العَمَلُ فِي المَنْظُورِ الإسلامِيّ

 محمّد جواد سنبه

لم تعرف الإنسانية، ديناً اهتم برعاية الجهد الانساني، سواء كان جهداً ذهنياً أو بدنياً كالشريعة الاسلامية السمحاء.

فهذه الشريعة المباركة تنظر إلى الإنسان نظرة كونيّة خاصة، باعتباره محور حركة التقدم والازدهار في الكون، مادام سائراً في الخط الرسالي لشريعة الإسلام المقدسة.

 فالإسلام ينظر الى الإنسان ليس بوصفه كائناً مرحلياً، تنتهي مهمته بانتهاء حياته، وإنّما الإسلام المجيد يجسد نظرته للانسان، باعتباره خليفة الله تعالى في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...).

 وبما أنّ الإنسان ذو قيمة فوقية مقدسة، فهذه القداسة المخلوعة على الإنسان، تنسحب عليها آثاراً إضافية أخرى، فكرامة الإنسان تشكل منطقة محرمة لا يجوز امتهانها، وحرية التعبير عن رأيه في نطاق الحدود الشرعية مصانة، وغيرها الكثير من الحقوق الملحقة به بالتبعيّة، ومنها العمل.

لقد وردت مفردة العمل، وبعض مشتقاتها الرئيسية في القرآن الكريم (172) مرة، والعمل وفق المنظور الإسلامي، هو نشاط انساني ينظر الله تعالى ورسوله(ص) إليه، حيث قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والعمل مسبوق بنيّة القيام به، والنيّة هي القصد بالعمل، فعلى أساس آليّة هذا التصور، يكون العمل تبعاً لإرادة الإنسان.

فإذا كانت النيّة سليمة وحسنة، فالإنسان يحصل على أجرين، أجر عاجل، مثل استحقاق العامل لأجرته المادية من ربّ العمل، والأجر الأخروي، هو ثواب الله تعالى لهذا العامل، جراء سلوكه مسلكاً صالحاً ونافعاً في المجتمع. و نلحظ انعكاس نتائج السلوك الإسلامي وتأثيره الروحي والنفسي، على العامل المشتغل وفق المنهج الإسلامي، فيشعر العامل بأنّ العمل هو طريق من طرق عبادة الله تعالى، فقد جاء في الحديث الشريف (الكاد على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله).

 وهذا البعد النفسي تنبعث منه عدة اشارات مهمة، منها الإخلاص في العمل، واتقان العمل، اللذان يحث عليهما الإسلام بشدة، فورد في الحديث المبارك (رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه).

 ومن اخلاقيات الإسلام الحنيف، حث العامل على عدم التبذير بالوقت، ومواد العمل، حسب القاعدة الاصولية التي حددها الحديث الشريف (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)، ومنها أيضاً التحذير من الغش (من غشنا فليس منا).

إنّ الإسلام المجيد قد سبق جميع التشريعات المدنية الحديثة، في احترامه للعامل والعمل، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النصوص التشريعية الكثيرة، التي ضبطت مساحة العمل، ونظمت العلاقة بين العامل وربّ العمل. فالتشريع الإسلامي سجل سابقة حضارية في تاريخ البشرية، عبر تشريعاته الصريحة التي تؤكد على حرمة الإنسان، وعدم التجاوز على حقوقه، ولا مبالغة مطلقا لو قلنا أنّ حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، تفوق في اتساعها وشمولها (شرعة حقوق الإنسان)، التي اصدرتها الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول عام 1948، والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، كيوم للاعلان العالمي لحقوق الإنسان.

 فالإسلام ينظر بشموليّة تستغرق الكون كلّه، والى جميع عناصره وموارده، دون استثناء، وعناصر الكون الماديّة، هما الإنسان والبيئة. لقد عانت الإنسانيّة في فترات العبوديّة الأولى، التي مرّت بها العصورالقديمة، حيث بدأ الإنسان القوي، يستعبد الآخر الضعيف، ويسخره لمصالحه، فاصبحت القوّة هي مصدر السطوة في المجتمع آنذاك، بدلا من القانون في العالم المتحضر الآن.

 وفلسفة الإسلام في احترام اليد العاملة، تنطلق من كون العامل هو المصدر الرئيسي في تحويل موارد الطبيعة الأوليّة، التي وهبها الله تعالى للانسان، كما ورد في قوله تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، لتصبح هذه المواد البسيطة منتجات نافعة، تلبي حاجة الافراد والمجتمعات، فلا بدّ أنْ يكون عمله البدني ونشاطه الذهني محترماً ومقدراً، بشرط مسايرتهما لخط شريعة السماء. فهذا الخليفة يجب عدم ابتزازه عن طريق استغلال حاجته الحياتية، وعوزه في جانب معين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في اعطاء حق العامل الأجير قال : (لا يجف عرقه حتى تعطيه أجرته).

إن الإسلام العظيم يشجع اليد المنتجة، فيعطي لليد الأولى، التي تحيي موارد الطبيعة الأوليّة، وتحولها إلى موارد نافعة ومفيدة الحق في استثمارها، كمحاولة استصلاح الأرض الميتة (غير النافعة)، دون أنْ يستغل جهده أحد، كما هو الحال في النظم الرأسمالية أو الاقطاعية. فيروى أن سائلا سأل الإمام الصادق (ع)، عن رجل زرع أرض رجل آخر بغير إذنه، حتى إذا نضج الزرع،  جاء صاحب الأرض فقال : (زرعتَ بغير إذني، فزرعك لي، ولك عليّ ما أنفقت)، أله ذلك أم لا ؟ فقال (ع) : (للزارع زرعه ولصاحب الأرض كرى أرضه).

هذه الصورة توضح لنا  نظرية الإسلام في استثمار اليد العامله، هذه اليد التي قدّرتها الشريعة الإسلامية، من خلال الكثير من النصوص الشريفة. كما أنّ الإسلام الحنيف، يهدف الى التطور والرقي في الحياة الدنيا، متبنياً مبدأ تحقيق الفائدة للمجموع، فالمجموع يعتبر هدفاً مركزياً للاسلام، كما الفرد هدفاً مركزياً له، دون الحاق حيف أو ضرر على جانب دون آخر.

ومن أجل التعرف على الخطط التنمويّة والاعماريّة، التي يتبناها الإسلام المجيد في بناء دولته، نرى أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، يستحث عامله على مصر مالك بن الحارث الأشتر(رحمه الله)، على الانفتاح على برامج الإعمار وتنمية البلاد اقتصادياً، وأنّ اهمال الإعمار في البلاد يؤدي الى دمارها واضمحلال اقتصادها، فيقول (ع) : (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاََْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاََِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً).

هذه هي نظرة الإسلام الثاقبة في بناء المجتمعات المتحضرة، فالحياة في الإسلام هي ميدان العمل والكفاح، من أجل صنع مستقبل مزدهر للشعوب. فأمير المؤمنين (ع) يؤمن بأنّ البناء والإعمار، يعكسان مدنيّة الشعوب، وبذلك يؤسس أمير المؤمنين (ع) لنظرية نشوء الحضارات، قبل أن ينظّر لها (ابن خلدون) بسبعة قرون، وينبهر بنظريّة الأخير الكثير من الأكاديميين والمفكرين والمثقفين والباحثين، في شرق وغرب العالم العربي، فضلاً عن الباحثين الغربيين، فيشير الإمام (ع) بأنّ العمران يوضع وفق خطة مدروسة، تتماشى مع امكانية الدولة المالية، وإن الضدّ من الإعمار، هو اتباع سياسة الافقار الاقتصادي للمجتمع، التي يتبناها المسؤولون المنحرفون، في ظل تفشي الفساد المالي والاداري، في مفاصل الدولة، فيقول (ع) : (فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاََْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِِِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ).

هذا هو الإسلام، دين علم وعمل وبناء وتقدم وازدهار، لا شريعة ذبح وقتل وتدمير وتهديم و ارهاب. إنه دين يرعى حاجات الإنسان، ويضع الحلول العمليّة لتأمينها، لا أن يستأصل الإنسان من الحياة، كما يفعل الإرهاب الظلامي اليوم في إبادة الإنسان وبالتالي إبادة العمل.   

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثلاثاء 15 آيار/2007 -26/ربيع الثاني/1428