ما زال الإعلام العربي مهزوزاً بهز راقصاته، وضعيفاً يحتضر على
فراش الموت، وخاوياً إلا من أشعار شعبية ومسابقات أقرب ما تكون إلى
التفاهة والسخافة.
وقد أحزنني أن أشاهد برنامجاً حوارياً لينتهي بسؤال أحمق واستفزازي
لا دخل له بموضوع أو فكرة البرنامج، تستفسر فيه المذيعة المخضرمة عن
اسم الحيوان المفضل عند الفنانة (فلانة)! أهو القط أم الكلب أم
الببغاء؟ اختر أي الإجابات، فلا يهم أن تعرف مدى علاقتها بحيوانها
المفضل، فالطيور على أشكالها تقع، كلما عليك -عزيزي المشاهد- المسارعة
للمشاركة في هذه المسابقة الثقافية الكبرى لتحظى بالجلوس معها على
مائدة طعام قد تكون غير معتبرة.
.. إنه خطاب يبغي إفراغك من شيئين؛ عقلك وجيبك!
ما زلنا نفتقد حسن الاستفادة من التطور العلمي التكنولوجي خصوصاً في
مجالي الإعلام والاتصالات، ففضائياتنا راقصة، وهواتفنا الجوالة فاضحة،
وحوارياتنا على شبكة الإنترنت إما متطرفة وإما بلهاء وسخيفة. والله
أعلم، متى سيعي العرب والمسلمون حجم الكارثة التي يجنوها على أنفسهم
وثقافتهم ومستقبل أبنائهم بانخراطهم في وسائل الإعلام بشكل سيئ بلا وعي
أو رسالة.
تناقض وصدمة الإعلامية
يعتقد الدكتور نبيل علي أن إعلامنا العربي يعيش صدمة إعلامية على
مختلف المستويات: السياسية والتنظيمية والفنية. ويرى في كتابه (الثقافة
العربية وعصر المعلومات) الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب بالكويت [ص345] أن الإعلام الحديث يحمل في جوفه تناقضاً
جوهرياً يكمن "في حيرته بين رسالة الإعلام وهوى الإعلان، وبين مراعاة
مصالح الحكام والحرص على مصلحة المحكومين، وما بين غايات التنمية
الاجتماعية ومطامع القوى الاقتصادية التي تعطي الأولوية للإعلام
الترفيهي لا التنموي. وهل هناك تناقض أكثر حدة وسخرية بين ما يدعيه
الإعلام من كونه أداة للترفيه والترويح عن النفس، وما يثيره من عنف
ترفيهي وفزع معنوي؟ وبينما ينتظر منه أن يكون وسيلة للترابط الاجتماعي
والوفاق العالمي، نجده وقد استخدم من أجل إشاعة التعصب والعصبية،
والتفرقة الطبقية والعنصرية، وتنمية نزعات الكره تجاه الآخرين: أجانب
كانوا، أم أصحاب فكر مناهضين".
وأمام هذا التناقض والتنازع القوي؛ تغيب في الإعلام العربي الرسالة
ويبقى المعلن هو المتحكم والمتصرف فيما يعرض أو لا يعرض، وقد سمعنا عن
برامج ذات رسالة ثقافية وغير ثقافية توقفت بسبب غياب المعلن عنها، ولك
أن تعرف حجم تحكم الإعلانات في الإعلام، وذلك حين تلحظ أن البرامج
التلفازية -مثلاً- أصبحت جزءاً من الإعلانات، ولا يمكنك أن تشاهد في
بعض القنوات ربع ساعة دون أن تُجبَر على متابعة فاصل إعلاني أو أكثر،
بل واقتحمت المنتجاتُ التجارية المشاهدَ المصورة في الأفلام والمسلسلات
وغيرها بحيث ترى المنتج الإعلاني بيد الممثل أو المذيع وعلى ملابسه وفي
الديكور وفي كل شيء يمكن أن تلصق عليه شارة المنتج.
كما تتجلى في الإعلام العربي عدم الحيادية في مسألة تعارض المصالح
بين الحاكم والمحكوم، فالتسلط الحكومي هو الأبرز في صياغة السياسات
العامة لكثير من وسائل الإعلام، كونه ما زال ممولاً رئيساً لتلك
الوسائل الإعلامية، ولذلك يغيب الواقع الجماهيري وحياة المواطن وهمومه
إلا في ظل ما تسمح به مصلحة الحاكم أو مصلحة الحاكم الآخر الذي قد يحرك
وسائل الإعلام المحسوبة عليه نكاية بدولة معينة.
وتكاد تغيب شعوب عربية وإسلامية بأكملها عن خارطة الإعلام، ولك أن
تتساءل عن الشعب الليبي -مثلاً- الذي يختفي تماماً من الإعلام بكل
مكوناته الاجتماعية والثقافية والفنية وما شابه، حتى صرنا لا نعلم عن
ليبيا شيئاً إلا القذافي وابن القذافي.. إن بعض الأنظمة ترى من مصلحتها
أن تعيش رعاياها في العتمة ولذا تتعمد إخفاءها وعدم إظهارها إلا في
مسيرة مؤيدة لسيادة الرئيس أو أغنية ترقص وتطبل لحضرته أيضاً.
إعلاميو السلطة وشيوخ الشعوذة
أمر آخر محزن من واقع إعلامنا المهزوز، حيث يغيب كل شيء يتصل
بالرسالة السامية والمحافظة على القيم المتزنة، حتى الوعي السياسي الذي
ساهمت وسائل الإعلام العربية في نشره؛ لم ينتشر إلا وهو مُسيَّس وموجه،
ويظهر مثقفون في مختلف وسائل الإعلام وهمهم التبرير للحكومات التي تدفع
لهم أكثر، ولذا تشهد في خطابهم ومواقفهم التقلبات والتناقضات بفعل
التقلبات المعروفة في عالم السياسة.
وإلى جانب مثقفي السلطة، يظهر لك رجال بزي علماء الدين، ولكنهم إما
مشعوذون يحاولون حصر الإسلام في التنجيم والعلاج بالحجاب والأحراز،
وإما متطرفون يحاولون حصر الإسلام في ثقافة العنف والعصبية وبث الفرقة
بين مختلف الأديان والمذاهب.
وحين يظهر المثقف الحر وعالم الدين المتنور والفنان صاحب الرسالة
السامية، فإنهم يفقدون الجاذبية بسبب غياب الدعم المادي والمعنوي عنهم.
ضحايا العراق بلا مآسي
بفضل ضعف إعلامنا تغيب المأساة الفلسطينية عن الساحة الشعبية
العالمية، وبفضل ذات الإعلام العربي تغيب المأساة العراقية عن الساحة
الشعبية العربية والعالمية في آن واحد.
جمعني حديث مع بعض زملاء العمل، الذين كانوا ينقلون بكل تأثر قصصاً
مأساوية وأخرى بطولية عن بعض ضحايا جامعة فرجينيا التقنية بالولايات
المتحدة الأمريكية، حيث قُتِل أكثر من ثلاثين طالباً وطالبة في إبريل
2007م في حادث مؤسف على يد أحد زملائهم.
قلتُ لزملائي: أنتم الآن وبفضل الإعلام تطالعون مأساة كل واحد وكل
أسرة فقدت أحد أبنائها في هذا الحادث المؤلم، وتكادون تعرفون تفاصيل
حياة كل من قضى أو جرح، ولكنكم بالتأكيد لا تعلمون مثل ذلك عن ضحايا
العراق، فالشعب -الذي يتنافس العنف كل يوم في عدد قتلاه عن اليوم الذي
قبله منهم- لا نعلم عن مأساته شيئاً، سوى أنه يُقتل ويُسفك دمه، لكن
التفاصيل لا تدرون بها، والأسباب لا تبحثون عنها، ولم تعد أخبار
مجازرهم تثير انتباهكم. إن الإعلام في الغرب يركز وربما يصطنع قصصاً
تراجيدية يخاطب فيها مشاعر شعبه والشعوب الأخرى، بل ويحاول الإعلام
الأميركي استغلال مأساة جامعة فرجينيا لإلهاء الشعب الأميركي عن القضية
العراقية التي أحرجت الرئيس جورج بوش الابن وضيقت عليه الخناق شعبياً.
وإعلامنا العربي يساهم في تغييب التراجيدية العراقية، ويحاول أن
يجعل من ضحايا العنف في العراق بلا مأساة، وإنما يركز على التنازع
السياسي على السلطة في العراق، وعلى صنع الفتنة الطائفية من العدم.
وفي كل الأحوال، فإن إعلامنا ببغائي بطبعه، فإذا اهتم الإعلام
الغربي بالضحايا الأبرياء في فرجينيا؛ اهتم الإعلام العربي بهم، وعندما
اهتم الإعلام الغربي بقضية البحارة البريطانيين الذين اعتقلتهم إيران
على مياهها الإقليمية في شهر مارس 2007م، اهتم إعلامنا بتلك القضية
بينما الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية في سلة المحذوفات الخاصة
بالإعلام العربي.
تقليد سياسي واجتماعي وثقافي وفني لكل ما يفرزه الإعلام الغربي،
بدون مراعاة للواقع المحلي وقيمه، وقد أخذت إحدى محطات التلفزة العربية
قبل فترة ولمدة تزيد على الشهرين؛ على عاتقها تقديم تقرير في كل ليلة
يتابع المستجدات اليومية في قضية وفاة ممثلة أفلام إباحية أمريكية ثرية
وعن مأساة ابنتها الرضيعة التي يتنازع في المحاكم أكثر من رجل -عاشر
الأم- على أبوتها؛ وكل يدعي أنه الأب الحقيقي لها طمعاً في الشهرة
والمال.
.. بالتأكيد أن القناة السابقة لم تجد في ملايين الأيتام والأرامل
من ضحايا العنف في العراق، ما يستدعي الاهتمام الإعلامي!!
حلول شمولية
إن الأزمة التي يمر بها الإعلام العربي كبيرة ومعقدة، خصوصاً أنها
تلتقي مع عدة خطوط متشابكة ومتعارضة بين السياسة ومصالحها، والاقتصاد
واستثماراته، والقيم بين الثبات والتغير.. لذلك فالبحث عن حلول جزئية
لأزمة الإعلام العربي لن تكون مجدية، ومن أجل هذا فإننا مطالبون جميعاً
بالعمل كل على حسب إمكانياته واستطاعته ووفق المكان الذي يحتله.
الحكومات مطالبة بدور جدي في المسألة لأنها طرف رئيس، وإن عدم
مسارعتها للعب دور إيجابي سينعكس سلباً بالتأكيد على مصالحها فيما بعد،
لأننا نعيش عصراً إلكترونياً يفرض انفتاحاً في كل يوم أكبر وأوسع من
اليوم الذي يليه، ولن يكون في المستقبل للحكومات سلطة عليا على الرقابة
الإعلامية، فقطار التطور في عالم الإعلام والاتصالات يتقدم ويتقدم دون
أن تكون للحكومات العربية القدرة على كبح جماحه.
وإلى جانب الحكومات، يبرز دور أصحاب الأموال من تجارٍ وغيره، ويبرز
دور الإعلاميين والمثقفين وعلماء الدين، ودور الأسرة والمدرسة والمجتمع
المدني بكل فئاته ومؤسساته.
إننا بحاجة إلى حلول شمولية من كل حدب وصوب، وسنستطيع إن ارتقى
وعينا أن نتجاوز ولو شيئاً من هذه الأزمة التي تعصف بكل شيء وتنذر
بتغيير بدأ على مختلف الصعد؛ التغيير الذي قد يكون إيجابياً، ولكنه لن
يخلو من الشوائب والسلبيات القاتلة إذا لم يتوفر الترشيح والترشيد
المناسبين.
كم نحن بحاجة إلى إعلام حضاري ممنهج يرتكز على استراتيجيات واضحة
وذات أهداف نبيلة ورسالة سامية؟
* كاتب من السعودية
basheerq@yahoo.com |