الحرب الأهلية في العراق وفشل خيارات التقسيم

*الحروب الاهلية نادرا ما انتهت باتفاقيات هادئة لاقتسام السلطة بل هي لا تنتهي عادة الا بعد سنوات من القتال حتى يتبلور خلالها ميزان السلطة او القوة

* علماء السياسة يعتبرون عادة ان مقتل 1000 شخص على الاقل خلال الصراع كافيا لاعتبارها حربا اهلية

*عندما تتوقف الحروب الاهلية يكون ذلك عادة من خلال انتصار عسكري حاسم يحققه احد الاطراف المتصارعة فقد انتهت %75 من الحروب الاهلية الـ 55 التي نشبت منذ عام 1955 بهذه الطريقة 

لايزال البيت الأبيض يتجنب وصف ما يجري في العراق بالحرب الأهلية. وتبين الحروب السابقة المماثلة أن واشنطن لن تستطيع وقف هذه الحرب، وأن العراقيين لن يتوصلوا لاقتسام السلطة إلا بعد صراع طويل لكن يمكن أن تساعد الولايات المتحدة من بعيد في إحلال التسوية من خلال إيجاد توازن بين الفصائل العراقية، غير أنه لن يكون بمقدورها عمل الكثير لوقف إراقة الدماء الآن.

وعن الحرب الاهلية في العراق نشرت مجلة الـ (فورين افيرز) الامريكية دراسة بقلم جيمس فيرون، استاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد نشرت ترجمتها صحيفة الوطن الكويتية جاء فيها:

مع إرتفاع مستوى العنف الطائفي في بغداد وجد المتحدثون باسم ادارة الرئيس بوش أنفسهم في خضم مواجهة كلامية مع الصحافيين الامريكيين حول ما إذا كان من الأجدى وصف الصراع الدائر في العراق الآن بالحرب الأهلية أم لا والواقع ليس من الصعب فهم لماذا ترفض الادارة الامريكية بشدة هذه التسمية فهناك سببان لذلك.

الأول خوفها من أن تبدأ وسائل الإعلام الامريكية بتفسير أي تغيير بموقف البيت الابيض في هذه المسألة على أنه تنازل رئيسي، واعتراف واضح بفشل سياسته وتبدد الآمال.

والثاني خشية الادارة من أن يصبح الرأي العام الامريكي أقل تحملا للأعمال العسكرية في العراق إذا ما بدأ يرى العنف الجاري فيه حربا أهلية، وعندئذ سيتساءل الامريكيون: «إذا كانت حربا أهلية فماذا نفعل هناك؟ هل لنحارب عن أحد الأطراف فيها؟»

لكن إذا كانت للمواجهات الكلامية أهمية كبيرة في مثل هذه الظروف، فإنه من غير الواضح تماما ما إذا كان لها تأثير على سياسة الولايات المتحدة وهل القضية هي مجرد لعبة سياسية داخلية وتصورات عامة أم أن اندلاع حرب أهلية في العراق يمكن أن يكون له مضامين معينة على ما يمكن تحقيقه هناك وعلى الاستراتيجية التي يتعين على واشنطن انتهاجها عندئذ؟

الحقيقة توجد حرب أهلية في العراق بل ويمكن مقارنتها من عدة وجوه مهمة مع الحروب الأهلية التي وقعت في بعض الدول ذات المؤسسات السياسية الضعيفة في أعقاب الفترة الاستعمارية.

وتبين لنا تلك الحروب أن هدف ادارة بوش السياسي في العراق، المتمثل في إرساء نظام مسالم مستقر وديموقراطي بشكل ما يستطيع البقاء بعد رحيل القوات الامريكية هو هدف غير واقعي.

ولأن مثل هذا الهدف غير واقعي سياسيا لابد أن تنتهي أية استراتيجية عسكرية مرتبطة به عندئذ بالفشل بصرف النظر عن زيادة عدد القوات العاملة على الأرض أو التحول إلى القيام بمهمة تدريبية محضة للقوات العراقية كي تقوم هي بالمهام الضرورية كما نصحت لجنة بيكر، هاملتون التي تناولت في دراستها الوضع بالعراق.

فحتى لو ادت زيادة عدد القوات الامريكية المقاتلة الى تقليص حدة العنف في بغداد، ووفرت الوقت للتفاوض حول اقتسام السلطة ليس هناك من يضمن الا يعود العنف من جديد مع اشتداد حمى الصراع على السلطة فالحروب الاهلية نادرا ما انتهت باتفاقيات هادئة لاقتسام السلطة بل هي لا تنتهي عادة الا بعد سنوات من القتال حتى يتبلور خلالها ميزان السلطة او القوة، وهذا غير واضح حتى الآن في العراق.

فالفصائل المقاتلة السنية والشيعية تقترب من المستويات التي شهدتها الصومال ويبدو ان المجموعات المسلحة المتنوعة في كلا الجانبين بالعراق تعتقد انها تستطيع السيطرة على الحكومة اذا ما انسحبت القوات الامريكية، ومثل هذه الافكار لن تتغير بسرعة طالما بقي عدد الجنود الامريكيين كبيرا.

الحكومة طرف

ومن الواضح ان الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة اصبحت مع استمرار العنف الطائفي في بغداد طرفا في هذه الحرب الاهلية القذرة الدائرة بين العرب السنة والشيعة، وهذا يعني ان التزام الرئيس بوش بضرورة نجاح الحكومة الراهنة يرقى لدرجة الوقوف الى جانب الشيعة، وهذا موقف خطير وليس على الارجح من مصلحة الولايات المتحدة، ولا في مصلحة السلام والاستقرار الاقليميين على المدى الطويل.

كما ان قدرة الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة على تسجيل نصر عسكري حاسم هي امر غير وارد قريبا بسبب الظروف الملائمة التي يعمل في ظلها المقاتلون المسلحون بالمناطق التي يهيمن عليها السنة.

واكثر من هذا ان ما يجري في العراق يشجع الوطنيين السنة للتحول الى «القاعدة» في العراق من اجل الحصول على الدعم في محاربة ميليشيات الشيعة والجيش العراقي. كما تضع الاستراتيجية الامريكية الراهنة واشنطن الى جانب طهران ضد الدول العربية التي يهيمن عليها السنة في الغرب.

لذا، طالما بقيت ادارة بوش ملتزمة بدعم حكومة نوري المالكي او اي خليفة محتمل له، لن يكون لواشنطن تأثير يذكر على معظم الاحزاب والاطراف الاخرى في العراق.

لكن لو تخلت عن التزامها القوي، وبدأت على سبيل المثال سحب جنودها من مسارح العمليات المركزية لزاد تأثير الولايات المتحدة الدبلوماسي والعسكري في كل الجبهات الاخرى تقريبا.

صحيح ان القيام بذلك لن يسمح للادارة الامريكية الراهنة او المقبلة بوضح حد سريع للحرب الاهلية التي ستستمر على الارجح لبعض الوقت الا انه سيمكنها من القيام بدور متوازن بين العناصر المتقاتلة مما يساعدها على المدى الطويل في التواصل لحل مستقر يمثل كل مصالح السنة والشيعة والاكراد في حكومة عراقية مقبولة وجديرة بالاحترام.

بيد ان التواصل لمثل هذه الحكومة او اقتسام السلطة لن يتحقق الا بعد قتال مرير في الحرب الدائرة الآن.

سجل الحروب الاهلية

لكن ما هي الحرب الاهلية؟ انها صراع عنيف داخل بلد واحد ابطاله مجموعات مسلحة منظمة تسعى للاستيلاء على السلطة في مركز الدولة او في منطقة معينة منها او انها تعمل لتغيير السياسات الحكومية.

والواقع ان الاستخدام اليومي لمصطلح «الحرب الاهلية» لا يتطلب تحديد مستوى العنف فيها لوصفها بانها حرب اهلية، غير ان علماء السياسة يعتبرون عادة ان مقتل 1000 شخص على الاقل خلال الصراع كافيا لاعتبارها حربا اهلية. واستنادا الى هذا الرقم البسيط الذي يثير الكثير من الجدل يمكننا القول، ان العالم شهد حوالي 125 حربا اهلية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ولا يزال هناك 20 حربا منها مستمرة في عالم اليوم، ولو ان عدد القتلى ازداد لمعدل 1000 شخص كل سنة لتبين لنا ايضا ان هناك اكثر من 90 حربا اهلية نشبت في هذا العالم منذ عام 1945.

غالبا ما يعتقد البعض ان انتشار الحروب الاهلية هو احد مظاهر الحرب الباردة الا ان الواقع يشير الى ان عدد الحروب الاهلية المستمرة اليوم زاد بثبات بدءا من عام 1945 الى اوائل الستعينيات ثم تراجع على نحو ما الى مستويات اواخر السبعينيات.

لذا، اذا نظرنا الى معدل القتل في العراق الذي بلغ بسهولة اكثر من ستين الف شخص خلال السنوات الثلاث الماضية، لامكن لنا وضعه في خانة العديد من الصراعات التي توصف بشكل عادي اليوم بالحروب الاهلية مثل تلك التي وقعت في كولومبيا وغواتيمالا، بيرو وسيريلانكا والجزائر «بين الاسلاميين والسلطة».

ومن الواضح ان سبب استمرار مثل هذه الحروب يعود لصعوبة انهائها، ويبدو ان معدل دوامها هو 10 سنوات تقريبا كما ان نصفها استمر لاكثر من سبع سنوات.

ويبدو ايضا ان طول امدها هو نتيجة للطريقة التي تدور بها هذه الصراعات حيث تستخدم المجموعات الثائرة تكتيكات حرب العصابات وتعمل عادة في المناطق الريفية في الدول التي تعاني من الضعف في قدراتها الادارية والامنية والعسكرية.

ومن الملاحظ ان الحروب الاهلية المماثلة لتلك التي نشبت في الولايات المتحدة وكانت تدور بين جيشين تقليديين يواجهان بعضهما على طول حدود واضحة، لم تعد واردة اليوم فالنماذج الاكثر انتشارا الآن هي مثل تلك التي شهدتها وتشهدها كولومبيا، وسيريلانكا والجزائر وجنوب وغرب السودان.

بدأت الحرب الاهلية في العراق مع حلول عام 2004 عندما اخذت مجموعات من ميليشيات السنة تناضل بأمل دفع الولايات المتحدة للانسحاب ومن ثم استعادة السلطة التي كان يحتفظ بها السنة في عهد صدام حسين.

وفي عام 2006 تصاعدت وتيرة الصراع عندما وسعت ميلشيات الشيعة حدته ونطاقه، وانتهجت فيه اسلوب التطهير العرقي وتميز بقدر كبير من العنف العشوائي وعنف العصابات والسرقة واللصوصية.

ولا شك ان هذا النوع من الصراعات يختلف عن النموذج الذي ساد في حروب العصابات بعد عام 1945 ومع هذا ثمة تماثلات اذا يمكن مقارنة ما يجري في العراق بما شهدته المدن التركية من اعمال عنف بين عامي 1977 و 1980 فقد ادى القتال الذي نشب بين الميليشيات المحلية، المتحالفة مرة مع اليسار واخرى مع اليمن، الى مقتل أكثر من 20 شخصا باليوم خلال آلالاف من الهجمات والهجمات المعاكسة وعمليات الاغتيال وحملات فرق الموت.

فبعد المذبحة التي ارتكبها اليمينيون في مدنية كهرمانماراس في ديسمبر 1978، تصاعدت حدة الصراع بين اليمين واليسار وتحول على عنف عرقي وضع السنة الاتراك في مواجهة مع الكرد، والشيعة والعلويين في العديد من المدن التركية.

وكما في العراق اليوم، كانت منظمة المقاتلين الاكراد محلية وفئوية بدرجة كبيرة وغالبا ما كان القتال يدور على شكل عنف تقف وراءه عصابات في المدن لكن وكما في العراق ايضا، كما لتلك العصابات والميليشيات علاقات مع الاحزاب السياسية التي تسيطر على البرلمان الوطني المنتخب ديموقراطيا.

الحقيقة ان بمقدور المرء ان يصف الصراعين الاهليين في تركيا آنذاك وفي العراق اليوم بـ «السياسة الحزبية الميلشياوية».

ومن الواضح ان المنافسات السياسية الحادة بين القادة السياسيين الاتراك البارزين المرتبطين بعلاقات مفيدة مع الميليشيات، منعت النظام الديموقراطي التركي من التحرك لوضع حد للعنف بشكل حاسم.

اذا كان الساسة الاتراك ينشغلون بمناقشات جدلية بينما كانت المدن التركية تحترق تماما مثلما يحدث في العراق اليوم لكن لخشيتهم من امتداد العنف الفئوي الذي يسود المجتمع الى المؤسسة العسكرية التركية، قام ضباط الجيش التركي الكبار بانقلاب عسكري في سبتمير عام 1980، ونفذوا بعده حملة قمع كبرى ضد الميليشيات ورجال العصابات في كلا المعسكرين اليمين واليسار، وانتهى عندئذ العنف لكن على حساب الديموقراطية حيث حكم العسكر تركيا لثلاث سنوات بعد ذلك.

الانقلاب العسكري

والآن، اذا ما انسحبت الولايات المتحدة من العراق سيصبح احتمال وقوع انقلاب عسكري فيه وارد جدا اذ يمكن ان تعلن مجموعة صغيرة من قادة الجيش ان الحكومة المنتخبة ليست فاعلة، وان الضرورة باتت تستدعي وجود يد قوية لفرض النظام والقانون.

ولكن من غير المحتمل ان يتمكن النظام العسكري في العراق من السير على نهج الانقلاب العسكري التركي في اوائل الثمانينيات، فالجيش التركي كان مؤسسة عسكرية قوية مستقلة ومخلصا للعقيدة الوطنية «الكمالية» بما يكفي ليعمل بشكل مستقبل عن الانقسامات التي كانت تمزق البلاد.

وبالرغم من ان الجيش كان يميل لليمين التركي اكثر من ميله لليسار، رأى المواطنون الاتراك فيه جهاز يعمل بمعزل عن الصراع الفئوي مما اهله بالتالي للتدخل بمصداقية وهذا لا ينطبق بالطبع على الجيش العراقي ولا على الشرطة العراقية اللذين لا يتمتعا بالطبع باي قدر من الاستقلال عن المجتمع والسياسة، فرجال الشرطة يبدون مثل رجال ميليشيات يرتدون بذلات رسمية، ورغم ان الجيش العراقي اكثر تماسكا كمؤسسة الا ان الشيعة هم من يهيمن عليه ولا يوجد فيه الا القليل من الوحدات المختلطة طائفيا.

بل ثمة ادلة تشير الى ان بعض كبار الضباط في هذا الجيش يسهلون - ان لم يكن يعملون بنشاط - عمليات التطهير العرقي.

لذا سوف تبدو اية عملية يقوم بها بعض ضباط القادة للاستيلاء على السلطة مجرد محاولة شيعية للسيطرة على البلاد مما يمكن ان يؤدي لتفكك الجيش على اسس طائفية وعرقية.

هنا، يمكن ان يقدم لنا ما حدث في لبنان عام 1975 - 1976 رؤية افضل لما يمكن ان يحدث في العراق. فعندما بدأ مستوى العنف بالتصاعد بين الميليشيات المسيحية وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1975، وقفت قيادة الجيش اللبناني في البداية بعيدا عن الصراع لإدراكها ان الجيش يمكن ان يتعرض لانشقاقات اذا حاولت التدخل. لكن مع تزايد حدة العنف تدخل الجيش في النهاية، وانهار كان متوقعا. ودخل لبنان بعد ذلك فترة عنف طويلة اخذت خلالها الميليشيات السُنية، المسيحية، الشيعية و(الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير) تحارب بعضها بين وقت وآخر بلا نهاية.

وكان التدخل السوري والاسرائيلي يؤدي احيانا الى انخفاض مستوى العنف أو الى تصعيده، كما كانت التحالفات تتغير على نحو مدهش. فقد ساعد السوريون، على سبيل المثال، المسيحيين في البداية ضد منظمة التحرير ثم انقلبوا عليهم.

وثمة سيناريو آخر مماثل يدور الآن في العراق. فسواء انسحبت القوات الامريكية أم لا، ستبدو المناطق العراقية - غير الكردية - مثلما كان عليه لبنان خلال حربه الاهلية الطويلة. اذ سوف تؤول السلطة السياسية الفعلية الى المناطق والمدن بل حتى الاحياء. وبعد فترة من القتال وعمليات التطهير العرقي بهدف رسم خطوط جديدة سينشأ توازن على مستوى بسيط تتخلله اعمال عنف طائفية وحملات اكبر تمولها قوى خارجية.

ومن المحتمل جدا ان يصبح العنف والاستغلال داخل الطوائف اكثر سوءا لأن ميليشيات الاحياء والعصابات التي نفذت اعمال التطهير العرقي ستتقاتل فيما بينها بعد ذلك للسيطرة على الغنائم والارض والتجارة.

وكما حدث في لبنان ايضا، سيشهد العراق تدخلات كثيرة في شؤونه من جانب الدول المجاورة له، ولا سيما ايران، الا ان هذه الاعمال لن تحقق بالضرورة مكاسب استراتيجية كبيرة لمن يقوم بها، بل على العكس من ذلك، يمكن ان تلحق ضررا كبيرا به، وما الولايات المتحدة الا مثال على ذلك.

هل المشاركة حل؟

عندما تتوقف الحروب الاهلية يكون ذلك عادة من خلال انتصار عسكري حاسم يحققه احد الاطراف المتصارعة. فقد انتهت %75 من الحروب الاهلية الـ 55 التي نشبت منذ عام 1955 بهذه الطريقة، أي بانتصار واضح لأحد جانبي الصراع. وتمكنت الحكومات من سحق المتمردين في نهاية الامر في %40 على الاقل من تلك الحالات الـ 55 بينما تمكن المتمردون من السيطرة على المركز في %35 منها.

ومن الملاحظ ان اتفاقيات تقاسم السلطة التي توزع السيطرة على الحكومة المركزية بين المتحاربين هي ظاهرة اقل شيوعا، اذْ لم تنته في افضل الاحوال سوى تسعة صراعات من تلك الـ 55 بهذه الطريقة، وحدث ذلك في السلفادور عام 1992، جنوب افريقيا عام 1994 وطاجيكستان في عام 1997.

على أي حال، اذا كانت اتفاقيات تقاسم السلطة نادرا ما تنهي الحروب الاهلية، إلا ان السبب في هذا لا يعود في الواقع لضعف الجهود في هذا الشأن او غيابها بل لأن الحروب الأهلية تجعل المتفائلين ينظمون أنفسهم بطريقة تؤدي الى تعزيز المخاوف على نحو متبادل.. فكل طرف منهم يخشى من ان يستخدم الطرف الآخر القوة للانقضاض على السلطة والاستئثار بها لنفسه بعد ذلك، وفي مثل هذه الاجواء من المخاوف المتبادلة، تصبح اتفاقيات تقاسم السلطة على المستويات السياسية، والعسكرية او حتى العائدات النفطية مجرد حبر على ورق في اغلب الاحوال، صحيح ان مثل هذه الاتفاقيات يمكن ان تستمر في حال وجود طرف خارجي ثالث قوي بما يكفي لمنع احد الطرفين من الانقضاض على السلطة (كما فعلت الولايات المتحدة في العراق) إلا ان هذه الاتفاقيات تضمحل عادة عند غياب مثل ذلك الطرف الثالث.

لقد حاولت إدارة الرئيس بوش المساعدة في تنصيب حكومة عراقية تستند الى مبدأ اقتسام السلطة بين السنة، الشيعة والأكراد، غير انها فعلت ذلك وسط تصاعد لهيب الحرب الاهلية مما جعل من المستحيل نجاح تلك المهمة.

لكن هل يصبح العراق هذا العام واحدا من الحالات النادرة التي يمكن فيها لعملية انقسام السلطة ان تضع بنجاح حدا للحرب الاهلية الدائرة فيه؟

لو تمعنا الحالات السابقة المماثلة لتبين لنا ان هناك سمتين او عاملين مميزين يجعلان اقتسام السلطة امراً ممكناً على ارض الواقع.

الأول، ان التوصل لاتفاق مستقر لا يتم عادة الا بعد فترة من القتال تتبلور خلالها قدرات المتحاربين العسكرية، اذ يتعين ان يتوصل كل طرف الى قناعة واضحة بأنه لا يستطيع الحصول على ما يريده بالعنف.

فقد تطلبت حرب البوسنه مثلا، ليس فقط تدخلاً من جانب حلف شمال الاطلسي لارغام المتحاربين على الجلوس الى طاولة المفاوضات لتنفيذ اتفاقيات تقاسم السلطة، بل ايضا اكثر من ثلاث سنوات من القتال الشرس اوصل المتحاربين في النهاية الى طريق مسدود في صيف عام 1995 حينما ادركوا ان لا جدوى أبدا من الاستمرار في الحرب.

ثانياً، لا تنجح اتفاقيات تقاسم السلطة الا عندما يكون كل طرف متماسكا نسبياً إذ كيف يمكن لطرف ما ان يتوقع ان يفي الطرف الآخر بالتزاماته اذا لم يكن قادراً على ضبط عناصره بشكل فعال؟

وهنا علينا ان نتذكر ان محاولات التوصل لاتفاقيات حول تقاسم السلطة لوقف الحروب الاهلية التي كانت تدور في بروندي والصومال، واجهت الاحباط لسنوات بسبب تشرذم المجموعات المتقاتلة، لكن حينما يكون هناك مجموعة واحدة متماسكة يصبح من السهل احيانا التوصل لاتفاق سلام، وهذا ما حدث قبل التوصل للاتفاق الاخير الذي انهى الحرب بين حكومة الخرطوم والمتمردين السودانيين في الجنوب عام 1972.

غير ان ايا من هذا لا ينطبق على الوضع في العراق، فهناك اولاً الكثير من المجموعات السنية (مسلحة جيداً) التي تعتقد على ما يبدو انها تستطيع استعادة السيطرة على بغداد وبقية مناطق البلاد لولا الوجود العسكري الامريكي. وهناك الكثير من الميليشيات الشيعية، التي يمتلك بعضها مدافع، تعتقد انها تستطيع - كأغلبية - الاستمرار في الهيمنة السياسية على العراق، بل وهناك من يعتقد منها ان بمقدوره انتزاع السيطرة من منافسيه اذا ما رحلت الولايات المتحدة. ويمكن القول فعلا ان العنف بين الميليشيات الشيعية سوف يزداد اكثر اذا ما انسحبت القوات الامريكية. وعندئذ يمكن ان يؤدي الاقتتال الدائر بين الميليشيات الشيعية الى اقناع الميليشيات السنية بأنها قادرة على استعادة السلطة.

ثانيا: من الواضح ان الميليشيات السنية والشيعية منقسمة على نفسها على المستوى السياسي الوطني، وعلى مستوى ميليشيات الاحياء ورجال العصابات.

بل حتى الساسة الشيعة منقسمون فيما بينهم، وينتمون لأربعة احزاب رئيسية على الاقل احدها حزب الدعوة (ينتمي اليه رئيس الحكومة المالكي)، الذي انقسم تاريخيا الى ثلاثة فصائل رئيسية.

وبدورهم، ينقسم السُنة ايضا الى عشائر خارج بغداد. ومن الملاحظ ان الفوضى القائمة في صفوفهم تجعل عملية التنسيق فيما بينهم امرا بالغ الصعوبة.

ولو امتلك المالكي سلطة الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا وتماسك حزب المؤتمر الوطني الافريقي خلال ايام النضال ضد التمييز العنصري لتمكن من التحرك بشكل مؤثر لدمج زعماء مختلف مجموعات السُنة في حكومته دون خوف من تقويض قوته امام منافسيه السياسيين الشيعة. وكان سيصبح في وضع افضل للايفاء بالتزامات الوعود التي قطعها للزعماء السُنة. لكن من الواضح ان المنافسات السياسية في اوساط الشيعة تجعل حكومة المالكي غير فاعلة.

بل يرى وزراؤها ان خيارهم الافضل يكمن في انشاء الميليشيات أو الارتباط بها استعدادا للمعارك المقبلة وللمشاركة في عمليات التهريب والابتزاز.

ومن المؤسف القول في مثل هذه الاوضاع ان الحرب الاهلية هي الطريق الوحيد للوصول الى المرحلة التي يصبح فيها اقتسام السلطة حلا ممكنا لمشكلة حكم العراق.

ذلك ان المزيد من القتال سيؤدي في النهاية الى توازن القوى ويتوافر بهذا الضغط لأن يعزز احد الجانبين أو كلاهما موقفه داخليا مما يمهد الطريق امام احدهما لاحراز انتصار نهائي أو يتحولا معا نحو تسوية متفاوض عليها وتتسم بالدوام.

واذا ما حدث وامكن التوصل لمثل هذه التسوية يصبح من الضروري عندئذ الاستعانة بقوة اقليمية أو دولية لحفظ السلام كي تبقى (التسوية) مستمرة.

ولا بد من الاشارة هنا الى ان لجنة بيكر - هاملتون كانت على صواب عندما ذكرت ان على واشنطن تأمين آليات دبلوماسية لمثل هذه التطورات بسرعة.

عمل متوازن

فربما يتمكن الساسة العراقيون المنتخبون من التداول فيما بينهم للتوصل للتسوية، وربما يستطيع الجيش العراقي - بدعم امريكي - تطوير قدراته للعمل بنجاح ضد كل الميليشيات الشيعية والسنية.

بيد ان مثل هذا السيناريو المتفائل غير مرجح، وهذا ما يفرض على صانعي القرار السياسي دراسة المضامين اذا ما تواصلت الحرب الاهلية في العراق وتصاعدت وتيرتها.

اذ لنفترض ان العنف الطائفي مستمر في بغداد، وان المجموعات السنية والشيعية مستمرة في محاربة بعضها بعضاً، وشن هجمات على الجنود الامريكيين والمدنيين العراقيين واذا ما استمرت ادارة الرئيس بوش عندئذ في التزامها بتحقيق الانتصار سترقى مثل هذه السياسة عندئذ لمستوى الوقوف إلى جانب الشيعة في الحرب التي يخوضونها ضد السنة.

صحيح ان بمقدور الجنود الامريكيين القيام بدور ايجابي ما، كأن يمنعوا وحدات الجيش العراقي من انتهاك حقوق الانسان وتقليل اعمال العنف، لكن طالما بقيت الولايات المتحدة ملتزمة بمحاولة جعل الحكومة العراقية ناجحة طبقاً للشروط التي حددها الرئيس بوش، لا مفر عندئذ من الاعتراف بالحقيقة وهي ان الوظيفة الاساسية للجنود الامريكيين هي دعم حكومة المالكي او خليفتها، ومن شأن هذا ان يوفر الشعور بالامن للمالكي وتآلفه ويمنحه بالتالي القدرة على متابعة الحرب القذرة ضد خصومه السنة الحقيقيين والوهميين والتظاهر في نفس الوقت انه يؤيد جهود المصالحة الوطنية.

وما من شك ان من الصعب الدفاع عن مثل هذه السياسة لاسباب اخلاقية ووطنية. فحتى لو تمكن رعاع الشيعة ومن يسهل اعمالهم في الحكومة من ابعاد السنة بالكامل عن بغداد، الا انهم لن يتمكنوا ابدا من قمع التمرد في الاقاليم السنية في الجزء الغربي من العراق او منع حدوث هجمات في بغداد واماكن اخرى يعيش فيها الشيعة.

وبعبارة أخرى، لن تؤدي السياسة الامريكية الراهنة إلى تحقيق اي انتصار عسكري حاسم قريبا.. لكن لو حدث وادت، هل من مصلحة واشنطن ذلك؟

الحقيقة: ان وجود حكومة متطرفة ناشطة في التطهير العرقي ويهيمن عليها الشيعة في بغداد، سوف يعزز اكثر بروز ايران كقوة اقليمية صاعدة.

كما ان دعم الولايات المتحدة لمثل هذه الحكومة لن يعطي السنة العراقيين والدول العربية السنية الاخرى في الشرق الأوسط سببا للامتناع عن تأييد القاعدة كحليف في العراق.

ثم ان دفع تلك الدول لدعم القوات السنية التي تقاتل الحكومة الشيعية في بغداد من شأنه أن يجعل القوات الامريكية تخوض حربا بالوكالة ضد تلك الدول.

لذا، وللاستفادة من الخيارات السياسية الافضل، يتعين على ادارة بوش (او خليفتها) وقف دعمها العسكري اللا مشروط للحكومة الشيعية التي ساعدتها في الوصول إلى السلطة في بغداد، ذلك ان التزام واشنطن بحكومة المالكي يلغي تأثير الولايات المتحدة دبلوماسياً وعسكرياً لدى كل الاطراف المعنية في العراق والمنطقة.

ان ايقاف الالتزام الامريكي بحكومة المالكي سيولد لديها الحافز لاستعادة المساندة الامريكية من خلال بذل جهود حقيقية لدمج السنة في الحكومة، وكبح ميلشيات الشيعة.

لكن لابد من الاعتراف ان قدرة حكومة المالكي على القيام باي من هذين الامرين غير واضحة، لا سيما اذا ما سحبت الولايات المتحدة قواتها من مسارح العمليات المركزية، وبالرغم من هذا يمكن ان يكون لهذا الانسحاب فائدة أخرى.. اذ ستبدأ المجموعات السنية المقاتلة ترى في الولايات المتحدة عندئذ دولة اقل التزاما بالفرس، وانها مجرد مصدر محتمل للمساعدة المالية للحكومة الشيعية في بغداد.

بل سوف تصبح الولايات المتحدة في موقف افضل امام سورية وايران لان سحب قواتها من بغداد واقليم الانبار سيقلل مخاوف هاتين الدولتين ويجعلهما اكثر استعداداً للمساعدة.

ومع ذلك، لن يضع هذا حدا سريعا للحرب الاهلية التي ستستمر على الارجح لبعض الوقت، لكنه سيساعد الولايات المتحدة في التحرك نحو القيام بدور متوازن يؤدي في النهاية لحل دائم يجعل مصالح السنة والشيعة والاكراد ممثلة على نحو ملائم في الحكومة.

فبالرغم من اعمال العنف الوحشية التي تمزق العراق حاليا، ثمة امل على المدى البعيد لان تبرز دولة عراقية تستند إلى اتفاق سياسي بين زعمائها السنة، الشيعة والاكراد، بل وربما ينتهي الامر بهؤلاء إلى التعاون وفقا لشروط دستورية مماثلة لبنود الدستور الراهن، رغم ان هذا لن يحدث الا بعد فترة صعبة من القتال.

ومن المؤكد ان قيام دولة عراقية مستقرة هو من مصلحة كل الاحزاب المعنية وكل الاطراف في الساحة العراقية ولا سيما منها النخبة. فمثل هذا الاستقرار يتيح لكل هؤلاء الاستفادة من موارد النفط بشكل فعال.

ان استمرار الحرب الاهلية لابد ان يقنع زعماء الشيعة بانهم لن يتمكنوا من التنعم بمكاسب النفط والسيطرة السياسية دون كسب ولاء المجموعات السنية التي تستطيع في الواقع مواصلة القتال بكل ما ينطوي عليه ذلك من خسائر فادحة للعراق ككل.

كما ستقنع الحرب الاهلية السنة بان العودة لهيمنتهم السابقة امر لم يعد ممكناً ما يجعلهم اكثر ميلا للتسوية.

لكن هناك عواقب اخرى محتملة للحرب الأهلية المستمرة منها انقسام البلاد، او نشوء منظمة عسكرية قوية تحقق انتصارا حاسما في المناطق السنية او المناطق الشيعية وتفرض بالتالي دكتاتورية صارمة. غير ان ايا من هذين الاحتمالين لا يشكل هدفا سياسياً مفيداً على المدى الطويل، ويبقى بالتالي التوصل لاتفاق حول انقسام السلطة امراً أفضل.

إذ ان محاولة فرض نوع ما من التقسيم من شأنه ان يزيد حدة القتال، فليس هناك حدود واضحة يمكن الدفاع عنها لفصل السنة عن الشيعة، ولن يقتنع السنة بحصولهم على حصة قليلة من النفط في المنطقة الغربية من العراق، كما من غير المؤكد ان تكون الدويلات السنية والشيعية والكردية مسالمة اكثر مما هي عليه الان في العراق، وسيؤدي تقسيم العراق إلى ثلاث دول إلى صعوبات اقتصادية كبيرة، واذا كان هناك احتمال لان يدفع استمرار الحرب الاهلية المقاتلين للقبول في النهاية بتقسيم العراق الا ان مثل هذا القرار يتعين ان يتخذه العراقيون انفسهم وليس اية قوة خارجية أخرى.

لكل هذا، يمكن القول ان التوصل لحلول اقل تطرفا هو الخيار الافضل لمعظم العراقيين وللسلام والاستقرار الإقليميين ولمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وأول مثل هذه الحلول هو انتشار السلطة بين عدد صغير من اللاعبين على المسرح العراقي، ممن يمتلكون سيطرة فعلية على القوات العسكرية والمناطق الاقليمية، وهنا يتعين توافر قوة دولية لحفظ السلام، ولو في المرحلة الاولى، كي تساعد على إضفاء الاستقرار.

ويتمثل الحل الثاني في بروز قوة عسكرية مهيمنة يكون لقائدها قدرة على عقد اتفاقيات او صفقات مع زعماء الحرب المحليين او حتى السياسيين الذين ينتمون لكل المجموعات الاخرى، وبالطبع، ليس بمقدور الولايات المتحدة في هذه المرحلة فرض احد هذين الحلين اللذين لا يمكن التوصل اليهما؟ الا من خلال القتال او المساومات التي يجب ان تتم بين العراقيين.

لكن بمقدور الولايات المتحدة تسهيل عملية الوصول الى أحد هذين الحلين بانتهاجها سياسة متوازنة تستخدم فيها الوسائل الدبلوماسية، المالية وربما العسكرية لتشجيع الفكرة القائلة ان أحداً لا يستطيع الفوز دون اقتسام السلطة والموارد مع الاطراف الاخرى.

فحتى لو تمكن الجنود الامريكيون بعد زيادة عددهم من تخفيض معدل القتل في بغداد، فإنهم يمكن ان يبقوا في العراق، وفقا للتجارب التاريخية السابقة، لعقود عدة، وهذا يعني انهم سيكتفون عندئذ بصد هجمات الجهاديين والوطنيين من مناطق يحتفظون بها بعيدا عن الصراع.

غير ان السيناريو الاكثر ترجيحاً هو ان يؤدي التزام إدارة بوش بنجاح حكومة المالكي الى دفع الولايات المتحدة للمشاركة بشكل سلبي في حملات القتل والتطهير العرقي.

وفي هذه الحالة يصبح التراجع للأخذ بسياسة اكثر انصافا في هذه الحرب الأهلية هو الطريق الوحيد المعقول الذي يمكن الدفاع عنه.

بيد ان هذا يعني ان على إدارة بوش، او تلك التي ستأتي بعدها، التخلي عن الاعتقاد ان اضافة المزيد من القوات العسكرية، وتغيير التكتيكات الامريكية يمكن ان يجعل العراق بلدا قادرا على حكم نفسه والدفاع عنه بعد رحيل القوات الامريكية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16 نيسان/2007 -25/ربيع الاول/1428