ليس للكاتب الحق في أن يتدخل في ما لا يعنيه بخصوص قضايا أمته
وحضارته لأن تدخله هراء ولا جدوى منه ولأن أولي الأمر قد بلغوا من
الحكمة والحصافة ما يؤهلهم لقيادة السفينة إلى بر الأمان ومن المفروض
أن يقابلوا بالطاعة والحمد والشكر وليس بالتعليق والنقد والتحليل.
وليس للمثقف حق إبداء الرأي والثرثرة على طاولات النقاش حول مسائل
الشأن العام لأنها من مشمولات السلط العليا وتمس المصلحة السيادية
للأنظمة وأهل مكة أدرى بشعابها بينما هو يكفيه أن يشارك في مسابقات
ستار أكاديمي وأن يساهم في انتخاب ملكات الجمال أو يغوص في مكعبات لوحة
تشكيلية أو يتقمص أحد أدوار مجانين المسرح العربي أو يفرج عن نفسه عبر
سينما سقط المتاع المعروضة برا وجوا ولكن أن يكتب عن ما جرى في القمة
العربية وأن يتحدث حديث السياسة ويقرأ قراءة متأنية مشروع المبادرة
العربية للسلام فهذا من المحرمات ويدخل ضمن المستحيل التفكير فيه.
ولكن أليس من الغريب أن يقع التنازل عن الثوابت والمبادئ تارة باسم
الواقعية وطورا باسم اختلال موازين القوى والحرص على المحافظة على ما
تبقى من ماء الوجه؟ كيف يمكن التفريط في القدس تلك التي حلم الشهيد
عرفات بالصلاة فيها بعد تحريرها ومات مسموما محاصرا دون أن ينال
مرادها؟ هل يجوز للجيل الحالي أن يضيع عن الأجيال المقبلة حق العودة
إلى أرضهم وديارهم ويسد عنهم باب الأمل ويمنعهم من الحلم؟ كيف تقابل
الأرض مقابل السلام والسيادة والكرامة مقابل الأمن ولقمة العيش؟ أي زمن
هذا الذي يسمح فيه لفرسانه أن يمتطوا ركاب التطبيع والانبطاح؟ كيف نمنع
السلام ألا يكون استسلام واللاعنف ألا يكون ضعفا وجبنا؟
أي بلاء هذا الذي حل بنا أين يجف الرفض حتى من ريشة القلم بعدما
جفف من حد السيف؟ ما مستقبل القضية الفلسطينية بعد انكفاء مشروع الدولة
الأمة العربية وتراجع تجربة حركات التحرر؟ هل يمكن أن ينتهي الصراع
العربي الصهيوني بانتصار لإسرائيل يثبت حقها في الوجود وهزيمة لحضارة
اقرأ تعجز فيها حتى عن ترسيم حق فلسطين في لائحة الدول الموعودة
بالوجود؟
إن ما نراهن عليه هو إزاحة الغشاوة عن الأعين وتفكيك ضبابية الرؤية
من أجل التبصر بالمخاطر ووزن تداعيات المواقف واستتباعاتها وذلك بتشخيص
الحالة العربية جيدا حتى لا يقول الخلف يا ليتهم كانوا ترابا.
تنقسم الحالة العربية في زمن العولمة إلى ثلاثة جبهات: الممانعون
والمعتدلون والمعدلون.
1- جبهة الممانعة:
تضم العديد من الهيئات والمنظمات التابعة للشارع العربي التي ترفع
اللاءات الشهيرة الثلاثة:لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض وهي منخرطة في
مشروع مقاوم للاستبداد وللصهيونية وللإمبريالية وينتمي إليها الإسلام
السياسي الراديكالي والتيارات القومية العربية وما تبقى من اليسار
العربي المناهض للعولمة وتتواجد بشكل مكثف في النقابات وجمعيات الكتاب
والصحافيين والأطباء وتدافع عن حق الأمة في الاستثبات ومنها مجموعة من
الفصائل ترفع شعار الكفاح المسلح على الأرض وتؤمن بالتحرير عن طريق
البندقية وتتواجد في فلسطين ولبنان والعراق والصومال وقد تناصرها في
الخفاء بعض الأنظمة مما تبقى من دول الصمود والتصدي وان كان ذلك
لحسابات أخرى. هذه الجبهة محاصرة ومستبعدة من دائرة الأضواء وتعمل في
صمت وهي بصدد تحقيق ملحمات وانجازات.
2- جبهة المعتدلين:
هذه الجبهة طويلة وعريضة وتضم شريحة كبيرة الأنظمة والأحزاب
والهيئات المهنية والثقافية وكلها تؤمن بالديمقراطية والمجتمع المدني
وحقوق الإنسان وتريد استرداد الحقوق عن طريق المنزع السلمي والحوار
وتنبذ العنف وتستنكر اللجوء إلى القوة المفرطة ولذلك تحاول التقيد
بالقانون الدولي والشرعية الدولية وتحترم المواثيق والعهود وتحاول قدر
الإمكان تجنب ويلات الحروب ولكنها نراها في بعض الأحيان تبدي مواقف
شجاعة وتتكلم من الحين إلى الآخر عن السيادة والخصوصية وتدافع عن
الرموز الحضارية إن وقع انتهاكها وتبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق
التنمية والتطوير بالاعتماد على القدرات المحلية ويساندها العديد من
المثقفين ورجال الدين الذين يتبنون الوسطية الفقهية.
هذه الجبهة مترددة وتلامس الواقع بطريقة خجولة ولا تمتلك سوى رأس
مال رمزي ومازلت بعد غير مؤثرة في القرار السياسي وغير قادرة على تغيير
مجرى التاريخ لأنها تعاني من التفكك وسوء التنظيم وظلت تعمل بطريقة
نخبوية ولم تمكن الجماهير من المشاركة الفعلية.
3- جبهة المعدلين:
ظهرت مؤخرا وذلك لتحقيق مجموعة من الأغراض فشلت في تحقيقها
الامبريالية والصهيونية بالقوة وبدأت ملامحها منذ إعلان مشروع الشرق
الأوسط الكبير ثم الشرق الأوسط الجديد وبعد تصاعد المقاومة في العراق
وفشل الغزو الإمبراطوري في تحقيق أغراضه عن طريق الحرب المدمرة
وبالتالي نادي البعض بالإصلاح الديمقراطي وإلغاء النمط التقليدي من
الأنظمة باعتباره نمط قروسطي لا يتلاءم مع روح العولمة ومنطق التحضر ثم
وقع العدول عن ذلك وبدأ الحديث عن الاعتدال العربي والأنظمة المعتدلة
وهي في الحقيقة يراد بها أن تكون معدلة وبالقياس من أجل خدمة الأجندة
الغربية والاسرائلية ووضع القضية الفلسطينية نهائيا في مزبلة التاريخ
وتصفيتها حتى لا تبقى حجة يتذرع بها البعض لتنمية روح الكراهية والحقد
بين الأديان والشعوب والغريب أن هذه الجبهة يشارك فيها الجميع من
الفرقاء بمختلف التيارات والأحزاب الشيوعية والإسلامية والوطنية
والقومية والكل تحت مسمى معين ومن أجل تحقيق مصلحة خاصة سواء الحفاظ
على العروش أو ديمومة الكراسي أو صنع مستقبل للحزب الفتي أو مراعاة
وحدة الجماعة ونبذ منطق الفرقة والتشرذم. هذه الجبهة قليلة ولكنها تمسك
بزمام القرار ولها نفوذ كبير وتستمد سلطتها من تحالفها من الخارج ومن
تعاليها وانفرادها بالقدرة في الداخل وهي محاطة بالعديد من المرجعيات
الدينية والاجتماعية والتاريخية والكارزماتية.
من هذا المنطلق ينبغي أن لا نفاجئ عندما يقع إلغاء لفظ حق العودة من
المبادرة ويقع تعديلها ببعض المفردات المبهمة التي لا تفيد أي معنى
ويجب ألا نهتز عندما يعلن أولمرت استعداده للقاء ملوك العرب في قمة
عربية مقبلة فإسرائيل المهزومة منذ مدة من طرف المقاومة اللبنانية ربما
قد تأخذ مكانها في الجامعة العربية العبرية في المستقبل وهكذا تستعيد
بالسياسة ما كانت قد فرطته بالحرب.
فالأمل ليس معقودا على الجبهة المقاومة فقط فهذا أمر نتركه لمن هم
في الميدان وهم أدرى بحجم المعركة ووجهتها ولكن الأمل معقود على
المعتدلين العرب الحقيقيين وليس المعدلين لأنهم هم بالفعل عقلاء الأمة
وفرسان المرحلة وهم الأقدر على إدارة المعركة الإعلامية والسياسية
والديبلوماسية دون الإفراط ودون التفريط والوقوف بحذر في المنزلة بين
المنزلتين طالما أن المقام غير المقام والحال غير الحال.
إن الفرونيزيس العربي لا يرضى بكامب ديفيد جديد ولا بأوسلو أخرى ولا
بتفويت في حق العودة ولا يتنازل عن بيت المقدس كثاني القبلتين على
الرغم من إيمانه بوحدة الأديان على مستوى الجوهر واستعداده للانخراط في
حوار للثقافات وجدل للحضارات وآيته في ذلك أن مسؤولية التمسك بالثوابت
هي مسؤولية جماعية يرثها الخلف عن السلف وانظروا كيف يكون العقاب عند
المقاومين جماعيا على الرغم من أن التعدي يكون فرديا،فمادامت الجماعة
تتحمل مسؤولية تصرف الأفراد فلا يجوز للأفراد أن يفوتوا في حقوق
الجماعة.
كيف ننهي صراعا قد ينتهي بإنهائنا من الوجود في العالم ونشطب معركة
قد تشطب حقنا في الحياة؟ ألا ينبغي على العرب أن يتحالفوا مع إيران
وتركيا ويهرولوا نحو ماليزيا وأندونيسيا والهند والصين عوض أن يتحالفوا
مع الغرب ويهرولوا نحو إسرائيل؟
* كاتب فلسفي |