مناوشة بحرانية لزبالة الحكومة

كريم المحروس

همس أحد الوزراء المثقفين في إذن وكيل له بهذه الجملة:"في تعدد زبالة البحرانيين يكمن تحضرهم". وكان هذا الوزير يتأمل بوجدان خالص أن يستجمع البرلمان قواه ليصدر مشروعا بقانون أو بـ"رغبة" يحمل مضامين هذه الجملة المدنية الرائعة..

 ولكن وكيله من خلفه مشغول البال دائما، خشي - بإزاء ذلك - مساءلة برلمانية تتراكم على أخرى في قضية منظمة سرية طائفية قد تطيح برأس الوزارة. فلا جدوى من التمني بـ"التعددية" في "ادرامات"الزبالة، لأنها باتت مسألة فرعية جانبية لن تلقى رعاية من أحد!.

المدير الوزاري من جهته كان واحدا من بين اثنين أسر لهما الوزير بجملة "تعدد الزبالة"، فنصح الوزير بنصيحة مشجعة على خلاف خشية وكيله، حيث قال له في لقاء عادي: لماذا يخشى الوزير هيبة البرلمان في الواقع العملي بينما تؤكد كل نصوص التعاقد بين الحاكم والمحكوم على أن للوزير صفة رسمية تفوق صفة عضو البرلمان، فإن شاء الوزير الاستجابة لمساءلة البرلمان أجاب، وإلا رفض بكل أنفة وكبرياء. فلا مساءلة بمعناها القانوني إلا أمام الملك، وللبرلمان حق الـ"رغبة" بمساءلة أو الاستئناس بها.. لا عليك.. هون عليك.. المفاتح كلها بيد رأس الدولة، "وغفصة" الوفاق وهم فلا همّ لك!

أحد أعضاء برلمان الوفاق كان "نحيسا" "لفوفا" يعرف تماما ما كان يعتمل ذهن هذا الوزير المثقف ذي التمني بالحاويات. وفي خطوة مفاجئة لقياس رأى عام، حدّث بعض أبناء دائرته في لقاء مجلسه الأسبوعي وتساءل في نهاية حديثه لهم: ماذا لو فرضت عليكم الحكومة نصب "درامين" للزبالة أمام بوابة كل منزل، أحدهما لجمع مخلفات الرسائل البريدية وما كان في حكمها، والآخر لجمع المخلفات المنزلية الأخرى، مقابل شرط واحد بسيط يتمثل في سعي جاد منكم للمحافظة على هاتين الحاويتين لأنهما ملك عام مقدم إليكم مجانا من الحكومة؟!.

أخذ حديث النائب هذا بأطراف دائرته.. فعم أبناءها الاستغراب والعجب لسببين أساسيين، أولهما: أن الرسائل البريدية قليلا ما تفد على منازل البحرانيين لأن مبدأ المشافهة عبر التلفون، والشياع المفيد للإطمئنان بين الناس، واللقاء المباشر مع الدوائر ذات العلاقة، هي الحال الغالبة والسائدة منذ عهد "حوطة حمير ماى الحنينية" في سوق المنامة، بل أن هناك من المواطنين البحرانيين من لم يعرف رسالة واحدة اقتنصها عنوان منزله منذ ولاته حتى هذه الساعة غير فواتير الماء والكهرباء التي تضل طريقها أحيانا. وأما السبب الآخر: أن الحكومة لم تتبن بعد مشروعا واحدا لتدوير مخلفات المنازل.

عقد بعض أبناء هذه الدائرة لقاء خاصا في مجلس غاب عنه ممثلهم، فتداولوا صورا منطقية بازاء افتراض هذا النائب، كان من بينها: نجزم مطلقا أن هناك صلة بين "ادرامات" الزبالة والمنظمة الطائفية.. ألا تكفي كل منزل حاوية واحدة، فهي تفي بالغرض على أي شكل كانت.. ولا حاجة لافتراضات ممثلنا النيابي.. نرفض مبدأ "تعدد" الزبالة وحاوياتها مطلقا.. زبالة واحدة تكفي؟.

أحد حاضري اللقاء بدت على وجهه ابتسامة عريضة من بين الوجوه التي كانت عليها غبرة.. انتصب.. أضاف على ما قيل في سخرية: وعلى المواطنين ألا ينسوا منذ اللحظة أن من ضرورات صيف السياحة العائلية – الذي تروج له وزارة الإعلام حاليا - أن تتميز البحرين بحاويات قمامة شفافة وبلا غطاء وموزعة بلا نظام في زوايا الشوارع.. لماذا ؟!..حتى يتمكن السائح الوافد إلى صيف هذه الجزيرة من تلقى صور تطبيقية شفافة عن مستوى الخير الذي عم البحرانيين بعد تطبيق مبادئ مشروع الإصلاح !.. روائح كريهة تنبعث ليلا ونهارا تزكم الأنوف، ومشاهد مروعة لمخلفات المطابخ والمطاعم تهز الأبدان، وقطط سود تتقاتل على مخلفات الخير كله في عمق الحاويات.. فلا حاجة لنا بالافتراضات في تعدد زبالة الحكومة.. بل أن هناك وقائع تؤكد سخافة هذا الافتراض أورد إليكم يا "ربع" بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

-   تنتظر الإجابة على مسألة إدارية في إحدى الوزارات، وبعد تسعة شهور من الانتظار تكتشف في زيارة مراجعة لهذه الدائرة أنك لم تستكمل الوثائق المطلوبة، فهل من الواجب على الدائرة المختصة إخطارك بهذا النقص عبر رسالة تبعث على عنوان بيتك منذ اليوم الأول لتسليمك الوثائق ؟!.. ومثلكم كثيرون، والمراسلة تشكل عبأ ماليا وإداريا على الحكومة!

-   يصل حسابك المصرفي مبلغا من المال. فتضطر للاتصال بالمصرف لتعرف مصدر المال، فتكتشف أنه صادر عن دائرة حكومية قررت تعويض بعض منتسبيها عن فترة عمل حرجة لم تدون في جدول ساعات العمل. فهل من الواجب على الحكومة إخطارك بواسطة رسالة مفصلة عن مبلغ التعويض وتاريخ تحويله ؟!..ومثلكم كثيرون، والمراسلة تشكل عبأ على الحكومة!

إذن، لا حاجة لنا في "تعدد" حاويات القمامة، تكفي واحدة وبس!

شاءت الأقدار أن يلتقي الطرفان الوزير "أبو الحاويات" ونائب الوفاق "النحيس" في مجلس زواج غص بالمتطفلين من رواد الأكل والشرب المجان. فقرر عضو البرلمان رياءً لفت الوزير إلى قضية مهمة موجبة لفك الطوق عن مصادر المعلومات وأهمية تداولها بشفافية مطلقة، لأن من شأن ذلك تفعيل دور الرقابة البرلمانية على مقدرات الدولة، فقال في هدوء والناس تمعن النظر إليهما من بعيد:

أذكّرك يا سعادة الوزير: نشرت صحيفة بحرانية قبل أكثر من عام خبرا مفاده: "أن نظام المعلومات التابع لأحد المصارف البحرانية تعرض للاختراق، فخسرت حسابات المواطنين مئات الدنانير سحبت عن طريق الصراف الآلي"، ومن دون أن تشير هذه الصحيفة إلى هوية المصرف ولا إلى ما يدل عليه.

وفي اليوم التالي لنشر الخبر الصحفي المقتضب كُتمت أنفاس الحدث بسرعة الضوء، وحجبت عن المواطنين تفاصيله، وأرسل المصرف المخترق كشوف الحسابات إلى أصحابها في موعدها المحدد بشكل اعتيادي جدا وبلا أية إشارة إلى الحادثة ولا مقدار المبالغ المسروق من كل حساب مصرفي.

سعادة الوزير.. بعد أيام شكا زبائن المصرف من بطاقاتهم المصرفية التي لم تعد تعمل في الصراف الآلي وهم غافلون عما يجري.. سرقت مئات الدنانير من حساباتهم في أوقات ومصارف آلية مختلفة وهم على ثقة مطلقة في نزاهة مصارفهم، فلا حاجة عندهم للتدقيق في جداول كشوف الحسابات وأعدادها المملة!.

ما أطوّل عليك الحديث يا سعادة الوزير.. لم يتلق المودعون رسائل تعلمهم بوجوب استبدال البطاقة، ولا رسائل تعلمهم بأحوال حساباتهم وحجم الخسائر المدونة في الكشوف، ولا رسائل كاشفة للقضية برمتها أو على نحو إجمالي. وبعد مراجعات مباشرة من بعض المودعين ؛ طلب المصرف من الجميع استبدال بطاقة الصراف الآلي ببطاقة أخرى سحب جديدة مقابل دنانير معدودة بحجة التوسع في وظائف البطاقة إلى مستوى دولي!

اكتشف بعض المودعين بعض مظاهر الفضيحة الكبرى من خلال الأعداد الغفيرة المتجمعة عند بوابة المصرف لاستلام بطاقة السحب الجديدة بعد أن كان كل واحد منهم يظن بأنه الوحيد الذي يجب عليه المراجعة لاستلام بطاقة سحب. فراجع بعضهم الكشوف المصرفية ليصل إلى أرقام مذهلة.. مسحوبات بمئات الدنانير  !.

حتى تلك اللحظة المثيرة من الفضيحة لم يُشعر المصرف أحدا بحجم السرقات والخسائر المصرفية ولا أسبابها، وتعامل مع كل قضية حساب سطو بشكل فردي شفهي، ولم يتلق المودعون أية رسالة تعلمهم بأية إجراءات قد تثير الشك أو الطعن في نزاهة المصرف، ولم يعوض الزبائن عن خسارة حساباتهم المصرفية. وعندما اشتكى البعض من عدم أداء المصرف واجباته بشفافية مع أصحاب الحق وتعمد المصرف الامتناع عن تزويد المودعين بوثائق التحقيق في حساباتهم خاصة فضلا عن امتناعه عن الإجابة المدونة على المراسلات التي انهالت على دوائر المصرف ؛ كانت الإجابة شفهية بدم بارد: "إن كل الإجراءات قانونية فلا حاجة لردود برسائل تفصيلية أو مجملة ".

إذن يا سعادة الوزير.. لا حاجة لنا في نظام مراسلة قد تعد بعض رسائله وثيقة مانعة للثقة، فالمصرف كبير معتبر، ويراد له حكوميا الديمومة والبقاء، وسمعة سوق المال في البحرين فوق كل حق.. والحكومة كلها سرية لا نظام مراسلة لها فكيف بالمصارف وبقية مؤسسات القطاع الخاص.. لا حاجة لنا إذن في تعدد "ادرامات" القمامة!.."كلهه جلمتين شفهيتين " تصرف للمراجع وانتهى الأمر، فلماذا الإسراف في المراسلة؟!

"تنحنح" الوزير.. وضع ذهنه أمام هذه الحقيقة واستقام بهيئته أمام "نحاسة" عضو البرلمان الوفاقي ورد بتفوق وشفافية ظاهرة: كيف عرفت بآمالي في الزبالة وأنا لم أفصح عنها إلا عند وكيلي ومدير وزارتي.. لا يهم.. تثقف.. هل تعرف أن بلاد أخرى قطعت أشواطا أساسية في تثقيف مواطنيها بوجوب تبادل المعلومات وشفافيتها بين مختلف الجهات الخاصة والعامة؟. ولأن تبادل المعلومات وشفافيتها أمر واجب بين المواطن والحكومة ومؤسسات المجتمع المدني ومن شأنه توليد شبكة مراسلات عظيمة معبرة عن فعالية مبدأ التوازن بين الحق والواجب ؛ ذلك تطلب فرزا منظما لمخلفات المنازل، فاستدعى الأمر تزويد المواطنين بنوعين من الحاويات بلونين مختلفين متفق عليهما إقليميا: حاوية زرقاء اللون لجمع مخلفات البريد المنزلي اليومي وما في حكمه، وحاوية خضراء اللون لجمع مخلفات المطبخ والاحتياجات البشرية الأخرى.

خلك يمي أيها النائب.. ما يهمني كوزير في هذه اللحظة هو حجم ما تجمعه الحاوية "الزرقاء" التي تشكل مظهرا من مظاهر التبادل المعلوماتي الحضاري بين المواطن وعالمه المؤسسي المحيط به، عامه وخاصه، كما تشكل تعبيرا رائعا عن تمكن المواطن من تنظيم شبكة مراسلاته، فيتقلى مع كل رسالة ردا واجبا من أعلى سلطة وسلم وظيفي أو من أدناهما في البلاد. كما أن عدد الرسائل المرسلة والمستقبلة تشكل دليلا حضاريا على تطور نظام المعلومات وشفافيته في الحكومة ومؤسساتها ودوائرها فضلا عن مؤسسات القطاع الأهلي.. العيب في المواطن الذي ينأى بنفسه عن نظام المراسلة ولا يكلف نفسه عناء السؤال عن رسائل تفصيلية من المؤسسة التي يتعاطى معها..أما حكومتنا فقد اعتادت تنظيم المعلومات الأساسية في مركز المعلومات الخاص بها والخاضع لنظام أمني صارم في مستوى نظام قانون أمن الدولة، بل هو هو، ولا علاقة للمواطن بهذا الشأن.. والأمر مرهون بك كنائب، فلك الحق وحدك في طلب المعلومات إن شئت!  

الموقف في هذا اللقاء كان حساسا جدا..تطلب من النائب الوفاقي أن يرد الصاع صاعين أمام الناس الممعنة النظر إليهما.. لكنه اكتفى بمقاطعة حديث الوزير، وأبدى شيئا من المرونة المكتسبة عن مؤتمرات التقريب بين المذاهب وعن صلاة الجماعة "الشيعية السلفية السنية" تحت قبة البرلمان.. أراد أن يقيل عثرات الحكومة.. قال:

فإذا كان المصرف المصاب في دائرة معلوماته له من الاحتياطات ما يمنعه من تزويد زبائنه بالرسائل العادية خوف التوثيق أو الإدانة، أفلا يحق لحكومتنا الرشيدة القائمة على هذا المصرف وعلى كل مؤسسات الدولة العامة والخاصة أن تحجب المعلومات عن مواطنيها لأسباب أمنية خاصة قد تدخل البرلمان في مساجلات محبطة لعمل الحكومة ؟!

لف الوزير "بشته" من جلوس وأبدى ابتسامة صفراء، ورد بالقول:  الحكومة أخذت على عاتقها مسألة المصارف وسرقاتها في سرية تامة، وتدارست مسألة حجب المعلومات وعتمة المراسلة - بين لجان استشارية مختصة، حتى توصلت نتائج الدراسة إلى أن إطلاق المعلومات والشفافية في مختلف القطاعات العامة والخاصة يستتبع إصدار إذن وزاري رسمي بتوزيع حاويات قمامة "زرقاء" قد تشكل ملاذا لمنظمات سرية أخرى، وقد تعزز من حرائق عصيان شباب المظاهرات والإعتصامات.. هذا الأمر كله يستنزف المالية ويخل بميزان مدفوعات الدولة.. فخير لنا ولكم البقاء على ضرر حاوية زبالة واحدة !

هلم بنا يا سعادة النائب نأكل ما كتبه الله لنا من رزق في السماء وما وعدنا به..جعله الله زواجا مبروكا.. وأسرف في الأكل ولا تثقل على "درام" الزبالة، فهي واحدة عندهم لا غير!

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 11 آيار/2007 -22/ربيع الثاني/1428