أشارت آخر إحصائية لوزارة المهجرين والمهاجرين العراقية إلى
زيادة ملحوظة في أعداد العوائل النازحة قسراً، وذكر مصدر مخول في
الوزارة إلى أن أعداد هذه العوائل بلغ (26858) عائلة في مختلف محافظات
العراق، عدا إقليم كردستان.
موزعة على: محافظة بغداد 4642 عائلة، محافظةالمثنى1585عائلة، محافظة
واسط 2290 عائلة، محافظة ميسان 1831 عائلة، محافظة ذي قار 1668 عائلة،
محافظة البصرة 1040 عائلة، محافظة كربلاء 3120 عائلة، محافظة بابل 700
عائلة، محافظة القادسية 650 عائلة محافظة النجف 2710 عائلة، محافظة
الانبار900 عائلة، محافظة ديالى 2240 عائلة محافظة صلاح الدين 2500
عائلةـ محافظة كركوك 274 عائلةـ محافظة نينوى 713 عائلة.
إن هذه الأرقام لا تمثل إلا أولئك المقيمين في مخيمات لجان الهلال
الأحمر التي أقيمت في مدن وميسان والكوت وكربلاء والنجف والمحافظات
الأخرى في جنوب العراق والفلوجة وسامراء غرب وشمال بغداد إضافة إلى بعض
مناطق العاصمة بغداد.
إن الأرقام الرسمية لا تلحظ أولئك النازحين الذين فروا إلى أقاربهم
أو انتقلوا من حي لأخر في العاصمة بغداد. وبهذا فلا يمكن معرفة الأرقام
الحقيقية باستثناء القول: إنها اكبر من هذه الأرقام المعلنة. كما إنها
تعدَّ اكبر عمليات تهجير قسري متبادل يكاد يأتي على العراق وأهله دون
استثناء ليعيشوا في المخيمات الطائفية هذه.
ولعل ظاهرة التهجير القديمة بحلتها الجديدة التي بدأت تطفوا إلى
السطح في بلدنا هي مرحلة متقدمة الخطورة من المراحل السابقة، فالبلد مر
بمراحل مماثلة ولكنها كانت مقتصرة على المستوى التنظيمي للدولة
الحاكمة آنذاك. فقد ظل التهجير يعتمد على نوع الدولة وتباين درجة
تمييزها بين المواطنين، ولعبت الحكومات العراقية السابقة على أكثر من
وتر في التمييز والتفريق بين أبناء الشعب العراقي الواحد، وتحت مسميات
عدة تبتكرها الأجهزة الأمنية لتلك الحكومات مستغليين التنوع العرقي
والقومي والطائفي والديني.
وفي نظرة سريعة لتاريخ الاجتماع العراقي، يقول الإمام الشيرازي
(قدس) في كتاب الهجرة والتهجير نبذة تاريخية عن تركيبة الشعب العراقي
منذ العصور القديمة:( يتألف الشعب العراقي من مجموعة من القوميات
كالعرب، والأكراد، والتركمان، وبعض الأقليات الأخرى، والغالبية العظمى
من الشعب هم من العرب، وهذه الغالبية أيضاً منقسمة إلى قسمين: عرب
عراقيين بالأصل، وعرب سكنوا العراق هم وآباؤهم وأجدادهم وهؤلاء كانوا
يُسمون قديماً (بالموالي) وربما كانوا من أصل فارسي أو تركي أو ما
أشبه، وقد عاشوا في العراق وولدوا في العراق، وتجنسوا بالجنسية
العراقية، وبعضهم لم يمنحوا (شهادة الجنسية العراقية) بالمصطلح الحديث
أو أنهم لم يتقدموا بطلبها، وبعضهم كتب في صحيفة أحواله المدنية اسم
(تَبَعي). والظاهر أن المسألة هي ذاتها قديماً وحديثاً ـ من حيث
التفرقة بين هذا عربي وغير عربي ـ، إذ لم يتغير من الأمر شيئاً إلا
لفظة (الموالي) التي كانت السائدة في العصر الأموي فتحولت إلى التبعية،
واستغل نظام الحكم في العراق هذه اللفظة ـ أي التبعية ـ والتي تتنافى
مع الروح والتعاليم الإسلامية التي أُمرنا باتباعها؛ لأن المسلمين كلهم
سواسية ولا فرق بينهم وهم أبناء الإسلام، واخوة في الدين، ووطنهم
الواحد بلاد الإسلام أينما امتدت فلا يجوز شرعاً إخراج وتهجير وتسفير
أحد لمجرد أنه من أصل آخر. فقد قال تبارك وتعالى: ((إن هذه أمتكم أمة
واحدة وأنا ربكم فاعبدون)) الانبياء 92. وقال عز من قائل: ((يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
الحجرات13).(أنتهى النص)
ولعل سياسات النظام العراقي السابق في تغيير التركيبة السكانية في
مناطق عدة من العراق خاصة حملات التهجير القسري ضد العراقيين من أصول
إيرانية، ثم حملات التعريب في المناطق الكردية؛ هي لا تختلف اليوم عن
تلك الحملات العشوائية الواسعة التي تجري في مناطق مختلفة من العراق
وبدافع المذهب والطائفية.
ويلمس المراقب للحدث العراقي عن كثب، ومن غير مصاعب كبيرة بأن
موضوع المهجرين، أو ما يصح أن نطلق عليه( بالتهجير الطائفي والعرقي)
قد بدأ أول الأمر بصوت خافت في الأوساط السياسية والاجتماعية المحفوف
بالقلق ورافقه رفض واستنكار الشارع الواسع، ولا سيما الطبقات والشرائح
المتنورة. ولكن انتهى الأمر منذ أكثر من عام تقريباً من الشكوك والحيرة
الصامتة إلى الحالة العلنية.
وانتقل الموضوع ليصبح حديثاً يخرج عن كونه يتناول حالة منفرة، بل
ظاهرة عيانية مشفوعة بالأدلة والأسماء والأماكن، مقرونة بلغة إحصائية
تؤشر أزمنة وأمكنة وأعداد من تنطبق عليهم مواصفات هذه الظاهرة التي
بلغت من الخطورة إلى الحد الذي دفع منظمات الإغاثة الإنسانية على تعدد
مسمياتها إلى اخذ زمام المبادرة والتحرك السريع لمد يد العون والنجدة
إلى اسر لا تجد مأوى، وأطفال حرموا من التعليم والدراسة!.
ولعل أهم الأسباب التي حركت تلك الظاهرة أو التي أخرجتها من
رقدتها تتركز في جملة أمور منها :
1ـ الاحتلال فهو يمثل الأرضية الخصبة لنشوء أي توتر في كل موقع
يطأه وهو منشأ الصراعات في أكثر الدول التي تم احتلالها.
2ـ وجود أجندة خارجية في محاولة لتفكيك العراق ناتجة من خطر العراق
المؤرق لبعض الإطراف والناشئ من ارث تاريخي طويل ناتج عن طبيعة
الحكومات العراقية المتعاقبة ومحاولة تفتيت المارد العراقي ليتحول إلى
أجزاء متصارعة يسهل السيطرة عليها.
3ـ عوامل داخلية متمثلة بصراعات سياسية استخدمت الورقة الطائفية
كوسيلة تهديد أو ضغط على الإطراف الأخرى في محاولات لتمرير مشاريع خاصة
بكتل تنقسم إلى خطين متعاكسين.
وعندما نلقي نظرة سريعة على الأرقام التي ذكرتها وزارة المهجرين
العراقية، نرى أن أول العمليات في سياسة التهجير بدأت بمحيط العاصمة
بغداد حيث شملت المناطق الشمالية والغربية والجنوبية أو ما يسمى
بالحزام الجنوبي والغربي والشمالي للعاصمة والتي تشمل مناطق(الدورة،
أبو غريب، المحمودية، اللطيفية والطارمية وغيرها).
وبموازاة هذا الاصطناع لخطوط التماس خارج بغداد هناك محاولات بدأت
مبكرة لتصنيع خطوط تماس داخل بغداد وفي ضواحيها لتكون امتدادا وعمقا
استراتيجيا للخطوط أنفة الذكر خارج بغداد.
حيث أن مدينة بغداد شهدت عمليات تطهير طائفي منذ اكثر من عام ونصف
العام ولكنها تكثفت، بشكل واضح، بعد أحداث سامراء لتغدو ظاهرة ملموسة
حيث كانت مناطق شرق قناة الجيش في جانب الرصافة تمثل خط تماس أساسي في
استراتيجية تطهير طائفي منظمة لمناطق مختلفة ذات غالبية شيعية. وهناك
محاولة متواصلة لدفع هذا الخط غربا نحو نهر دجلة وسط بغداد أكثر فأكثر،
وبالمقابل هناك محاولات تبدو واضحة في مناطق جانب الكرخ التي هي على
تماس مباشر مع محيط بغداد الغربي والتي يراد لها أن تكون صافية طائفيا
لصالح السنة العرب على حساب الشيعة العرب.
إلا أن الطامة الكبرى والداهية العظمى كانت في الموقفين الرسمي
والسياسي للدولة العراقية التي ظلت تتبادل الاتهامات بمن المسبب واكتفت
بتقديم قنينة ماء وبطانية وخيمة سكن للعوائل المهجرة تاركة وراء ظهرها
خطورة الحالة وتأثيرها المستقبلي.
والحق ان هناك مسألة تستحق الالتفات، وهي أن عمليات التهجير وان
خضعت في إطارها العام إلى ”أهداف ومصالح “ وأجندات كما يقول أهل
السياسة، وجرت على مستوى التطبيق الميداني أساليب تهديد مباشرة وعلنية
وبشتى السبل، ولكنها تسببت من ناحية أخرى في نشر الذعر العام إذا صح
التعبير. حيث باتت الحالة سوقاً رائجة لأصحاب الغرض السيئ وللعصابات
الخارجة عن القانون والتي لم تترك واد الا وسلكته وهكذا فقد رحل الكثير
من العوائل" احترازياً" واستباقاً للوقت ليكونوا أصحاب المبادرة قبل ان
تفرض عليهم وتكون القضية بين الحياة والموت.
لقد تجاوزت الحالة كل الخطوط ولم تبق هنالك خطوط حمر أو زرق
ولاسيما بعد أن نعرف بأنها بدأت تأخذ منحى قوميا وليس طائفيا كما يشاع
الآن، حيث هجرت الكثير من العوائل المسيحية وغيرها من القوميات الأخرى
من منازلها بعد أن تمت المراحل الأولى من التهجير الطائفي وبنجاح ساحق.
أن متابعة عمليات التهجير بصورة دقيقة تبين لنا النتائج الآتية :
1. أن العمل في هذا المخطط جار على قدم وساق من اجل خلق مناطق
مقطعة تتميز كل واحدة بصبغة خاصة وتبقى خطوط الاحتكاك بينها مواطن توتر
مستمر وساحات فارغة يمكن الدخول إليها بسهولة مما يسهل إثارة الفتن
الطائفية والقومية فيما بينها تمهيداً لحرب طائفية.
2. تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي وابداله بصبغة طائفية أو عرقية
وتحويل نعمة التنوع إلى مشكلة تؤرق العراقيين وباب للاحتقان الطائفي
يمكن أن يفتح في أي لحظة.
3. خلق جبهات متقابلة لدى جميع الإطراف واستخدام أصحاب الغرض السيئ
والنفوس الضعيفة في تهديد جميع الإطراف وبلباس القومية المغايرة لكل
طائفة.
إن عمليات الترحيل والتهجير إنما هي وسيلة من الوسائل المتبعة
في خلق الحروب الأهلية وما جرى في البوسنة والهرسك من تهجير وتغير في
التركيبة السكانية وغيرها خير دليل على النتائج المدمرة على مثل تلك
المخططات والتي مازالت تعاني أكثر الدول من نتائجها التاريخية حتى هذه
اللحظة بالرغم من انتهائها قبل أعوام عدة.
لقد كان العام المنصرم( 2006) عام الكارثة الوطنية بكل ما تحتويه
الكلمة من تعبير، والدولة بطبيعة الحال تتحمل الجزء الأعظم من هذه
الكارثة، إلا إننا نعرف أيضاً أن المصائب إذا حلت لا تعرف من الجاني
ومن المجني عليه فقانون الكون يسير من النظام إلى اللانظام وهذه حقيقة
أزلية لا يمكن تجاهلها.
ترى كيف سنواجه إعصار التمزيق والتشتت وهل باستطاعتنا تسليم بلدنا
إلى الأجيال القادمة واحداً معافى كما وجدنا ه؟
أن الإنسان الذي أوكلت إليه اكبر مهمة في هذا الكون ليس بعاجز على
الإطلاق في حل الالتباسات القائمة عن التغيرات السياسية والتركيبات
الناتجة عن تغير الحكومات المتعاقبة.
فنحن واثقون من أن العمل الميداني الحقيقي والمخلص وباليد العراقية
المخلصة سيكون الحصن الحصين بوجه هذه النعرات والمخططات.
ويمكن ان يتم ذلك من خلال:
1. البدء من ارض الواقع وفي المناطق التي تحدث الظاهرة فيها فيتم
تشكيل لجان مشتركة من أهالي المناطق ومن عقلاء القوم حصراً لمواجهة
أصحاب الغرض السيئ والدخلاء وتكثيف الجهود في بيان خطورة الحالة على
الجميع وأثارها المستقبلية.
2. استخدام المنابر الدينية وصلوات الجمع والجمعة بالاتجاه
الإيجابي في بيان خطورة المرحلة والتشديد في مراقبة الخطب في تلك
المنابر ومن قبل الجهات الدينية حصرا واستخدام بنود وثيقة مكة كعامل
أساس في التأكيد على حرمة جميع الطوائف.
3. تشكيل لجان قانونية خاصة في تشريع قانون لمعاقبة المحرض والمروج
والمستغل والمنتفع من الحالة على حدِ سواء والتحرك بالسرعة التي تسبق
انتشار الحالة في أية منطقة.
4. إسناد الجهود السياسية والاجتماعية في تلك المناطق بقوات خاصة
تابعة لإحدى الوزارات الأمنية مهمتها الرئيسة العمل الاستخباراتي
والتنفيذي ضد المحرضين والمنفذين.
5. حشد الطاقات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات
الإنسانية في مواجهة الظاهرة وبيان أثارها السلبية على الجميع.
6. التأكيد على الوجود العشائري في القضية وإعطائه الدور الأكبر في
المواجهة لما لهذا الوجود من ثقل كبير في الساحة العراقية.
* قسم الرصد والتحليل
مركز الدراسات والتطوير
حركة الرفاه والحرية |