اغتيال جسر... وتمزيق حضارة

كاظم فنجان حسين الحمامي

عيون ألمـها بين الرصافة والجــسر          جلبن الهوى من حيث ادري ولا أدري

          أعدن لي الشوق القـديم ولم أكــن         سلوت ولكن زدن جمــرًا على جمــرِ      

   

أنها ابلغ قصيدة عشق نقشت بمداد الحس المرهف في ذاكرة ديوان الشعر العربي، وطرزت حروفها الجميلة على جبهة الجسر الذي كان رمزا من رموز الجمال، ورمزا من رموز الحضارة العربية الإسلامية التي كانت هي الشعلة والسراج الذي فاض بأنواره وعطاياه وأفضاله على كل الحضارات.

لكن مجتلباً غيّر الهوى، وعيوناً عور تكفيرية حاقدة تتربص بنا شرا، راحت تعبث بجسور دجلة والفرات، لتنسج الفتن وتزرع الرعب وتبث الفرقة عبر كل جسور وقناطر ومعابر العراق.

بعد قصيدة أبن الجهم بأحد عشر قرناً وقف السياب على الجسر ليحرّف شطراً في القصيدة:

عيون ألمها بين الرصافة والجـسر           ثـقـوب رصاص رقشت صفـحة الـبدر

وصدقت نبوءة السياب فلغة البنادق المسعورة والرصاص المتطاير منها، والسيارات المفخخة، والعبوات الناسفة التي دمرت ضواحي بغداد وأسواقها وجسورها.. قد جلبت لنا الوجع والهم والأسى، من حيث ندري ولا ندري..

فلطالما رمز جسر الصرافية إلى ذراع المحبة الممتد بين شطري قلب بغداد أم الدنيا وحاضرة الزمان التي أصبحت حاضرة الحزن والدموع والمآسي بعد أن دنستها أقدام الغزاة المحتلين وأذنابهم من الحاقدين والإرهابيين والتكفيريين الذين حملوا معهم أبشع موجات الدمار والتخريب الشامل  لكل ما ينتمي إلى هذه الأرض المقدسة.

أن هذا الجسر يعد من أجمل وأقدم معالم بغداد(1)، وهو أيضا صلة الوصل بين أبو الجوادين والنعمان (2)، وبين الرصافة والكرخ، وبين شرق بغداد وغربها، وبين الماضي والحاضر. وشريان يربط طرفي مهد الحضارات، المهد الذي انبثقت منه منابع الإيمان والتقوى، ونبتت فيه شجرة الأصالة العربية. وانطلقت منه مواكب المجد والشهادة، وقوافل العلم والمعرفة.

أن هذه الأيدي الآثمة والمفسدة التي خططت لهذا العمل الإجرامي الشنيع ونفذته لتغتال الجسر الذي لا ذنب له إلا انه يشترك في خدمة العراقيين، ولتقطع ما أمر الله به أن يوصل (3)، وكأنها تريد بفعلتها هذه تقطيع أوصال بغداد، هي التي فجرت المراقد المقدسة وانتهكت حرمة المساجد وبيوت الرحمن ودمرت الجامعات والمراكز العلمية واقتحمت المدارس ورياض الأطفال، وزرعت الموت في الأسواق والمحال التجارية، وأشاعت الفوضى في البلاد ونشرت الرعب بين العباد وحرضت على الفساد، وهي التي سرقت المتاحف والقطع الأثرية، ومهدت لتهجير المبدعين والمفكرين من الأطباء والمهندسين وأصحاب الشهادات العليا، وشردت العوائل من مساكنهم ومزقت وحدة العراق ونهبت ثرواته.

لقد انفطرت قلوبنا بانهيار الجسر ولكننا لم ولن ننهار رغم انف المحتلين والمغتصبين والحاقدين والتكفيريين، ورغم انف كل الدخلاء والأعداء والطامعين بالعراق وثرواته. وكما كنا نتوقع بعد كل فعل إجرامي ستظهر علينا زمر وجحافل الشامتين والمتشفين والمستنكرين والشاجبين والمنافقين بأبواقها المتشدقة بالمواساة المغلفة بالكراهية والشماتة الممزوجة بالتشفي عبر الفضائيات المأجورة لكي تخدش أسماعنا وتزعجنا ببياناتها المعبئة بالتحريض وبث الفرقة بين أطياف الشعب العراقي لكي تصب الزيت على النار.

نقول لكل هؤلاء أن انهار العراق وجداوله ومسطحاته المائية ستبقى متدفقة بالخير والعطاء وزاخرة بالمحبة والوفاء، وسيبقى العراق وأهله شامخا مرفوع الرأس مهما اتسعت دائرة السوء أو ضاقت، وستبقى جسوره ومعابره عامرة في قلوبنا ووجداننا، فكل ذرة من ذرات تراب العراق تحمل معاني ورموز يندر أن تجدها مجتمعة في أي بقعة من بقاع كوكب الأرض. وان هذه التربة المباركة التي أنجبت الأئمة الأطهار والعلماء والمفكرين والمبدعين لقادرة على إزاحة هذه الغيوم السوداء وطرد كل الغربان والخفافيش. وأنها ستستعيد ابتسامتها وعافيتها وستسترد مجدها التليد في القريب العاجل بأذن الله. 

 ............................................

(1) وهو جسر حديدي تم تشييده في منتصف اربيعينيات القرن الماضي في الجزء الشمالي من المدينة و يربط العطيفية بالوزيرية،  وتعود تسمية الصرافية إلى مالكها وهو احد الصرافين. انظر : (( الأصول التاريخية لأسماء محلات بغداد )) تأليف : د. عماد عبد السلام رؤوف

 

(2) بات هذا الجسر بعد إغلاق جسر الاعظمية منذ غرق نحو 1000 من الزوار الشيعة العام الماضي هو الممر الوحيد إلى مدينة الكاظمية ومرقد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام  للزوار القادمين من الجانب الشرقي ببغداد.

 (3) ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(البقرة: من الآية27) ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(الرعد: من الآية25)

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 15 نيسان/2007 -24/ربيع الاول/1428