمبدعين. فالاحترام ينبغي أن
لا يكون منحصرا في علماء الدين، والوجاهة الاجتماعية ينبغي أن لا تكون
خاصة برجال الدين.
من الطبيعي القول: أن الأمم والشعوب، لا تتقدم إنسانيا وحضاريا
وتقنيا، حينما تسود فيها ثقافة التكرار والاجترار، وتتحكم في مساراتها
عقليات الجمود ومناهج ليس بالإمكان أفضل مما كان إن هذه الثقافة
الاجترارية لا تخدم التقدم، بل على العكس إنها تزيد من عناصر التخلف
والتأخر في الفضاء الاجتماعي. وإذا تأملنا كثيرا في التجارب الإنسانية
على هذا الصعيد، نكتشف أن ثقافة النهوض والإبداع والحرية، هي جسر
العبور إلى التقدم والتطور بكل مستوياته ودوائره.
ولم تتقدم أمة من الأمم من خلال نهج الاجترار والتكرار أو ثقافة
الجمود وإبقاء ما كان على ما كان. وإنما دائما ملحمة التقدم تبدأ حينما
يتحرر المجتمع من ثقافة الجمود ويتجه إلى الإبداع بكل متطلباته بدون
خوف ووجل. فمسايرة السائد على هذا الصعيد، لا تصنع تقدما، وإنما تزيد
من تأخر المجتمعات، وتعمق حالة الفوات التاريخي بين المجتمعات المتقدمة
والمجتمعات المتأخرة والمتخلفة.
ووجود مدارس وجامعات ومعاهد علمية عديدة، ليس مؤشرا كافيا لخلق حالة
التقدم في المجتمعات. وإنما من الضروري فحص المناهج التربوية
والتعليمية التي تدرس في هذه المعاهد والمدارس والجامعات.
فالمناهج هي المؤشر الحقيقي للتعرف على إمكانية أن تساهم هذه
المعاهد في مضمار التقدم، أو على العكس من ذلك، حيث تساهم في استمرار
الجمود وتغييب ثقافة الإبداع ومتطلباته.
فنحن هنا بحاجة إلى معايير كيفية - نوعية، وليس معايير كمية، لا
تؤسس بالضرورة لمناخات التقدم وحاجات التطور والتنمية. وتقدم الأمم لا
يأتي بالتفاخر في بناء المنازل أو دور العبادة، مع أهمية هذه الدور في
الفضاء الاجتماعي، ولكن بوحدها لا تصنع تقدما، وليس مؤشرا كافيا لسير
المجتمعات نحو التقدم.
إننا اليوم بحاجة إلى بناء معاهد علمية حقيقية، تدرس العلوم
الحديثة، وتعلم أجيالنا الجديدة سبل التعامل الخلاق مع كل مكاسب
الحضارة الحديثة. وخصوصيتنا الوطنية أو الدينية، لا تعني بأي حال من
الأحوال، أن ننفصل عن علوم العصر، أو لا نتعامل من موقع الفهم
والاستيعاب مع منجزات الحضارة الحديثة.
إننا اليوم بحاجة الى أن نبذل الكثير من الإمكانيات والقدرات في هذا
السياق.. إننا اليوم أحوج ما نكون إلى بناء أجيال علمية متدربة، تفقه
التعامل مع التكنولوجيا والتقنية الحديثة. ويحدثنا مؤلف كتاب (المعجزة
في الاقتصاد) آلان بيرفت عن دور الثقافة والعلم في صناعة التقدم في
المجتمعات الإنسانية. إذ يقول: هناك أفكار تركت تأثيرها الكبير. أفكار
يوكيشي فوكوزاو ( - 19011835) مؤلف كتاب (تحفيز على التعلم) صدر في
العام (1872م) ب (220.000) نسخة بطبعته الأولى، ثم تجاوز الستة ملايين.
كتاب يمجد العلوم الاجتماعية والعلوم الفيزيائية. ويضيف المؤلف أن
الكاتب الياباني كان يشدد على الثقافة الجامعية كمضمون يعطي الاستقلال
معناه، وعلى ضرورة الاهتمام بالشيء الغربي".
وقد لاحظ المؤرخ الإنكليزي (لورنس ستون) أن الثورات الحديثة الثلاث
الكبرى: إنكلترا السابع عشر، وفرنسا الثامن عشر، وروسيا التاسع عشر،
تتوافق في هذه البلدان الثلاث مع الفترة التي وصل فيها محو الأمية إلى
نصف السكان..
فالتنافس اليوم بين الأمم والشعوب، لا يحسم بمستوى استهلاك سلع
الحضارة، وإنما بمدى مشاركة هذه الأمم في المنجزات العلمية والحضارية..
وكل هذا بطبيعة الحال بحاجة إلى ثقافة تحترم المنجز العلمي، وتحترم أهل
التخصصات العلمية، وتفسح لهم المجال للبروز والتأثير في الفضاء
الاجتماعي..
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن هناك تزامنا حقيقيا بين الثقافة
والتقدم في هذا السياق. بمعنى أن سيادة ثقافة الجمود والتكرار، يعني
تحول مؤسساتنا التعليمية والتربوية، إلى مؤسسات تساهم في تكريس هذا
الجمود والتكرار. أما إذا كانت الثقافة السائدة في المجتمع، هي ثقافة
الإبداع والحرية واحترام العلم بكل تخصصاته فإن هذه المعاهد والمؤسسات،
تتحول إلى مصدر إشعاع وإلهام لمشروعات التقدم والتطور.
ويسجل الدكتور (جورج المقدسي) هذه المفارقة في كتابه (نشأة الكليات:
معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب). إذ يقول: مع ظهور المدرسة بدأت
المعاهد التي تدرس العلوم الدخيلة في الاندثار تدريجيا إلى أن انقرضت
بحلول القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وهو القرن الذي عمدت
فيه دار الحديث في دمشق، وهي مؤسسة تعليمية وثيقة الصلة بالمدرسة، إلى
رفع مرتبة مدرسة الحديث إلى مرتبة مدرسة الفقه، مع اتخاذها لاسم الدار
في الوقت نفسه،كما لو كانت تقصد بذلك توكيد انتصار أهل الحديث على
بقايا معاهد العلم التي كانت تدرس العلوم الدخيلة، وهي دار العلم وما
شابهها من مؤسسات تعليمية. ومن المعلوم أن المعاهد التي كانت تدرس بها
العلوم الدخيلة (أي الفلسفة، وعلوم الطب والكيمياء والرياضيات
والمنطق...الخ)، هي المعاهد المختلفة التي كانت تلحق بأسمائها مثل هذه
الألفاظ: دار، بيت،خزانة، وهي مكتبات أساسا، وكذلك المستشفيات
والمارستانات، المشتقة من لفظة بيمارستان الفارسية.
فحينما تنقرض معاهد العلم، ويتم التعامل مع العلم بوصفه من العلوم
الدخيلة، فإن المجتمع أي مجتمع مهما أوتي من الامكانات والقدرات، فإنه
لن يتمكن من التقدم. صحيح أنه يستطيع أن يقتني كل سلع ومنتجات الحضارة،
إلا أنه لن يتمكن من استيعاب أسرارها أو القبض الحقيقي على أسباب
وموجبات التقدم الحضاري. فالمجتمعات لا تتقدم بالخطب الإنشائية، ولا
تقبض على أسباب التطور حينما تتعامل مع المنجز العلمي الحديث بوصفه
علما دخيلا ينبغي أن نخدر منه.
إننا اليوم مطالبون لإعادة الاعتبار إلى العلم، وتوفير كل عوامل
الاحترام والتقدير إلى كل العلماء والمبدعين. فالاحترام ينبغي أن لا
يكون منحصرا في علماء الدين، والوجاهة الاجتماعية ينبغي أن لا تكون
خاصة برجال الدين. وإنما من الضروري أن نوفر الاحترام والتقدير إلى كل
العلماء والمبدعين سواء كانوا علماء دين أو اجتماع أو فلسفة أو فيزياء
أو رياضيات أو ما أشبه ذلك.
فالتقدم لا يمكن أن يتحقق إلا بفسح المجال لكل العلماء للبحث العلمي
والإبداع. ومن الضروري أن لا نخاف من العلم ومنجزاته، فالإسلام لم يأت
من أجل تقييد العقول، وإنما جاء من أجل إثارة العقول. وقيم الدين لا
تقتل الإبداع وإنما تحفز على إعمال العقل والتفكير. لهذا فإن تحرير
المجال الاجتماعي من الخوف من العلم والإبداع، من الشروط الأساسية التي
تساهم في تقدم الأمم والمجتمعات. فلنفسح المجال للعلماء للبحث
والإبداع، ولنوفر لهم كل مستلزماتهما. وبدون ذلك لن نتمكن من القبض على
أسباب التقدم أو استيعاب أسرار المنجز العلمي الحديث. ونمارس خديعة
جوهرية لأنفسنا ولمجتمعنا، حينما نتعامل مع المنجز العلمي الحديث بلغة
الاستغناء وعدم الحاجة لأن هذه الرؤية النرجسية الخادعة للذات، فوتت
علينا الكثير من الفرص والآفاق.
فنحن كمجتمعات اليوم أحوج ما نكون إلى المنجز العلمي الحديث، ولا
سبيل أمامنا للاستفادة منه، إلا بتوفير بيئة قانونية واجتماعية وعلمية
حاضنة لهذا المنجز وقادرة على تعريف أجيالنا بأسراره ودقائقه العلمية
والفنية. ولا مبرر للحذر من المنجز العلمي أو الخوف من الإبداع
الإنساني. فالقيم الإسلامية سباقة في تشجيعها على العلم وحثها للتفكير
في آفاق الكون واكتشاف أسرار الباري عز وجل فيه. فلا نمنع عن أنفسنا
خيرات العلم وبركاته بتبريرات واهية أو دعاوى الحفاظ على الهوية
والخصوصية. فكل هذه الدعاوى لا تصمد أمام التوجيهات الإسلامية الصريحة
في طلب العلم وتوقير العلماء واحترام مطالب الإنسان العلمية. إننا
نعتقد أن المجتمعات الإسلامية التي تقدمت، وحققت منجزات نوعية في
مسيرتها كماليزيا،لم تستطع إنجاز كل هذا إلا حينما شجعت أبناءها على
العلم والتعلم، وفسحت المجال للتواصل الحقيقي مع كل معاهد العلم
ومؤسسات المعرفة الحديثة. فالمجتمعات لا تتقدم إلا بالعلم، ولا طريق
أمامنا إذا أردنا التقدم والتطور إلا بناء مؤسسات ومعاهد علمية وطنية،
تأخذ على عاتقها توطين العلم الحديث في مجتمعاتنا، وتشجيع الباحثين
والعلماء على العطاء والإبداع.
لهذا كله فإننا نؤكد في هذا السياق على النقطتين التاليين:
1- الانفتاح والتواصل مع المنجز العلمي الحديث، وهذا يتطلب تشجيع
حركة الترجمة. حتى يتمكن أبناء المجتمع من التعرف بشكل مباشر بالمنجز
العلمي الحديث. فالغرب لم يتقدم في مرحلته الأولى، إلا بتشجيع حركة
الترجمة، حتى يتمكن الإنسان الغربي آنذاك من التواصل العلمي والمعرفي
مع المنجز الحديث.
ويشير إلى هذه المسألة الدكتور وجيه كوثراني بقوله: رافقت تأسيس
الجامعات والكليات في أوروبا حركة ترجمة واسعة، معظمها تم من العربية
إلى اللاتينية. كان الغرب قد عرف بعض كتب ابن سينا منذ القرن الثاني
عشر، أما في الثالث عشر، فإن حركة الترجمة ستصبح منتظمة تتناول شتى
حقول المعرفة. وأهم الترجمات كانت لكتب ابن الهيثم في البصريات، كما
ترجمت بعض كتب الكندي والفارابي والغزالي. كانت طليطلة وجنوب إيطاليا
وصقلية أهم مراكز الترجمة. أما الترجمات التي ستلعب الدور الأهم فهي
ترجمة شروحات ابن رشد لكتب أرسطو وخصوصا لكتب ثلاثة رئيسية لم يكن
الغرب يعرفها وهي كتاب النفس، وكتاب الطبيعة، وكتاب ما بعد الطبيعة.
فالتواصل اليوم مع العلم الحديث، يتطلب تأسيس حركة ترجمة نشيطة،
تأخذ على عاتقها ترجمة العلوم الحديثة من اللغات الأجنبية إلى اللغة
العربية. ونحن هنا في هذا السياق ندعو إلى تأسيس مؤسسة وطنية كبرى
للترجمة، تأخذ على عاتقها ترجمة العلوم والمعارف الحديثة إلى اللغة
العربية، حتى يتمكن أبناء الوطن من الاستفادة منها.
وبلغة الأرقام فإن الوطن العربي وتعداده (250) مليون نسمة يصدر في
السنة ما يقارب (6759) مطبوعة بين تأليف وترجمة منها 548فقط في العلوم.
بينما أسبانيا تعدادها (39) مليونا فإنها تصدر حوالي (41816) مطبوعة
منها (2512) في العلوم.
وإن إجمالي الكتب المترجمة في كامل الوطن العربي، منذ ما بعد عهد
الخليفة المأمون وحتى تسعينيات القرن العشرين، لا يصل إلى (15) ألف
عنوان، أي ما يساوي ما ترجمته إسرائيل في أقل من (25) سنة، أو ما
ترجمته البرازيل في أربع سنوات. أما اليابان فهي تقوم بترجمة ما يزيد
على ثلاثين مليون صفحة سنويا.
2- من الضروري تظهير القيم والمبادئ الإسلامية والإنسانية، التي تحث
على التفكير وإعمال العقل والإبداع، وتشجع على العلم والتعلم. لأن هذا
التظهير هو الذي يطرد من فضائنا الاجتماعي كل الموانع والكوابح التي
تحول دون التقدم وامتلاك ناصية العلم. وأكرر هنا ما ذكر أعلاه أن الدين
الإسلامي، لا يشرع قيودا على العلم والإبداع، وإنما يحفز عليهما، ولا
يحول دون استخدام العقل، بل يعده أحد مصادر التشريع. لذلك فلننهي من
حياتنا الاجتماعي والثقافية، تلك القناعات التي تصور أن الإسلام يجعل
قيودا على العلم والمعرفة. لأن هذه القناعات هي وليدة عصور الانحطاط
والتخلف، وليست تجليا حقيقيا لمضامين النصوص والتوجيهات الإسلامية
الصريحة.
فالعلم هو جذر الحضارة، فلا حضارة بلا علم. وهو جسر العبور نحو
التقدم، حيث لا تقدم بدون علم ومعرفة. لهذا كله آن الأوان بالنسبة لنا
جميعا إلى إعادة الاعتبار إلى العلم، والمساهمة في توفير كل الظروف
والشروط المؤدية إلى سيادة العلم ومركزيته في الفضاء الاجتماعي
والثقافي. |