"لا تفعل لغيرك ما لا تريد أن يفعله الغير بك" بول ريكور
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة13:
1- لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة.
2- يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له
العودة إليه.
على هذا النحو يكون حق العودة من الحقوق التي لا يمكن التصرف فيها
والتي تكفلها القوانين داخل الدول وينصص عليها الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان الصادر يوم 10 ديسمبر سنة1948،غير أن البعض ردد إمكانية
التفويت في هذا الحق عن الفلسطينيين وتحدث عن التعويض وتعلل بأنه مطلب
مثالي لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع،فإلى أي مدى يجوز لهم أن يفعلوا
ذلك؟ وهل من المعقول أن نمكن سكان الداخل من السلطة على الأرض والهوية
ونحرم المهجرين إلى الخارج والشتات من المواطنة والانتماء؟
في الواقع يجوز للدولة وان بتحفظ أن تستأثر لنفسها بحق استعمال
العنف المادي المشروع وتحتكره من الأفراد ولا تبيح لهم اللجوء إليه
إلا بالقدر الذي تسمح به بينما تتكفل هي بإعادة توزيعه في شكل منظومات
ردع وإرغام وذلك للخروج من حالة الفوضى إلى حالة التنظم،كما يحق للنظام
العالمي أن يستعمل العنف المادي وان بشروط من أجل إنهاء حالة حرب الكل
ضد الكل السائدة بين الحضارات والأديان ليتم إبرام عقد اجتماعي دولي
يرسي السلم الدائم بين الشعوب ولكن ليس من حق أي كان وتحت أي شروط أو
تحفظات وخاصة نظام سياسي يزعم أنه يستمد شرعيته من إرادة عامة وشراكة
والتزام بالقوانين الدولية أن يمنع مواطن من أن يتمتع بشخصيته
القانونية وأن يعود إلى وطنه متى شاء سواء كان هذا المواطن خالد مشعل
أو عزمي بشارة لأن عودة هؤلاء إلى أرضهم هي قضية تهم الشأن الفلسطيني
وتساهم في توطين أركان السلطة وتفرض الأمن والتنظم والسلم.
ألم يرد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 6 ما يلي: لكل
إنسان أينما وجد الحق في أن يعترف بشخصيته القانونية،فكيف نعطي للبعض
هذه الشخصية ونصادرها عن البعض الآخر دون أي وجه حق؟
هذا التمسك بحق العودة له ما يبرره في فلسفة حقوق الإنسان لأن:
- حق العودة هو حق طبيعي وهو مرتبط بحق البقاء أو المحافظة على
الذات والذي يمكن صياغته على النحو التالي: مادام لكل إنسان الحق في
البقاء فلابد أن يمنح أيضا حق استخدام الوسائل التي تضمن له هذا البقاء
وذلك بتمكينه من العودة إلى دياره ووطنه وأرضه فهي أهم الوسائل التي له
الحق في المطالبة بها قصد ضمان البقاء.
- حق العودة هو حق قانوني يكتسبه الفرد كمواطن ضمن الدولة وينبغي
على الحاكم أن يوفره لجميع المنتسبين للإرادة العامة التي بايعته
بالإجماع وآيتنا في ذلك أن غاية الدولة ليس تخويف الأفراد وحكمهم
بالقوة والترهيب بل تحريرهم من الخوف و ضمان حريتهم ومساعدتهم عل تنمية
قدراتهم على التفكير والفعل في الوجود من أجل تحقيق حفظ الكيان.
- حق العودة هو حق أساسي تتمسك به مؤسسات المجتمع المدني وتدافع
عليه ضد أي تفويت أو اعتداء من قبل الدولة أو مصادرة من قبل جهات
أجنبية لم تتصدى لها أجهزة الدولة دفاعا وحماية ويرجع هذا الحق إلى ما
قاله جون لوك في كتابه في الحكم المدني:" يحتفظ سكان أي بلد من البلدان
تحدروا من صلب قوم قد غلبوا على أمرهم، واستمدوا حقهم بتملك أراضيهم
منهم وفرضت عليهم حكومة ما من دون موافقتهم الحرة، بحق التمتع بممتلكات
أجدادهم رغم امتناعهم عن الموافقة الحرة على الحكومة التي فرضت شروطا
صعبة على أصحاب تلك البلاد بالقوة."
من هذا المنطلق لا يجوز تحت أي شرط التنازل عن حق العودة لأن ذلك
معناه التنازل عن الكرامة الإنسانية التي يتقاطع في التأكيد على
قدسيتها كل من الطبيعة والدولة والمجتمع المدني إذ يصرح جان جاك
روسو:"أن نتنازل عن حريتنا هو أن نتنازل عن ما فينا من إنسانية". لكن
هل يجوز أن نحرم صاحب الحق من التمتع بحقه؟ ومن هو صاحب الحق؟
المفكر والسياسي الفلسطيني عزمي بشارة مثلا صاحب حق لا لأنه مواطن
من سكان 48 الأرض العربية المحتلة ولا لكونه منتخب بطريقة ديمقراطية
ويمثل السكان العرب في الكنيست الإسرائيلي بل لأنه بالأساس شخص معنوي
ينبغي أن تحترم كرامته كإنسان ويعترف بشخصيته القانونية ضمن أي دولة
ينتسب إليها حتى وان كانت دولة استيطانية غاصبة وحرمانه من حقه في
العودة وتلفيق التهم إليه ومقاضاته من أجل مواقفه وتوجهاته السياسية
المنتصرة للقيم التقدمية ومناداته بالإنصاف والمساواة ومناهضته للتمييز
ورفضه للجدار العنصري وأسلوب الكينتونات القروسطي هو اعتداء على أبسط
القوانين والتشريعات التي يستند عليها هذا الكيان ويستمد منها مشروعيته
ويتباهى بها أمام العالم اعتقادا منه أنه يتبع منزعا ديمقراطيا وأن
البلدان العربية أنظمة شمولية توريثية ليس من حقها مطالبتها بالالتزام
بالديمقراطية عند التعامل مع قضية عزمي بشارة وحجتهم في ذلك أن فاقد
الشيء لا يعطيه وكما تكونوا يولى عليكم وبما أنكم لستم ديمقراطيين مع
بعضكم البعض فيجوز للديمقراطيين أن يعاملوكم بطريقة غير ديمقراطية.
غير أن مثل هذا التبرير هو تبرير فاقد للحجة لأن الحكومة الفلسطينية
السابقة هي حكومة منتخبة بطريقة ديمقراطية بشهادة كل المراقبين وتمت
محاصرتها وإفشالها ووأدها في المهد حتى لا يتربى أي مجتمع عربي على
القيم الحضارية الأصيلة وقد ساهم الجميع بما فيهم الأنظمة العربية
والنظام الدولي في تعطيل عمل هذه الحكومة ليبينوا للجميع أن القوانين
يمكن أن نتعامل معها بسياسة المكيالين.
فهل يقبل حق العودة التعويض؟ وبماذا يمكن أن نعوض صاحب حق العودة؟
وهل ما يقع مقابلته يكون في نفس قيمة الحق المتنازل عنه؟
حق العودة هو حق مشترك بالنسبة لمن هم في المهجر والشتات لم يرتكب
المحرومين منه أي ذنب ويتحمل فيه المسببين للحرمان مسؤولية كاملة فهم
ألزموا ضحاياهم بحتمية تحمل العقوبة ولم يلزموا أنفسهم حتى جبر الضرر
ويشاركهم في ذلك من والاهم من الداخل من أجنحة السلطة المتصارعة والذين
يروجون عن سوء النية بعض الفتاوى اللاأخلاقية البراغماتية التي تؤكد
على ضرورة التضحية ببعض المجموعات من أجل تحقيق مصلحة عدد أكبر من
الناس وليخسر أقلية الخارج الرهان من أجل أن يربح أغلبية الداخل
ويؤمنون مستقبلهم ضد الأخطار المحدقة بهم من كل جانب ويسمون ذلك حيطة
واستكشاف للخوف وطلبا للتكافل وبحثا عن السلامة غير أن هذه الدعوى
البراغماتية هي متهافتة بدورها لأنها تجعلهم يهربون من تحمل المسؤولية
ويشاركون الجلادين في الإدانة وينظرون إلى الضحايا كمذنبين ولا يحكمون
على الأفعال من جهة ما يترتب عنها من أضرار للآخرين وفهموا خطأ أن
إرضاء الأغلبية يقتضي التضحية بما من شأنه أن يرضي الأقلية ويعاملون
بعض الأفراد من بني جلدتهم كوسائل لمصالحهم لا كغايات ولم يحترموا
الطرف الآخر المساوي لذواتهم ونسوا أن الفعل الأخلاقي التام هو ذلك
الذي يعامل الإنسانية في أي شخص كغاية ولا كوسيلة وأن الديمقراطية
الاندماجية تتطلب أن يقع قسمة الثروة والنفوذ والحقوق على نحو صحيح
ومنصف بين جميع المواطنين تبعا لمبدأ الاستحقاق.
إن المخرج الوحيد والمعقول بالنسبة لقضية المهجرين بغير حق سكان
المخيمات في لبنان وسوريا والأردن والذين يتعرضون للاضطهاد والتقتيل في
العراق والتمييز والانتقاص من الحقوق في بقية الدول هو معاملتهم
كمواطنين عرب ومسلمين طبقا للإطار القانوني للجامعة العربية والمؤتمر
الإسلامي أولا ثم الضغط على المجتمع الدولي والهيئات الأممية من أجل
إعادتهم إلى ديارهم وأراضيهم أو على الأقل السماح لهم بالعودة إلى
الضفة الغربية وقطاع غزة حتى وان كان ذلك سيزيد الوضع الإنساني كارثية
وسوء.
علاوة على ذلك ينبغي أن نكف عن المطالبة بتوطينهم حيث هم أي في
الدول التي يوجدون فيها ويجب التوقف عن الحديث عن التعويض لأن ما
يخسرونه عندما يقع حرمانهم من حق العودة ليس شيئا ماديا يمكن تعويضه بل
هو معنوي وإنساني أي الحق في الكرامة وهو الحق التي تنبع منه جميع
الحقوق الأخرى وهذا الأمر هو من الأمور التي لا تعادلها ثروات العالم
وما يثير مفارقة ويبعث على الدهشة أن المنتظم الأممي يغض الطرف عن
حملات الهجرة نحو إسرائيل وبناء المستوطنات في الضفة وصحراء النقب
والجولان المحتل ومزارع شبعا ويعتبر ذلك أمرا مشروعا من جهة ويطالب
الزعماء العرب سرا وعلنا بإسقاط حق العودة أو حذفه من مبادرة السلام مع
إسرائيل في القمة الأخيرة،فهل هذه عدالة من منظور الأمم المتحدة أم
أنها أمر فوقي من منظور الولايات المتحدة وإسرائيل يجب على العرب أن
يخضعوا له؟ ألا تسقط هذه السياسة الداروينية الجديدة التي تؤمن بالصراع
من أجل البقاء وقانون الانتخاب الطبيعي في مستنقع الإرهاب المضاد وفي
فخ الشوفينية المستوردة من قلاع الشمولية؟
ألا يؤجل هذا الخلل أي حسم للخلاف ويهدد استقرار أي مجتمع ينشد
الديمقراطية في المنطقة؟ أليست الحكمة تقتضي أن نعامل الآخرين بما
نعامل به أنفسنا؟كيف ننظر إلى الفلسطيني أنه مذنب في كل شيء ونطلب منه
أن يكون مسئولا عن كل الناس طالما أننا نعتقد أن سلام المعمورة برمتها
يمر عبر تنازله عن حقه في دولة ذات سيادة وعن القدس كعاصمة لها وعن
العودة إلى أرضه مقابل لقمة عيش تؤمن وكالات الإغاثة الأممية؟
ربما لا يفهم البعض من منظري اليمين النيولبرالي أنهم يتعاملون مع
قوم يعتقدون في الكرامة قبل الخبز وفي تجوع الحرة ولا تأكل من ثدييها
وأن مؤامراتهم أهون من بيت العنكبوت فرجل حر مثل عزمي بشارة ذلك المثقف
العضوي وفيلسوف المجتمع المدني ستظل جرأته تلعن أعدائه إلى أبد الآبدين
وستبقى قضيته ساخنة حية في وجدان كل مؤمن بها، ألم يقرأ هؤلاء ما كتبه
فيلسوف احترام الآخر ليفيناس:"نصير مسؤولين عن الضرر لأننا قبل كل شيء
مسؤولون عن الآخر"،فيا ترى أي احترام للآخر سيكون وهم قد يتسببون له
في ضرر غير قابل للتعويض أو عاهة مستديمة بحرمانه من حق العودة؟
* كاتب فلسفي |