ملخص من كتاب تغطية الاسلام

كيف تتحكم أجهزة الإعلام ويتحكم الخيراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم

 

الكتاب: تغطية الاسلام

كيف تتحكم أجهزة الإعلام ويتحكم الخيراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم

المؤلف: ادوارد سعيد

ترجمة: د. محمد عناني

الناشر:رؤية للنشر والتوزيع/ مصر الطبعة الاولى/ 2005 

 

 

 

الفصل الأول

تصوير الإسلام في الأخبار

أولاً: الإسلام والغرب:

عندما أرادت شركة أديسون المتحدة بنيويورك (شركة كون إيد) أن تُقْنع الأمريكيين بضرورة توفير مصادر بديلة للطاقة، أذاعت إعلاناً تلفزيونياً مثيراً في صيف 1980، يتضمن لقطات متحركة قديمة لبعض الشخصيات المعروفة في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) – مثل الدكتور أحمد زكي يماني، والعقيد معمر القذافي، وبعض الشخصيات العربية التي تلبس الزي العربي وإن تكن أقل شهرة – ويمزج بينها، بالتناوب، وبين بعض اللقطات الثابتة الأخرى، إلى جانب لقطات لشخصيات أخرى ارتبطت أسماؤها بالنفط والإسلام مثل الخوميني، وعرفات، وحافظ الأسد، ولم يشر الإعلان إلى أي من هذه الشخصيات بأسمائها، ولكن المذيع قال بصوت المنذر المحذّر إن (هؤلاء الرجال) يتحكمون في مصادر النفط الأمريكية، وكان صوت المذيع القادم من الخلفية ذا نبرات وقورة، ولم يفصح عن أسماء (هؤلاء الرجال) ولا عن البلدان التي ينتمون إليها، بل ترك المشاهدين يشعرون بأن هذه الكوكبة من الأشرار الذكور قد أوقعوا الأمريكيين في قبضة من يتلذذ بتعذيبهم دونما ضابط أو رابط. وكان يكفي أن يظهر (هؤلاء الرجال) على النحو الذي ظهروا به في الصحف والتلفزيون حتى يعترى الأمريكيين مزيجٌ من مشاعر الغضب والاستياء والخوف. وكانت هذه المشاعر هي التي عمدت شركة (كون إيد) إلى إثارتها واستغلالها فوراً لأسباب تجارية محلية، تماماً كما حدث قبل عام واحد، عندما ألح ستيورات أيزنستات، مستشار الرئيس كارتر للسياسات المحلية، على الرئيس أن (يتخذ خطوات قوية لحشد الأمة والالتفاف حول أزمة حقيقية وتحديد عدو واضح لنا – منظمة أوبك).

ويتضمن إعلان شركة (كون إيد) عنصرين يشكلان معاً موضوع هذا الكتاب. الأول هو، بطبيعة الحال، الإسلام، أو بعبارة أخرى صورة الإسلام في الغرب بصفة عامة، وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة. والثاني هو استخدام هذه الصورة في الغرب وخصوصاً في الولايات المتحدة. وكما سوف نرى، يرتبط العنصران بعضهما بالبعض ارتباطاً يكشف لنا في النهاية عن الكثير في الغرب وفي الولايات المتحدة، مثلما يكشف لنا، بوسائل أقل وضوحاً وطرافة، عن بعض جوانب الإسلام.

تشتهر الأسماء العامة التي يُقصد بها الدلالة على شرائح بالغة الضخامة والتعقيد من دنيا الواقع بالغموض، على كراهيتها له، وبأنها في الوقت نفسه محتومة. فإذا كان صحيحاً أن مصطلح (الإسلام) اسم عام يفتقر إلى الدقة، إلى جانب ما يحمله من الشحنة الأيديولوجية، فمن الصحيح كذلك أن مصطلحي (الغرب) و(المسيحية) من المصطلحات المشكلة كذلك. ومع ذلك فالسبيل غير ميسّر لنا لتجنب هذه الأسماء العامة، مادام المسلمون يتكلمون عن الإسلام، والمسيحيون عن المسيحية، والغربيون عن الغرب، ومادام كل طرف يتكلم عن الأطراف الأخرى جميعاً بأساليب تبدو مقنعة ودقيقة. وأظن أنه من الأجدى الآن علينا ألا نحاول أن نقترح وسائل التفاف حول هذه الأسماء العامة، بل أن نعترف بدايةً بوجودها وبأنها ظلت تستعمل ردحاً طويلاً من الزمن باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الثقافي لا باعتبارها تصنيفات موضوعية. وهكذا فإن علينا أن نذكر أن مصطلحات (الإسلام) و(الغرب) بل و(المسيحية) تقوم كل منها بوظيفتين مختلفتين، ويدل كل منها على معنيين اثنين على الأقل في كل مرة يستخدم فيها المصطلح. فهي أولاً تنهض بوظيفة التعريف البسيطة، ومثال ذلك قولنا إن الخوميني مسلم أو إن البابا يوحنا بولس الثاني مسيحي. فأمثال هذه الأقوال تحمل الحد الأدنى من الدلالة على ماهية الشيء في مقابل الأشياء الأخرى جميعا. وعلى هذا المستوى نستطيع التمييز بين البرتقالة والتفاحة (مثلما نميز بين المسلم والمسيحي) وإن كان ذلك لا يتعدى حدود معرفتنا أنهما فاكهتان مختلفتان، تنمو كل منهما على شجرة مختلفة، وهلم جرا.

وأما الوظيفة الثانية لهذه الأسماء العامة المتعددة فهي الدلالة على معانٍ أشد تعقيداً. فالحديث عن (الإسلام) في الغرب اليوم يعني الإشارة إلى الكثير من المساوئ التي ذكرتها. أضف إلى ذلك أنه من المحتمل أن يدل مصطلح (الإسلام) على شيء يعرفه المرء معرفة مباشرة أو موضوعية. ويصدق هذا القول على استعمالنا لمصطلح (الغرب). ترى كم عدد الذين يستعملون هذه المصطلحات بغضب أو بثقة وهم يحيطون إحاطة محكمة بجميع جوانب التقليد الغربية، أو الفقه القانوني الإسلامي، أو اللغات المستعملة فعلاً في العالم الإسلامي؟ الواضح أن عددهم بالغ الضآلة، ولكن ذلك لا يمنع الناس من وضع الصفات المميزة (للإسلام) أو (للغرب) أو من الاعتقاد بأنهم يعرفون على وجه الدقة ما يتحدثون عنه.

لم أستطع أن أكتشف فترة في التاريخ الأوروبي أو التاريخ الأمريكي منذ العصور الوسطى ناقش أحد فيها الإسلام أو فكر فيه خارج إطار صاغته العاطفة المشبوبة، والتعصب، والمصالح السياسية، وقد لا يبدو ذلك اكتشافاً يدعو إلى الدهشة، ولكنه يضم في ثناياه جميع ألوان المباحث العلمية والأكاديمية التي كانت منذ مطلع القرن الثامن عشر تطلق على نفسها أسماً كُلياً هو مبحث الاستشراق أو كانت تحاول، بانتظام، دراسة الشرق. ولن يختلف أحد مع القول بأن أوائل الذين علّقوا على الإسلام، مثل بطرس المبجل وبارتليمي دربيلو، قد اتخذوا موقف المجادلة المسيحية المشبوبة فيما قالوه. ولكن أمامنا افتراضاً لم ينظر أحد في صحته يقول إنه حين تقدمت أوروبا والغرب فاتخذت خطواتها في العصر العلمي الحديث، وحررت نفسها من الخرافة والجهل، كانت مسيرتها بالضرورة تتضمن الاستشراق. أليس صحيحاً أن سيلفستر دي ساسي، وإدوارد لين، وإرنست رينان، وهاملتون جب، ولويس ماسينيون، كانوا من الباحثين والعلماء الموضوعيين، وأليس صحيحاً أن من آثار التقدم الذي شهده القرن العشرون بشتى ألوانه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغويات والتاريخ أن أصبح الباحثون الأمريكيون الذين يقومون بتدريس الشرق الأوسط والإسلام في جامعات كبرى مثل برنستون وهارفارد وشيكاغو، بالضرورة، غير منحازين ولا يمارسون الدعوة إلى شيء فيما يفعلونه؟ أما الإجابة عندي فهي بالنفي.

وليس ذلك لأن الاستشراق أكثر تحيزاً من العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى؛ لكنه وحسب، مثل غيره من المباحث المذكورة، له سماته الأيديولوجية ويتأثر مثلها بالعالم من حوله.

أما الفارق الأوحد فهو أن باحثي الاستشراق يبادرون باستخدام مواقعهم، باعتبارهم خبراء، في إنكار (وأحياناً حتى في إخفاء) مشاعرهم العميقة تجاه الإسلام بلغة الثقات التي تهدف إلى الشهادة (بموضوعيتهم) وكذلك (بحيادهم العلمي).

هذه واحدة. أما الأخرى فهي ما يتميز به هذا النسق التاريخي المعين، ولولاه لتساوت مظاهر الاستشراق جميعاً واستحال تمييز أحدها عن سواها. وأما هذا النسق فهو أنه كلما شعر الناس، في العصور الحديثة، بتوتر سياسي حادّ بين الغرب والشرق التابع له (أو بين الغرب وبين الإسلام التابع له) ظهر النزوع في الغرب إلى العزوف عن اللجوء إلى العنف مباشرة، بل اللجوء أولاً إلى رسم صورة الخصم بالأدوات والوسائل الهادئة التي تتمتع بالتجرد النسبي والتي يتميز بها كل رسم علمي شبه موضوعي، وهكذا يزداد وضوح صورة (الإسلام) ويظهر (الطابع الحقيقي) لما يمثله من تهديد، وهو ما يوحي ضمناً بالخطوات التي سوف تتخذ إزاءه. وفي مثل هذا السياق، يبدو للكثير من المسلمين، الذين يعيشون في ظل ظروف بالغة التنوع، أن العلم والعنف المباشر شكلان من أشكال العدوان على الإسلام.

وقد لا أبالغ إلا مبالغة طفيفة إذا قلت إن المسلمين والعرب يتعرضون للتغطية الإعلامية، وللمناقشة، وللخشية منهم بصفة أساسية إما باعتبارهم موردين للنفط أو بسبب احتمال مزاولتهم للإرهاب. ولم يتسرب إلا أقل القليل من تفاصيل الحياة العربية الإسلامية وكثافتها الإنسانية ومشاعرها المشبوبة إلى وعي أحد، حتى أولئك الأشخاص الذين يحترفون نقل أبناء العالم الإسلامي، وبدلاً من هذا لا نجد إلا سلسلة محدودة من الصور الكاريكاتورية العامة والفجّة للعالم الإسلامي، وهي تقدم بأسلوب يعرّضه، فيما يعرّضه له، للعدوان العسكري. ولا أعتقد أنه كان من قبيل المصادفة أن يكون الحديث الذي دار في الآونة الأخيرة عن قيام الولايات المتحدة بالتدخل العسكري في الخليج العربي، أو ما يسمى بمبدأ كارتر، أو المناقشات التي دارت حول قوات الانتشار السريع، قد سبقته فترة من التصوير العقلاني (للإسلام) من خلال البرامج التلفزيونية الهادئة، ومن خلال دراسة المستشرقين (الموضوعية) (ومن المفارقات أنها كانت على أحد حالين: إما أنها (لم تكن لها صلة) بحقائق الواقع الحالي، أو أنها حين أتخذت طابع الدعاية (الموضوعية) لم تنجح إلا في تنفير الجمهور من ذلك العالم) إن الوضع الحالي يتسم بعدة أوجه شبه مثيرة للرّعدة مع الوضع الذي نشأ في القرن التاسع عشر عندما قامت بريطانيا وفرنسا بغزو العالم العربي الإسلامي.

لا شك أن كل إنسان يلاحظ الطبيعة، والأحداث الاجتماعية، وذاته نفسها، ولكنه لا يلاحظ، ولم يسبق له أن لاحظ مطلقاً، معظم ما يفترض أنه حقيقي، بشأن الطبيعة أو المجتمع أو الذات، وكل إنسان يفسر ما يلاحظه، إلى جانب الكثير مما لم يلاحظه، ولكن المفاهيم التي يطبقها في التفسير لا تنتمي إليه، فلم يقم بصياغتها بنفسه بل ولا باختيارها. وكل إنسان يتحدث عن الملاحظات والتفسيرات للآخرين، ولكن اللغة التي يستخدمها في هذا الحديث ليست، على الأرجح، إلا العبارات والصور التي وضعها الآخرون فأخذها عنهم واعتبرها عباراته وصوره. وكل إنسان يعتمد اعتماداً متزايداً في معظم ما يسميه الحقائق الصلبة، والتفسيرات السليمة أو الصحيحة، وأشكال (التمثيل) المناسبة، و(محطات الملاحظة)، ومراكز التفسير، و(مستودعات التمثيل) التي ينشئها في المجتمع المعاصر على ما سوف أطلق عليه تعبير الجهاز الثقافي.

أما فرع الجهاز الثقافي الذي يقوم بنقل الإسلام إلى معظم الأمريكيين (ومعظم الأوروبيين بصفة عامة) فهو يعتمد بصفة رئيسية على شبكات التلفزيون والراديو، والصحف اليومية، والمجلات الإخبارية الواسعة الانتشار، وتلعب الأفلام السينمائية دوراً هنا، بطبيعة الحال، وذلك في حدود ما يتأثر إدراكنا المرئي للتاريخ وللبقاع النائية بما تقدمه السينما في هذا المجال. ويمكننا أن نقول إن هذا التركيز القوي لأجهزة الإعلام الجماعية يشكل في مجموعه جوهراً مشتركاً للتفسيرات التي تقدم صورة معينة للإسلام وتكشف أيضاً، بطبيعة الحال، عن المصالح القوية في المجتمع التي تخدمها هذه الأجهزة الإعلامية. وهذه الصورة، التي لا تقتصر على كونها صورة بل تمثل مجموعة المشاعر التي توحى بها الصورة، يصاحبها ما نستطيع أن نطلق عليه تعبير السياق الشامل لها. وأنا أعني بالسياق موقع الصورة، ومكانها في دنيا الواقع، والقيم المضمرة فيها، وليس بأقل من ذلك أهمية (نوع) الموقف الذي تدفع المشاهد إلى اتخاذه حيالها. وهكذا فإذا دأب التلفزيون على تقديم الأزمة الإيرانية في صورة الجماهير (الغوغائية) التي يعلو هتافها، بمصاحبة تعليق يتحدث عن العداء لأمريكا، فإن بُعْدَ المسافة، وعدم الألفة بما يحدث، وما يكمن في المشهد من تهديد، يجعل (الإسلام) قاصراً على هذه الخصائص، وهذا يؤدي بدوره إلى الإحساس بأن شيئاً منفراً وسلبياً في جوهره يواجهنا. وما دام الإسلامُ فيما يبدو (ضدنا)وبعيداً عنا في (ذلك المكان) فلن يبقى مجال للشك في ضرورة اتخاذ موقف مواجهة للرّدّ عليه. وإذا شاهدنا وسمعنا معلقّا مثل والتر كرونكايت وهو يضع عبارة (هذا هو الواقع) إطاراً لبرنامجه المسائي كل يوم، فسوف نستنتج نحن أيضاً لا أن المشهد الذي نراه هو ما اختارت إحدى شركات التلفزيون أن تعرضه علينا بهذه الصورة، بل أن هذا هو الواقع حقاً، وأنه أمر طبيعي، لا يتغير، و(أجنبي) ومعارض (لنا). ولا غرو إذن أن يقول جان دانييل في صحيفة لونوفيل أوبزرفاتير في عددها الصادر يوم 26 نوفمبر 1979 إن الولايات المتحدة تشعر أن الإسلام يحاصرها.

وعلى الرغم من شدة اعتمادنا على التلفزيون والصحف والراديو والمجلات، فليست هذه هي مصدرنا الأوحد لما (نعرفه) عن الإسلام، بل لدينا الكتب والمجلات المتخصصة والمحاضرين الذين يدلون بآراء أشد تعقيداً من المعلومات المشتّتة في جوهرها والأنباء المباشرة التي تنقلها وسائل الإعلام الجماهيرية. ومن المهم أن نذكر أيضاً أن الصحف والراديو والتلفزيون أجهزة تزخر بالتنوع فيما نلحظه من اتجاهات المحررين، أو بين وجهات النظر المختلفة، أو بين الصور البديلة أو المضادة للأعراف الثقافية أو الصور التقليدية. أي إننا، بإيجاز، لا نعيش تحت رحمة جهاز دعائي مركزي، على الرغم من صدور كم كبير مما يعتبر في حقيقته دعاية من أجهزة الإعلام وحتى من أقلام الباحثين الذين يتمتعون بسمعة طيبة. لكنه برغم التنوع والاختلافات، ومهما زعمنا العكس، فإن ما يصدر عن هذه الأجهزة ليس تلقائياً ولا هو يتمتع (بحرية) كاملة، ولا يتصادف أن تأتي (الأخبار) بالصورة التي تأتي بها، ولا يتصادف أن تنبع الصور والأفكار من دنيا الواقع لتصب في أعيننا وأذهاننا، ولا يتيسر لنا أن نجد الحقيقة حيثما نطلبها، وليس بين أيدينا ذلك التنوع المتوهم الذي لا يخضع لضابط أو رابط. فإن التلفزيون والراديو والصحف، شأنها في ذلك شأن جميع طرائق التواصل، تراعى قواعد وأعرافاً معينة في توصيل الأفكار في صور مفهومة، وكثيراً ما تلعب هذه القواعد والأعراف دوراً أكبر من دور الواقع الذي تنقله أجهزة الإعلام في تشكيل مادتها. ولما كانت هذه القواعد المتفق عليها ضمناً تساعد بكفاءة على اختزال الواقع، إذا اتسم بالتعقيد، حتى يصبح (أخباراً) أو (موضوعات صحفية) ولما كانت أجهزة الإعلام تجتهد حتى تصل إلى نفس الجمهور الذي تعتقد أن لديه مجموعة من الأفكار والافتراضات الموحّدة عن الواقع، فمن المحتمل أن تصبح صورة الإسلام (وصورة أي شيء آخر، في هذا الصدد) موحّدة إلى حد بعيد، وتتسم باختزال بعض الجوانب، وتكتسي لوناً واحداً. ومن البديهي أنه لما كانت أجهزة الإعلام شركات تسعى لتحقيق الربح، فإنها تهتم بترويج صور معينة للواقع وتقديمها على غيرها، وهذا مفهوم، وهي تفعل هذا في سياق سياسي يكتسب حيويته وتأثيره من أيديولوجيات قائمة على مستوى اللاوعي، وهي التي تنشرها أجهزة الإعلام دون تحفظات أو معارضة جادة.

ولا بد لنا الآن من وضع بعض الحدود اللازمة لموضوعنا، إذ لا يمكن الزعم بأن الدول الصناعية الغربية تنتهج سياسات قمعية أو تحكمها الدعاية. فذلك بطبيعة الحال زعم باطل. ففي الولايات المتحدة مثلاً، نجد الفرصة متاحة للتعبير عن أي رأي، مهما يكن، تقريباً، كما يتمتع المواطنون وتتمتع أجهزة الإعلام بطاقة لا تبارى على تقبل وجهات النظر الجديدة وغير التقليدية وغير (الجماهيرية) كما إن التنوع الهائل في الصحف والمجلات وبرامج التلفزيون والراديو المتاحة، ناهيك بالكتب والكتيبات، تنوع يكاد يستعصي على الوصف أو تحديد طابعه، فكيف نستطيع إذن أن نقول، بأي درجة من درجات الإنصاف والدقة، إنها جميعاً تُعبّر عن وجهة نظر واحدة عامة؟

لا نستطيع بالقطع ذلك بل ولن أقدم على مجرد المحاولة. ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن نلمح، على الرغم من هذا التنوع الفذّ، ميلاً كيفياً وكمياً إلى تحبيذ آراء معينة وتفضيل صور معينة للواقع على غيرها. فلاُقَدّمُ أولاً تلخيصاً سريعاً لبعض المسائل التي أثرتها قبل أن أبين كيف تتفق مع جوانب معينة في أجهزة الإعلام: إننا لا نحيا في عالم طبيعي، فالصحف والأخبار والآراء ليست موجودة في الطبيعة؛ بل إنها مصنوعة أي إنها نتجت عن الإرادة البشرية، والتاريخ البشري، والظروف الاجتماعية، والمؤسسات وتقاليد المهنة التي يزاولها المرء، وأما الحديث عما ترمي إليه الصحافة من موضوعية واقتصار على الحقائق والتغطية الواقعية وتوخي الدقة، فهو حديث عن مصطلحات نسبية إلى حد بعيد، وربما كانت تعبر عن النوايا لا الأهداف القابلة للتحقيق. وعلينا قطعاً، ألا نتصور أنها أمور عادية، لمجرد أننا اعتدنا اعتبار صحفنا صحفاً تنشر الحقائق ويمكن الوثوق بها، واعتبار صحف البلدان الشيوعية وغير الغربية صحفاً دعائية وأيديولوجية. أما الواقع فهو، على نحو ما يثبته هيربرت جانز في كتابه المهم (البت فيما يعتبر خبراً)، أن الصحفيين ووكالات الأنباء وشبكات الأنباء هي التي تقرر واعية ما ينبغي تصويره، والصورة التي يجب أن يتخذها وما إلى ذلك بسبيل.

ولنا أن نقول إذن، بتعبير آخر، إن الأخبار ليست (معطيات) ذات قصور ذاتي بل هي ثمرة نشاط معقد عادة ما يتضمن الاختيار المتعمد والتعبير المقصود.

لقد توافرت لنا الأدلة السابغة في الآونة الأخيرة على طرائق عمل الأجهزة الكبرى في مجالي جمع الأنباء ونشرها في الغرب، إذ صدرت الكتب التي كتبها جاي تاليز وهاريسون سولزبري عن النيويورك تايمز، وكتاب دافيد هالبرستام بعنوان (القوى التي تتشكل)، وكتاب توكنام بعنوان (صناعة الأخبار)، وشتى الدراسات التي أجراها هيربرت شيلر عن (صناعة وسائل الأتصال)، ومايكل شودسون بعنوان (اكتشاف الأخبار)، وأخيراً كتاب أرماند ماتلارت بعنوان (الشركات المتعددة الجنسية والتحكم في الثقافة)، وليست هذه سوى مجموعة محدودة من الدراسات التي أجريت من وجهات نظر مختلفة، والتي تؤكد مدى الالتزام في تشكيل الأنباء والرأي، في المجتمع بصفة عامة، بقواعد معينة، ومدى اتخاذه أطراً وتوسله بأعراف تمنح هذا العمل هوية شاملة واضحة كل الوضوح. فالصحفي، شأنه في ذلك شأن كل إنسان، يفترض افتراضات معينة يراها عادية أو (طبيعية)؛ ولديه قيم تمثلها في أعماقه حتى لم تعد تحتاج إلى اختبار صحتها في كل حالة، مثلما يعتبر المرء عادات مجتمعه من (المسلمات)؛ والمرء لا ينسى تعليمه وجنسيته ودينه أثناء وصفه للمجتمعات والثقافات الأجنبية؛ والوعي بأخلاقيات المهنة وطرائق أدائها يلعب دوره في تحديد ما يقوله المرء وأسلوب التعبير عنه والجمهور الذي يشعر أنه يوجه إليه هذا الكلام. ولقد وصف روبرت دارنتون هذه المسائل بطريقة بالغة الجاذبية في مقال له بعنوان (كتابة الخبر وقص القصص)، حتى جعلنا على وعي عميق لا بالواقع الحيّ لعمل الصحفي فقط بل أيضاً (بالتكافل والعداوات التي تنشأ وتنمو بين الصحفي ومصادره)، وبالضغوط القائمة في (التوحيد والتنميط)، وبالأساليب التي (يضيف بها الصحفي إلى الأحداث التي يغطيها أكثر مما يستقيه منها).

وتختلف أجهزة الإعلام الأمريكية عن أجهزة الإعلام الفرنسية والبريطانية بسبب الاختلاف البالغ بين المجتمعات، واختلاف الجمهور هنا وهناك، واختلاف المؤسسات والمصالح. فعلى كل صحفي أمريكي أن يكون على وعي بأن بلده دولة عظمى ولديها ما تنفرد به بين الدول من مصالح وطرائق خاصة لتحقيق هذه المصالح. إن استقلال الصحافة شيء رائع، عملياً ونظرياً، ولكن كل صحفي أمريكي تقريباً يكتب عن العالم وفي أعماقه وعي بأن الدار الصحفية التي ينتمي إليها شريك في القوة الأمريكية، بحيث لو تعرضت هذه القوة للتهديد من الدول الأجنبية أصبح استقلال الصحافة أمراً ثانوياً بالمقارنة بما لا يزيد في حالات كثيرة عن التعبير المضمر عن الإخلاص والوطنية، أو عن التعبير البسيط عن الهوية القومية. ولكن هذا لا يدعو للدهشة قطعاً، أما ما يدعو للدهشة فهو أن الناس في العادة لا يرون أن الصحافة المستقلة تشارك في السياسة الخارجية، على الرغم من مشاركتها الفعالة وبأشكال كثيرة. فإذا تغاضينا عن استخدام وكالة الاستخبارات المركزية للصحفيين العاملين في الخارج، فسوف نرى أن أجهزة الإعلام الأمريكية تقوم، وهذا أمر محتوم، بجمع معلوماتها عن العالم الخارجي داخل إطار تهيمن عليه السياسات الحكومية، فإذا نشأ تضارب أو خلاف مع هذه السياسات، على نحو ما حدث في حالة فيتنام، قامت أجهزة الإعلام بتكوين آرائها المستقلة، ولكنه حتى في هذه الحال لا بد من مراعاة قدرة هذه الآراء على التأثير في السياسات الحكومية وإن لم تغيّرها فعلياً، فهذه السياسات هي التي تهم الأمريكيين جميعاً، ومن بينهم رجال الصحافة.

ومن العواقب البالغة الخطورة لهذا الوضع هو أن الأمريكيين لا تكاد تتاح لهم فرصة رؤية العالم الإسلامي إلا في تلك الصورة المختزلة، والمقتسرة، والمعارضة. ومصدر المأساة هنا هو أن هذا قد أدى إلى تفريخ مجموعة من (الاختزالات المضادة) لدينا وفي العالم الإسلامي نفسه، إذ لم يعد مصطلح (الإسلام) يدل الآن إلا على أحد المعنيين العامين التاليين، وكلاهما مرفوض ويسلبه بعض ثرائه. ففي عيون الغربيين والأمريكيين يمثل (الإسلام) نزعة بدائية عادت للظهور، ولا تقتصر على الإيحاء بالتهديد بالعودة إلى العصور الوسطى بل بخطر تدمير ما يشار إليه بانتظام بمصطلح النظام الديمقراطي للعالم الغربي. وفي مقابل ذلك نجد أن (الإسلام) يمثل لعدد كبير من المسلمين رد فعل مضاد لهذه الصورة الأولى للإسلام باعتباره تهديداً أو خطراً. وهكذا نجد أن أي شيء يقال عن (الإسلام) يتحول، قسراً إلى حد ما، إلى صيغة الدفاع عنه بتعديد أوجه إنسانية الإسلام، وذكر عطائه للحضارة، والتنمية، والصلاح الخلقي. وقد أدى هذا النوع من رد الفعل المضاد إلى رد مضاد له، في بعض الأحيان، وهي حماقة واضحة، إذ حاول البعض معادلة (الإسلام) بالأوضاع الآنية القائمة في أحد البلدان الإسلامية، أو إحدى السلطات الإسلامية القائمة. ثم إذا بك ترى السادات وهو يصف الخوميني بأنه مجنون وعار على الإسلام، وترى الخوميني وهو يرد (التحية) بأحسن منها! وإذا بشتى الأشخاص في الولايات المتحدة يناقشون نصيب كل قضية منها من الصحة! ماذا يستطيع المدافع عن الإسلام من هذا المنطلق أن يقول حين يقرأ يومياً عن أعداد الذين أعدمتهم اللجان الثورية الإيرانية، أو عندما يعلن الخوميني، على نحو ما نقلته وكالة رويتر في 19 سبتمبر 1979، أنه سوف يقضي قضاءً مبرماً على أعداء الثورة الإسلامية؟ ما أرمي إليه هنا هو أن جميع هذه المعاني النسبية والاختزالية (للإسلام) تعتمد على بعضها البعض، وعلينا أن نرفضها كلها لأنها تعمل على استمرار التعقيد القائم.

أما مدى العواقب الوخيمة لهذا التعقيد القائم فيتضح حين نرى كيف اتخذ الإيرانيون من مناصرة الولايات المتحدة للتحديث الذي أتى به الشاه نداءً لحشد الصفوف لمعارضته، وكانت ترجمة هذا تتمثل في تفسير للملكية باعتبارها سُبَّةً في جبين الإسلام؛ كما حددت الثورة الإسلامية بعض الأهداف، وكان أحدها هو مقاومة الإمبريالية الأمريكية التي بدت، بدورها، في صورة من يقاوم الثورة الإسلامية بإعادة تنصيب الشاه رمزياً في نيويورك. وتوالت بعد ذلك أحداث المسرحية كأنما وفق برنامج استشراقي، فالمستشرقون المزعومون يلعبون الدور الذي فرضته عليهم توقعات الغربيين، والغربيون يؤكدون موقفهم في عيون أبناء الشرق باعتبارهم شياطين.

بل ولا يقتصر الأمر على هذا. فالبرامج التلفزيونية التي تنتجها الولايات المتحدة تشيع في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، كما يميل المسلمون، شأنهم في هذا شأن جميع أبناء العالم الثالث الآخرين، إلى الاعتماد على مجموعة ضئيلة من وكالات الأنباء التي تقوم بنقل الأخبار إلى العالم الثالث، حتى في الحالات الكثيرة التي تكون فيها هذه الأخبار أخباراً عن العالم الثالث. وهكذا تحوَّل العالم الثالث بصفة عامة والبلدان الإسلامية بصفة خاصة من مصادر للأنباء إلى جهات مستهلكة للأنباء.

 

الفصل الثاني

قصة إيران

أولاً: الحرب المقدسة:

أثارت إيران مشاعر غضب لا تزال متأججة في صدور الأمريكيين، أولاً بسبب الاستيلاء دون وجه حق على السفارة الأمريكية في طهران وبأسلوب مهين إلى حد بعيد، وهي التي احتلها الطلاب الإيرانيون في 4 نوفمبر 1979، وثانياً بسبب اهتمام أجهزة الإعلام بالحادثة وتركيزها الشديد عليها ووصف تفاصيلها بدرجة لا تكاد تصدق من الدقة. فمعرفة المرء ان الدبلوماسيين الذين يمثلون بلادهم محتجزون وأن الأمريكيين عاجزون عن تخليص أنفسهم، أمر يختلف تماماً عن مشاهدة ذلك أثناء وقوعه ليلة بعد ليلة على شاشات التلفزيون في ساعة الذروة. ولكننا وصلنا إلى المرحلة التي نحتاج فيها، في رأيي، إلى وضع تقييم نقدي لمعنى ما يشار إليه الآن بتعبير (قصة إيران) حتى نتفهم حضورها في الوعي الأمريكي، بأسلوب عقلاني ودون انفعال، خصوصاً لأن نسبة تبلغ نحو تسعين في المائة من الأمريكيين قد عرفت ما تعرفه عن إيران في الآونة الأخيرة عن طريق الراديو والتلفزيون والصحف. إننا لا نستطيع مهما نفعل تخفيف الإحساس بالغضب الشديد وبالجرح الذي أصابنا بسبب احتجاز الرهائن الأمريكيين، ولا بالاضطراب الذي أدت إليه الصراعات الدائرة في العالم الإٍسلامي، ولكنني أرى أن علينا أن نشعر بالامتنان لأن الولايات المتحدة لم تلجأ إلى استعمال القوة المسلحة إلا في مناسبة واحدة. وعلى أية حال، علينا أن نستعرض موقع إيران في عيون الأمريكيين، في السياق العام لعلاقات الولايات المتحدة والبلدان الغربية بالعالم الإسلامي، لنرى الصورة التي ظهرت وتظهر إيران بها، وكيف قدمتها أجهزة الإعلام، حرفيّاً، وأعادت تقديمها إلى الأمريكيين يوماً بعد يوم.

بدأت إيران تشغل جانباً كبيراً من نشرات الأنباء المسائية في الشبكات الإعلامية فور احتلال السفارة. وعلى امتداد شهور متعاقبة خصصت شركة إيه بي سي برنامجاً تلفزيونياً يومياً خاصاً يذاع في وقت متأخر من المساء بعنوان احتجاز أمريكا رهينة وقدم برنامج تقرير ماكنيل/ ليرار الذي تقدمه هيئة الإذاعة العامة (بي بي إس) عدداً من الحلقات لم يسبق لها مثيل عن الأزمة، وعلى امتداد شهور ظل وولتر كرونكايت يضيف إلى عباراته المميزة (هذا هو الواقع) عبارة تذكر المشاهدين بعدد الأيام التي قضاها الرهائن في الحجز، مثل (اليوم السابع بعد المائتين) وهلم جرا، وفي غضون أسبوعين تقريباً أصبح هودنج كارتر، المتحدث باسم وزارة الخارجية في تلك الأثناء، يعامل معاملة النجوم، ومن ناحية أخرى لم يكثر ظهور وزير الخارجية سايروس فانس، ولا مستشار الأمن القومي زبيجنيو برزنسكي، حتى وقعت المحاولة الفاشلة لإنقاذ الرهائن في أواخر إبريل 1980. وكانت إذاعة المقابلات التلفزيونية مع أبو الحسن بني صدر، ومع صادق قطب زاده، ومع آباء الرهائن، تعرض بالتناوب مع مشاهد المظاهرات الإيرانية، والدروس التي لا تستغرق إلا ثلاث دقائق عن تاريخ الإسلام والنشرات الطبية الصادرة من مستشفى الشاه السابق، وأوجه المعلقين والخبراء المتجهمة وهم يحلّلون، ويتأملون الموقف ويتناظرون ويخطبون، ويقدمون النظريات، ويقترحون الإجراءات اللازمة، ويحدسون تفسيرات الأحداث في المستقبل والاتجاهات النفسية، والخطوات السوفيتية، وردود الفعل المتوقعة من المسلمين، ومع ذلك ظل الأمريكيون الذين يربو عددهم على الخمسين في محبسهم.

واتضح خلال تلك الفترة أن الإيرانيين كانوا يستخدمون أجهزة الإعلام لما يرون أنه في صالحهم، وهو الرأي الذي لم يفت قطعاً شبكات وكالات الأنباء، فكثيراً ما كان الطلاب في السفارة يحددوت مواقيت (الأحداث) حتى تدرك آخر موعد لبثها بالأقمار الصناعية، ويمكن إدراجها في نشرات الأنباء الليلية في الولايات المتحدة. وكان المسئولون الإيرانيون يشيرون من وقت لآخر إلى أنهم يعتزمون بذلك تحريض الشعب الأمريكي على معارضة سياسة حكومته. ولقد كان ذلك سوء تقدير خطير في البداية. ولكن هذا أتى في وقت لاحق بتأثير غريب، ومرغوب فيه إلى حد ما، وهو حث أجهزة الإعلام على اتخاذ موقف التحقيق الصادق في الأمر. ولكنني أريد أن أناقش هنا الصورة الذي ظهرت بها إيران للأمريكيين في أشد فترات الأزمة توتراً، وأما الجانب الآخر للقصة فأضعه في المرتبة الثانوية لما اهتممت به هنا.

كان جانب كبير من الأخبار المثيرة التي حفل بها العقد المنصرم، على نحو ما ذكرت في الفصل الأول، وهي الأخبار التي لا تقتصر على إيران بل تشمل الصراع العربي الإسرائيلي، والنفط، وأفغانستان، أخباراً عما يسمى (الإسلام). ولم يبرز ذلك بصورة أوضح من الصورة التي برز بها في أثناء الأزمة الإيرانية المديدة، إذ قدمت أجهزة الإعلام إلى الأمريكيين الذين يتابعون الأنباء غذاء متواصلاً من المعلومات عن شعب معين، وثقافة معينة، ودين معين – وإن لم تزد تلك (المعلومات) عن تجريدات ساء تعريفها وساء فهمها إلى حد بعيد – فصورته دائماً في حالة إيران، في صورة المناوئ الخطر المعادي لأمريكا.

أما ما جعل الأزمة الإيرانية مناسبة ممتازة لفحص أداء أجهزة الإعلام فهو، على وجه الدقة ما جعلها مصدر هذه الآلام التي لها ما يبررها للكثير من الأمريكيين، وأقصد طولها وأن ما أصبحت إيران ترمز له أصبح يمثل العلاقات الأمريكية بعالم المسلمين. ومع ذلك، فأعتقد أن علينا أن نفحص بدقة ما ظهر وأتضح، في الفترة الأولى التي امتدت شهرين أو ثلاثاً، في مواقف أجهزة الإعلام، وفي قيامها بأعمال من شأنها ترسيخ هذه المواقف، على الرغم من التحديات الجديدة، والتغييرات والأزمات السياسية غير المسبوقة التي لا بد للغرب أن يواجهها من الآن فصاعداً. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، بدأنا نلمح تغييرات معينة في معالجة أجهزة الإعلام للأنباء، وهي تغييرات تبعث بصفة عامة على التفاؤل أكثر مما شهدناه في البداية.

لا بد لمن يفحص الكم الهائل من المادة (الإعلامية) التي أفرزتها أزمة الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران،  أن تستوقفه عدة أمور مهمة، أولها أن موقفنا (نحن) كان، فيما يبدو، موقف المحاصر ومعنا الحياة السوية الديموقراطية العقلانية. وبعيداً عنا، في مكان ما، يوجد (الإسلام) بصفة عامة، وقد استولى على أصحابه جنون نابع من ذواتهم يدفعهم إلى التلوّي هياجا، وهو ما يتجلى في هذه اللحظة في إيران المصابة باضطراب الأعصاب بصورة تدعو للقلق. فقد نشرت مجلة (تايم) في برواز خاص كلمة موجزة عن الإسلام الشيعي في إيران بعنوان (أيديولوجية الاستشهاد) في عددها الصادر في 26 نوفمبر، وفي اليوم نفسه نشرت مجلة نيوزويك صفحة كاملة عنوانها (عقدة الاستشهاد عند إيران) فكأنما كانت تنقل ما تقول من المصدر نفسه.

ويبدو أن الأدلة على ذلك كانت متوافرة بكثرة. ففي يوم 7 نوفمبر نشرت صحيفة سانت لويس بوست دسباتش محضر حلقة العمل التي عقدت في مدينة سانت لويس حول إيران والخليج العربي، جاء فيه أن أحد الخبراء قال (إن ضياع إيران، بقيام شكل من أشكال الحكومة الإسلامية، يعتبر أكبر نكسة واجهتها الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة). وبتعبير آخر، يعتبر الإسلام، تعريفاً، معادياً لمصالح الولايات المتحدة. ونشرت صحيفة وول ستريت جورنال في 20 نوفمبر مقالاً افتتاحياً تقول فيه أن (انحسار الحضارة) يرجع (بدايةً إلى تدهور القوى الغربية التي كانت تنشر هذه المثل العليا للحضارة)، فكأنما كان عدم الانتماء إلى الغرب – وهو مصير معظم سكان العالم، ومن بينهم المسلمون – معناه الافتقار إلى أية مثل عليا للحضارة. وعندما سأل أحد المذيعين بمحطة إيه بي سي، يوم 21 نوفمبر، الأستاذ ج.س. هوريفيتس، من جامعة كولمبيا، إذا ما كان اعتناق الإسلام الشيعي يعني (العداء لأمريكا) رد الأستاذ عليه بالإيجاب القاطع.

وكان جميع كبار معلقي التلفزيون، ومن أهمهم وولتر كرونكايت (محطة إذاعة كولمبيا) وفرانك رينولدز (محطة إيه بي سي)، يتحدثون بانتظام عن (كراهية المسلمين لهذا البلد) أو، بألفاظ اكثر شاعرية، عن (هلال الأزمة، ذلك الإعصار الدوّار فوق المروج) (رينولدز إيه بي سي، 21 نوفمبر). وفي مناسبة أخرى جاء صوت رينولدز المصاحب لصورة مظاهرة تهتف (الله أكبر) وهو يقول ما يفترض أنه المقصد الحقيقي للجمهور (كراهية أمريكا) وجاء في البرنامج بعد ذلك من يخبرنا أن النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، (هو الذي قال إنه نبي)، (ألم يقل كل نبي قبله إنه نبي؟) ويذكرنا بعد ذلك بأن تعبير (آية الله) (لقب من ابتداع صاحبه في القرن العشرين) وأن معناه هو (صورة الله) (ويفتقر هذا وذاك، للأسف، إلى الدقة الكاملة).

أما الدرس القصير في الإسلام (ثلاث دقائق) فقدمته محطة إيه بي سي، وقد قدمته في موقع أصحابه الذين لا يكادون يستحقون الظهور في الصورة، وقد أفتى كل منهم بالفتوى البغيضة نفسها وهي أن رد الفعل الصحيح على (الإسلام) هو الاستياء والاسترابة والاحتقار، وينطبق ذلك على (الديانة المحمدية)، ومكة، والحجاب، والشادور، والسُّني والشيعي (وكانت الصور المصاحبة للدرس تصور بعض الشبان الذين يدقون صدورهم) والمُلاّ وآية الله الخوميني، وإيران، وتحولت عدسة البرنامج بعد هذه الصور مباشرة إلى مدينة جيمزفل، بولاية ويسكونسن، حيث يقوم بعض التلاميذ الصغار العقلاء  والذين يدعون إلى الإعجاب – فليس بينهم محجبات أو من يدق الصدر أو فقهاء – بتنظيم احتفال وطني للتعبير عن (الوحدة).

(الإسلام المجاهد: الإعصار التاريخي) – هذا ما أعلنته مجلة الأحد المصاحبة لصحيفة نيويورك تايمز يوم 6 يناير 1980، وأما مايكل وولترز فكتب مقالاً بعنوان (الانفجار الإسلامي) في صحيفة نيو ريببلك يوم 8 ديسمبر. وقد حاول المقالان، شأنهما في ذلك شأن غيرهما، إثبات أمور لا تقتصر على أن الإسلام كيان لا يتغير وأننا نستطيع أن نفهمه، علاوة على التنوع الشديد في التاريخ والجغرافيا والهيكل الاجتماعي والثقافة الخاصة بأربعين أمة إسلامية وما يقرب من 800.000.000 مسلم يعيشون في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية (بالإضافة إلى ملايين كثيرة في الاتحاد السوفيتي والصين)، بل تتعدى ذلك إلى (الكشف) بتعبير وولتزر – عن أنه حيثما ارتكب القتل، ونشبت الحرب، واندلع الصراع المديد الذي يجرنا إلى بشاعات رهيبة (فالواضح أن الإسلام قد لعب في ذلك دوراً مهماً). ولم يكترث أحد، فيما يبدو، لتجاهل قواعد الأدلة المعمول بها عادة، أو بأن الكاتب لا يعرف اللغات ولا المجتمعات التي يتحدث عنها، أو بأن المنطق السليم ينسحب خارجاً دون جلبة كلما حانت مناقشة (الإسلام). وأما مقالة نيوريببلك الافتتاحية فقد اختزلت إيران في صورة (الإسلام المستقتل) وقدمت كلاماً يوحي بالعلم والمعرفة عما تقوله الشريعة الإسلامية بشأن التجسس، وحق المرور الآمن (في أرض الغير) وما شابه ذلك. وقد دعم ذلك كله الحجة الرئيسية وهي أنه إذا كان الإسلام في حرب معنا فالأفضل لنا أن ننزل الحلبة وعيوننا مفتوحة.

وقد لجأت جهات أخرى إلى وسائل أشد دهاءً وخفاءً لإلصاق الجرائم (بالإسلام) مما لجأت إليه نيوريببلك، ويتمثل أحدها في إحضار خبير لمواجهة الجمهور وجعله يقول إن الخوميني قد لا يكون في الحقيقة (ممثلاً لرجال الدين الإسلامي). (وكان هذا الخبير هو ل. دين براون، السفير الأمريكي السابق في الأردن والمبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان، ، وكان يتحدث إلى برنامج تقرير ماكنيل/ ليرر يوم 16 نوفمبر) ثم يضيف بعد ذلك أن المُلاّ (المدرّع) يمثل نكوصاً إلى عصر إسلامي أقدم (والواضح أنه يتميز بأصالة أكبر) وأن الجماهير الغوغائية في طهران ذكّرت براون بأحداث نورمبرج (المعادية لليهود) تماماً مثلما كانت المظاهرات في الطرقات أدلة على (أن السيرك هو وسيلة التسلية الرئيسية) التي يقدمها الحكام المستبدون في العادة.

ومن الوسائل الأخرى الإيحاء بأن ثمة خيوطاً خفيّة تربط ما بين شتى الجوانب الأخرى للحياة في الشرق الأوسط وبين الإسلام الإيراني، ثم إدانة هذا وذاك جميعاً، وقد يكون ذلك ضمناً أو صراحةً وفقاً لكل حالة على حدة. فعندما قام عضو مجلس الشيوخ السابق جيمز أبو رزق بزيارة طهران، صاحب الإعلان عن الزيارة في محطتي إيه بي سي وإذاعة كولمبيا التذكير بأن أبو رزق ينحدر (من أصول لبنانية). ولكن أحداً لم يشر مطلقاً إلى الخلفية الدانمركية لعضو مجلس النواب جورج هانسن، أو إلى أن أسلاف رمزي كلارك من أصول أنجلوسكسونية بروتستانتية. ولكن رجال الإعلام رأوا أهمية ما في الإيحاء بوصمة إسلامية غامضة تشوب ماضي أبو رزق، على الرغم من أصوله المسيحية اللبنانية، ويتصل بهذا استخدام صور زائفة لبعض (الشيوخ) العرب للتمويه في قضية أبسكام.

وأما أشد ضروب استخدام الإيحاء صفاقةً فقد بدأت بمقال قصير نشرته صحيفة أتلانتا كونستيتيوشن في صفحتها الأولى (بتاريخ 8 نوفمبر) ويزعم فيه دانييل ب. دروز أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت من وراء الاستيلاء على السفارة. وأما مصادره فكانت، كما يقول، سلطات (الاستخبارات الدبلوماسية والأوروبية) وقال جورج بول، بلهجة من ينطق بالحِكَم والأمثال، في مجلة واشنطن بوست يوم 9 ديسمبر (إن ثمة أساساً للاعتقاد بأن بعض الماركسيين الذين أجيد تدريبهم هم الذين ينظمون هذه العملية كلها) وفي 10 ديسمبر أذاعت محطة إن بي سي في برنامج يسمى (توداي شو) مقابلةً مع عاموس بيرليموتر، وهاسي كارميل، وقالت إن الأول (أستاذ في جامعة أمريكية) والثاني (مراسل مجلة الاكسبريس الأسبوعية الباريسية) (بصفة أساسية) والحقيقة أن الرجلين إسرائيليان، وسألهما روبرت أبيرنيثي عما زعماه بشأن (تلاقي مصالح) الاتحاد السوفيتي، ومنظمة التحرير الفلسطينية، و(الأصوليين) المسلمين في إيران، وكان سؤاله هو: هل صحيح أن هذه القوى الثلاث شاركت فعلياً في عملية احتلال السفارة؟ وأجابا بالنفي بعد تردد طفيف ثم عادا إلى الإشارة إلى توافق المصالح وتلاقيها. وعندما قال أبيرنيثي بأسلوبه المهذب إن ما يقولانه يوحي بأنه محاولات إسرائيلية (لتلطيخ سمعة منظمة التحرير الفلسطينية) اعترض الأستاذ بيرليموتر بغضب، قائلاً إن رائده فيما يصدر عنه هو (الأمانة الفكرية) الجليلة!

وأبت محطة إذاعة كولمبيا أن يتفوق عليها أحد في هذه المزايدات فقدمت في نشرة أنبائها الأخيرة (وأسمها نايتلي نيوز) يوم 12 ديسمبر مسئولاً من وزارة الخارجية الأمريكية يدعى مارفن كولب، فإذا به يستشهد (دون تحديد أسماء) بنفس المصادر (الدبلوماسية والاستخبارية) التي كان دروز قد أشار إليها قبل شهر كامل، وإذا به يؤكد من جديد أن منظمة التحرير الفلسطينية، والأصوليين الإسلاميين، والاتحاد السوفيتي قد تعاونوا في العملية. وقال كولب إن رجال منظمة التحرير الفلسطينية هم الذين وضعوا الألغام في المجمع، ثم واصل حديثه، قائلاً بلهجة الحكيم الحصيف، إن هذا قد تأكد بفضل (أصوات اللغة العربية) التي سُمعت داخل السفارة. (ونشرت صحيفة لوس إنجيليس تايمز في اليوم التالي موجزاً "للقصة" التي رواها كولب). ولم يبق إلا أن تأتي شخصية بارزة، أي كونستانتين منجيز، الخبير بمعهد هدسون، لترديد هذه الأطروحة نفسها، أولاً في عدد 15 مارس 1979 من نيو ريببلك، وبعد ذلك مرتين في برنامج تقرير ماكنيل/ ليرار، ولم تزد الأدلة عن ذلك، إلا بطبيعة الحال، تكرار الإشارة إلى الشيوعية الجهنمية المتحالفة بصورة طبيعية مع (شياطين) منظمة التحرير الفلسطينية و(أبالسة المسلمين) و(نحن ندهش لامتناع ماكنيل وليرار عن دعوة منجيز للعودة حتى يعلق على غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان أو على الانتقاد الإيراني الرسمي لهذا الغزو).

(حيثما وجدت الشيعة وجدت المتاعب) – هذا ما أفتى به دانييل ب. دروز في صحيفة أتلانتا جورنال – كونستيتيوشن يوم 29 نوفمبر، وهو يشبه ما قالت به نيويورك تايمز، وتحت عنوان أصغر، وبألفاظ أشد تعقّلاً، يوم 18 نوفمبر، (كان الاستيلاء على السفارة يرتبط بعاملين: موافقة الشيعة على السلطة وغضبهم لمسألة الشاه) ولم يمض أسبوع على احتلال السفارة يوم 4 نوفمبر حتى انتشرت صور الخوميني المتجهم، والتي لا تُغير مطلقاً ما يفترض أن تقوله لمن يطّلع عليها، مثلما انتشرت صور لا تنتهي للجماهير الإيرانية الغوغائية. وأصبح قيام الأمريكيين الغاضبين بإحراق الأعلام الإيرانية (وبيعها) من وسائل التسلية المعتادة، وتولّت الصحف بإخلاص نقل أنباء هذا اللون من ألوان الوطنية. كما تواترت أنباء لها طرافتها تدل على الخلط في أذهان الجماهير بين العرب والإيرانيين، مثل النبأ الذي نشرته صحيفة بوسطن جلوب يوم 19 نوفمبر عن مظاهرة غاضبة في مدينة سبرنجفيلد تردد هتافات تقول (عودوا إلى أوطانكم أيها العرب). وانتشرت التحقيقات الصحفية الخاصة في كل مكان عن الإسلام الشيعي، وإن كان من المدهش ألا تتعرض إلا مقالات محدودة نسبياً لتاريخ إيران الحديث، أو تشير إلى المقاومة السياسية ذات الأهمية الفريدة التي أبداها رجال الدين الإيرانيون للتدخل الأجنبي وللحكم الملكي منذ أواخر القرن الثامن عشر، أو تبحث قدرة الخوميني على إسقاط الشاه والانتصار على جيش لم يهزم في حرب من قبل، وكان أهم ما توصل به الخوميني في ذلك الأشرطة الإذاعية وجماهير الشعب العزلاء إلى حد كبير.

وربما وجدنا دلالة رمزية ما لعجز وولتر كرونكايت عن النطق الصحيح بالأسماء فلقد كان اسم قطب زاده يتغير في كل مرة ينطق فيها تقريباً، وعادة ما كان يقرب من (جابوزاداي) (وفي 28 نوفمبر أطلقت محطة إذاعة كولمبيا على بهشتي اسم (بشاتي)، وأرادت محطة إيه بي سي الانضمام إلى الركب فغيرت – في 8 ديسمبر – اسم منتصري إلى (منتسوري). وكانت كل (كبسولة) تاريخية عن الإسلام، تقريباً، تتسم بدرجة من الخلط تهبط بها إلى مستوى الهراء، أو تفتقر إلى الدقة إلى الحد الذي يجعلها تثير الرعب، خذ مثلاً ما جاء في الحديث عن الإسلام الذي ورد في برنامج محطة إذاعة كولومبيا (نايتلي نيوز) يوم 2 نوفمبر، إذ جاء في حديث راندي دانييلز عن شهر المحرم أنه الفترة التي يحتفل فيها المسلمون الشيعة (بتحدي محمد لزعماء العالم)، وهو قول يهبط الخطأ به إلى مستوى السخف والسفه، فشهر المحرم من الشهور الهجرية، والمسلمون الشيعة يحيون ذكرى استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في العشرة الأوائل من هذا الشهر. وقيل لنا بعد ذلك إن الشيعة يعانون من عقدة الاضطهاد، ولذلك (فلا غرو أن يخرج من بينهم خوميني)، وكان مما يبعث على الاطمئنان، وإن كان لا يقل تضليلاً، أن يقال لنا إنه لا يمثل الإسلام كله، وقد أجرى البرنامج نفسه معي مقابلة للإفادة من (حكمتي) وأخطأ المذيع في تعريف الجمهور بي إذ وصفني بأنني أستاذ للدراسات الإسلامية. وفي 27 نوفمبر قال أحد مراسلي المحطة إن إيران (كلها تعاني من (صداع خمر الثورة) فكأنما كانت إيران هي السّكّير الأول.

ولكن القوة التي (تحتجز أمريكا رهينة) لم تبرز كآبتها الحقيقية إلا حين تصدت صحيفة نيويورك تايمز للحديث عن الإسلام، فمارست أقصى سلطان لها باعتبارها صحيفة النخبة المثقفة، ولكن الصورة التي رسمتها تلك الصحيفة للإسلام ترجع في كثير من جوانبها إلى طابع الصحيفة نفسها. فلا يقتصر الأمر على كونها أولى وأهم الصحف الأمريكية، إذ إننا إذا جمعنا بين الشمول الذي تتحلى به، ومستوى الخبرة الرفيع في نقل الأنباء، والإحساس بالمسئولية، وأهم من ذلك كله قدرتها على الكتابة بمصداقية من وجهة نظر الأمن القومي، وجدنا أنها تتميز بقوة ذات ثقل فريد. وبعبارة أخرى، تستطيع الصحيفة أن تكون موضع ثقة إذا تحدثت في موضوع ما، وأن تجعله يهم الأمة كلها في الوقت نفسه: وهي تفعل ذلك عامدة، وتنجح، فيما يبدو، في أدائه.

وفي آخر العام الذي (سقطت) فيه إيران، بدأت التايمز تلتفت أخيراً إلى الإسلام. ففي 11 ديسمبر خصصت الصحيفة صفحتين كاملتين لنشر ندوة عنوانها (الانفجار في عالم المسلمين). وكان من بين المشاركين السبعة، ثلاثة باحثين من العالم الإسلامي، يقيمون ويعملون في الولايات المتحدة، وكان الأربعة الآخرون من الخبراء البارزين في التاريخ الحديث للعالم الإسلامي وثقافته ومجتمعاته، وكانت جميع المسائل التي طُلب إليهم أن يناقشوها مسائل سياسية، وكانت جميعاً تتعرض لتهديد الإسلام للمصالح الأمريكية، وكان الخبراء يحاولون هنا وهناك أن يناقشوا العالم الإسلامي كما لو كان الماضي فيه يختلف من بقعة إلى بقعة، شأنه شأن التحولات السياسية وضروب المسلمين أنفسهم، ولكن هذه المحاولات كانت تتلاشى أمام قوة بعض الأسئلة، مثل السؤال التالي: (إذا كانا اكتسبنا هذه الصورة الشيطانية في أعين الكثيرين من المسلمين في هذه اللحظة، فكيف ينبغي لنا التعامل مع من نحس بالتآلف معه من القوى والزعماء والحكومات؟ يأتي بازرجان ويصافح برزنسكي فينتهي ويمضي.

وبني صدر يقول إنه يريد أن يأتي إلى نيويورك فتكون في هذا نهايته. هل نستطيع أن نتعلم درساً ما في التعامل مع النظم الأخرى؟ هل في هذا درس في ضبط النفس أم ماذا؟ والواضح أن التايمز أحست أنها تتجه بذلك إلى المنبع، فإذا كان المسلمون يخضعون (لحكم) الإسلام، فعليك أن تستجوب الإسلام وجهاً لوجه. والطريف هنا هو أن الخبراء كانوا يحاولون تقسيم (الإسلام) إلى أهم العناصر التي يتكون منها، والتايمز تعيد تجميع هذه العناصر وبناءها في قوى عامة، إما أن تكون (معادية) لمصالح الولايات المتحدة أو (صديقة) لها، وكانت النتيجة التي خلص إليها الحوار في الندوة هي السخط والانزعاج، إذ إن آخر مجموعة من المسائل التي طرحتها التايمز قد أوحت بوضوح بأن الاقناع والمنطق لن يكتب لهما النجاح، ومن ثم فقد يلزم استخدام القوة باعتبارها الملاذ الأخير.

وقد انقشعت الشكوك التي تكتنف ما عسانا (نحن) أن نراه في الإسلام عندما نشرت (التايمز) في الأيام الأربعة الأخيرة من عام 1979 سلسلة من أربع مقالات طويلة بقلم فلورا لويس، تحاول فيها جميعاً أن تعالج موضوع (أزمة الإسلام) (فورة الإسلام – 28 – 29-30-31 ديسمبر) وتتسم مقالاتها ببعض السمات الممتازة، مثل نجاحها في تصوير مدى التعقيد والتنوع في عالم الإسلام، ولكنها تتضمن نقاط ضعف خطيرة أيضاً، يكمن معظمها في جوهر النظرة المفترضة إلى الإسلام اليوم، إذ لم تقتصر فلورا لويس على الحديث عن الإسلام وحده ودون غيره في الشرق الأوسط (فهي لا تكاد تذكر (الفورة) المماثلة في اليهودية، أو في المسيحية في مصر ولبنان) بل تنطلق إلى إصدار بعض الأحكام، خصوصاً في المقالة الثالثة، عن اللغة العربية (مستشهدة بآراء الخبراء التي تقول إن الشعر العربي "طنان وخطابي، وليس حميم النبرة فردىّ المشاعر") وعن الذهن الإسلامي (قائلة إنه يعجز عن "التدرج في التفكير") وهذه من الأحكام التي قد تعتبر عنصرية أو من قبيل الهراء إذا أطلقت على أي لغة أخرى، أو على أي دين آخر، أو على جماعة عرقية أخرى، وهي تكثر من الاستشهاد بأقوال لبعض المستشرقين الذين سبق لهم الإفصاح عن آرائهم العامة. فقد اقتطفت بعض أقوال إيلي قدوري الذي نشر في أواخر 1979 دراسة عن الثورة الإسلامية يحاول أن يبين فيها أنها معادلة للماركسية اللينينية، واستشهدت بقوله إن (الفوضى في الشرق عميقة ومستوطنة) واقتطفت أقوال برنارد لويس (وهو ليس من أقربائها) الذي كان قد أعلن (نهاية حرية التأمل والبحث) في العالم الإسلامي، ومن المرجح أن يكون ذلك نتيجة لعلم التوحيد الإسلامي (الجامد) والقائم في رأيه على (النظرة الجبرية، والعَرَضيّة، والتسلطية).

ومن المحال أن يخرج أحد بنظرة متسقة للإسلام من قراءة مقالات فلورا لويس، فإن هرولتها ما بين المصادر وعدم إلمامها بالموضوع يوحيان للقراء بطائر جارح يحاول اصطياد صيد متفرق مشتت: إذ كيف يلم المرء بأحوال عدة مئات من الملايين الذين ينطقون بكلمات (أقرب إلى التعبير عن الأماني منها إلى تبيان الحقائق)؟

ولكن الكاتبة قد حققت مقصدها من الحديث عن الإسلام على أي حال، فحتى لو لم يكن (الإسلام) واضحاً على الإطلاق، فلا شك في وضوح مواقفنا (نحن) إزاءه (أو قل لنا الحق كل الحق في مساندته من المواقف).

وقد نشرت مجلة إسكواير في عدد مايو 1980 مقابلة مع فلورا لويس، تكشف فيها، ربما دون قصد، عن الافتراضات التي كانت لديها وما دفعتها عليه من أعمال أثمرت تلك المقالات عن الإسلام. وأما (الترقيع) الذي اتسم به نقلها الأنباء، وطابع العجلة والسرعة فيه، فيوحيان بأن صحيفة التايمز تستطيع أن تنجو من اللوم لأن الإسلام هو الإسلام والتايمز هي التايمز. وفيما يلي نص ما قالته (ولاحظ اللهجة "غير الرسمية" التي تشي بموقع الثقة والسلطة فيما توحي به عبارة "لا يدري أحد ما يجري الآن في الإسلام").

ويزداد الأمر وضوحاً إذا قارنّا بين التحقيقات الصحفية التي تغطي (الإسلام) في التايمز وصحيفة لوموند الفرنسية، إذ إن التايمز جعلت فلورا لويس تقوم بإعداد التحقيق بسرعة، فهي لا تناقش القضايا اللاهوتية والمعنوية الكبرى التي يناقشها الناس في شتى أرجاء العالم الإسلامي (كيف يمكن للمرء أن يتحدث عن الإسلام اليوم، ولا يشير ولو مرة واحدة إلى الصراع المحتدم بين أنصار الاجتهاد (أي التأويل الفردي) وأنصار التقليد (أي الاعتماد على تفاسير الثقات) باعتبارها من طرائق تفسير القرآن؟) كما إنها لا تناقش أيضاً تاريخ وهياكل المدارس الإسلامية المختلفة التي تلهب نيران (الفورة) التي تحاول توثيقها، ولكنها تستعيض عن ذلك بالاعتماد على مقتطفات عشوائية، مقتبسة من أفواه من اختارتهم بأسلوب عشوائي، وتستخدم الحكايات التي تحل في تحقيقها محل التحليل، بل إنها لا تقدم حتى الجوانب الحقيقية للحياة الإسلامية، سواء كانت خاصة بالعقيدة، أو بالمبادئ الميتافيزيقية، أو بالسياسة.

من المفيد، كما قلت، مقارنة ما فعلته كبرى الصحف الأمريكية في هذا الصدد بما نشرته كبرى الصحف الفرنسية، إذ كانت لوموند، قبل هذا التاريخ بعام كامل (في 6،7،8 ديسمبر 1978) قد كلفت مكسيم رودنسون (وهو مستشرق ماركسي فرنسي بارز تقتطف فلورا لويس أقواله) بدراسة الظاهرة نفسها، ولن نجد اختلافاً يفوق الاختلاف بين هذين. فإن رودنسون يلم بالموضوع إلماماً تاماً، فهو يعرف اللغات، ويعرف الدين، ويفهم السياسة. ولا يعتمد على حكايات، ولا على مقتطفات مثيرة، ولا يقيم (التوازن) في الاعتماد على الخبراء بالإسلام (المناصرين) أو (المعادين)، بل يحاول أن يبين طبيعة القوى القائمة في المجتمع الإسلامي، وفي التاريخ الإسلامي، والتي تضافرت مع (التشكيلات) السياسية الحالية حتى أدت إلى الأزمة الراهنة، ومن ثم فهو يقدم لنا خبرة متكاملة ذات دلالة – عن الإمبريالية، والصراع الطبقي، والنزاع الديني، والأخلاق الاجتماعية – وهي لا تبرز في عمله في صورة المواقف التي يعرضها "لفائدة" قراءة تعتريهم الشكوك والمخاوف.

الفصل الثالث

المعرفة والسلطة

أولاً: المبادئ السياسية لتفسير الإسلام:

المعرفة الصحيحة والمعرفة المضادة:

في ظل الظروف الراهنة، حيث لا يعيش (الإسلام) في سلام مع (الغرب) ولا يعيش (الغرب) في سلام معه، بل ولا يعيش كل منهما في سلام مع ذاته، قد يبدو من العبث المبالغ فيه أن نتساءل عما إذا كان أبناء ثقافة معينة يستطيعون أن يحيطوا حقاً بمعرفة الثقافات الأخرى. إن علينا أن نطلب العلم ولو في الصين، كما يقضي بذلك أحد الأقوال المأثورة الذائعة في الإسلام، كما اعتاد الناس في الغرب، على الأقل منذ العهود اليونانية القديمة، أن يقولوا بوجوب طلب المعرفة، مادامت تلك المعرفة تتعلق بما هو إنساني وطبيعي. ولكنه كان من المعتقد في العادة، في حدود ما انتهى إليه المفكرون الغربيون، أن نتيجة هذا الطلب أو البحث كانت في الواقع ناقصة معيبة. بل إن فرانسيس بيكون نفسه، مؤلف كتاب تقدم المعرفة الذي يعد البادرة التي انطلق منها الفكر الغربي الحديث بأكثر طرائقه حماساً وحفزاً ذاتياً، يعبر في الواقع عن شتى الشكوك في إمكان إزالة العوائق المختلفة (تحطيم الأصنام) التي تحول دون المعرفة، وأما فيكو، تلميذ بيكون الذي كان يبجل أستاذه، فيقول صراحة إن المعرفة البشرية لا تزيد عما أتى به البشر، ومن ثم فالواقع الخارجي لا يزيد عن كونه "صورة معدلة للعقل البشري" ويزداد تضاؤل احتمالات المعرفة الموضوعية بما هو بعيدٌ وأجنبيٌّ تضاؤلاً أشدَّ بعد نيتشه.

وفي مقابل تيار الشك والتشاؤم المذكور، نجد أن دارسي الإسلام في الغرب (ودارسي الغرب داخل العالم الإسلامي، ولو أنني لن أعرض في مناقشتي لهم) يميلون إلى التفاؤل وإبداء الثقة التي تثير القلق. كان أوائل المستشرقين المحدثين في أوروبا لا يخامرهم، فيما يبدو، شك يذكر في أن دراسة الشرق، والعالم الإسلامي جزء منه، هي السبيل الأعظم للمعرفة العالمية، وقد كتب أحدهم، وهو البارون دكشتاين، في العشرينات من القرن التاسع عشر يقول إنه:

(مثلما اكتشف كوفيه وهمبولت أسرار تنظيم (الطبيعة) في أحشاء الأرض، سوف يقوم إيبل رموسات، وسانت مارتن، وسلفستر دي ساسي، وجريم، وبوب، وأ.ف. شليجل بمتابعة واكتشاف التنظيم الداخلي للفكر البشري وأسسه البدائية في إحدى اللغات).

وبعد سنوات معدودة كتب إرسنت رينان تصديراً لمناقشته لموضوع (محمد وأصول الإسلام الأولى) بملاحظات عن الآفاق التي تتفتح أمام ما أسماه (علم النقد) وقال رينان إن علماء الجيولوجيا والتاريخ واللغة يستطيعون التوصل إلى معرفة الأشياء الطبيعية (البدائية) – ويعين بها الأساسية والأصلية – عن طريق فحص آثارها بدقة وصبر، وإن الإسلام ظاهرة ذات قيمة كبيرة لأن مولده كان قريب العهد نسبياً ولا أصالة له. وانتهى رينان من ذلك إلى القول بأن دراسة الإسلام دراسةٌ لموضوعٍ يستطيع المرء أن يصل المرء فيه إلى معرفة يقينية وعلمية.

وربما يكون هذا الموقف (المناسب) هو ما جعل تاريخ الاستشراق الإسلامي يخلو نسبياً من تيارات الشك، ويكاد يخلو تماماً من مساءلة الباحث لنفسه عن منهجه، ولم يخامر معظم دارسي الإسلام في الغرب أي شك في إمكان الإحاطة بالمعرفة الموضوعية الحقة عن الإسلام، أو عن جانب من جوانب الحياة الإسلامية، على الرغم من القيود التي تفرضها حدود الزمان والمكان، ولكننا لن نجد عدداً كبيراً من الباحثين المحدثين الذين يشاركون رينان غطرسته الصريحة في آرائهم عن ماهية الإسلام، فلن نجد باحثاً محترفاً مثلاً يقول مثل رينان إننا نستطيع أن نعرف الإسلام لأنه يمثل نموذجاً أساسياً من نماذج توقف النمو والتطور الإنساني، لكنني لم أستطع العثور على أي مثال معاصر للباحث الإسلامي الذي يرى في البحث نفسه مصدراً للشك. وأظن أن السبب يرجع أيضاً، إلى حد ما، إلى تقاليد العاملين بالدراسات الإسلامية، وهي التي يتوارثونها جيلاً بعد جيل منذ قرنين تقريباً، فهي تحمي الباحثين الأفراد وتؤكد لهم صحة ما ينتهون إليه، بغض النظر عن الأخطار المنهجية والتجديدات المنهجية التي تتحدى الباحثين في معظم مجالات العلوم الإنسانية الأخرى.

ينظر الجمهور في أمريكا وأوروبا اليوم إلى الإسلام باعتباره (أنباء) من نوع لا يسر على الإطلاق. ويسوق التناغم بين أجهزة الإعلام وبين الحكومة وبين خبراء الجغرافيا السياسية – إلى جانب الأكاديميين من ذوي الخبرة في الإسلام، رغم كونهم يشغلون مكاناً على هامش الثقافة بوجه عام – في اعتبار أن الإسلام يمثل تهديداً للحضارة الغربية. ولكن هذا لا يعني أننا لن نجد في الغرب إلا التصوير الذي ينتقص من قدر الإسلام أو يكتسي بطابع العنصرية، فأنا لا أقول بهذا ولا أتفق مع من يقوله، لكنني أقول إن الصور السلبية للإسلام سائدة إلى درجة أكبر مما عداها، ، وإن هذه الصور لا تتفق مع (حقيقة) الإسلام (ما دمنا سلمنا بأن ما يشار إليه باسم (الإسلام) ليس حقيقة طبيعية بل هو بناء مركب أنشأه إلى حد ما المسلمون والغرب بالأساليب التي حاولت وصفها فيما سبق) ولكنها تتفق حول ما ترى القطاعات البارزة أنه (الإسلام). وتتمتع هذه القطاعات بالسلطة وبالإرادة اللازمتين لنشر تلك الصورة المحددة للإسلام، ومن ثم فإن هذه الصورة تزداد انتشاراً وحضوراً بحيث تسود ما عداها. وكما قلت في الفصل الأول، يجري ذلك وفقاً لعوامل اتفاق الآراء، وهو الاتفاق الذي يضع الحدود ويمارس الضغوط.

ومن المفيد أن ننظر في الحلقات الدراسية الأربع التي عقدت في الفترة من 1971 إلى 1978، بتمويل من مؤسسة فورد، في جامعة برنستون، وهي مكان جاذبية واضحة لعقد الحلقات الدراسية الأكاديمية، لأسباب اجتماعية وسياسية كثيرة. فإلى جانب شهرتها العامة، يوجد في الجامعة برنامج لدراسات الشرق الأدنى ذاعت شهرته ويتمتع باحترام كبير، وكان يسمى حتى عهد قريب قسم الدراسات الشرقية، وكان الذي أنشأه هو فيليب حتِيِّ منذ نصف قرن تقريباً. ويسيطر على التوجه الحالي للبرنامج – مثل توجه الكثير من برامج الشرق الأدنى الأخرى – علماء الاجتماع والسياسة. إذ يقل مثلاً عدد المناهج الدراسية الخاصة بالآداب الكلاسيكية الإسلامية من عربية وفارسية، وعدد المتخصصين فيها من الأساتذة، عن نظائر هذا وذاك في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ الخاصة بالشرق الأدنى.

والتعاون بين هذا البرنامج وبين مؤسسة فورد، مؤسسة العلوم الاجتماعية الأولى في البلد، يدل (وأضيف أنه قد قُصد به أن يدل) على التمتع بسلطة علمية وثقة مرجعية من الطراز الأول في الولايات المتحدة. ومن ثم فإن أي موضوع يحظى بالتركيز عليه تحت رعايتها يجري إبرازه إبرازاً لا شك فيه، فما تقترحه يوحي (ويقصد به أن يوحي) بقضايا جديرة بالتأكيد والأولوية وتتمتع بأهمية بالغة. وإن شئنا الإيجاز قلنا إن الحلقات الدراسية المذكورة، على الرغم أن واضعيها ومديريها من الأكاديميين، قد عُقدت ونصب عينيها المصلحة القومية. أي إن البحث العلمي كان يعتبر في خدمة تلك المصلحة، وعلى نحو ما سوف نرى، كان اختيار الموضوعات يشير إلى أن كل ما يتمتع بأفضلية سياسية لدى الحكومة كان يؤدي في الواقع إلى فرض مجالات بحثية معينة. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن مؤسسة فورد وجامعة برنستون لم يكن من المحتمل، بل ومن غير المحتمل الآن، أن يبديا الاهتمام بعقد حلقات دراسية (فاخرة) حول نظريات النحو العربي في العصور الوسطى، على الرغم من إمكان إقامة الحجة على زيادة أهمية عقد حلقة دراسية حول هذا الموضوع، من الناحية الفكرية الصرفة، عن أهمية أي من الحلقات التي عقدت.

مهما يكن من أمر، فعلينا أن نسأل: ماذا تناولت الحلقات الدراسية ومن الذي حضرها؟ كانت إحداها تتناول موضوع (الرق والمؤسسات المرتبطة به في مناطق الإسلام في أفريقيا). وكان الاقتراح الخاص بعقد هذه الحلقة يركز تركيزاً شديداً على خوف إفريقيا واستيائها من المسلمين العرب، كما يذكر أيضاً أن (بعض العلماء الإسرائيليين) قد حاولوا تحذير البلدان الإفريقية من الاعتماد أكثر مما ينبغي على الدول العربية التي قامت (في الماضي بإفراغ أراضيهم من سكانها). وهكذا فإن (رعاة) هذه الحلقة الذين اختاروا هذا الموضوع يؤكدون قضية من المؤكد أن تؤدي إلى تعكير صفو العلاقات بين المسلمين الإفريقيين والعرب، وقد دفعتهم محاولة تحقيق هذا الهدف إلى عدم دعوة أي علماء من العالم الإسلامي العربي.

وعقدت حلقة دراسية أخرى حول نظام (الذمّيين)، وكان محورها الرئيسي هو (وضع الأقليات، خصوصاً الأقليات الدينية، داخل الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط) أما (الذمّيون) فتعبير يشار به إلى جماعات الأقليات المستقلة نسبياً داخل الدولة العثمانية. وبعد تفكك هذه الدولة، وانتهاء شتى النظم الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، نشأ عدد من الدول الجديدة في الشرق الأدنى في زمن الحرب العالمية الثانية تقريباً. وكانت كل منها، أو حاولت أن تكون (دولة أمة)، فكانت إحداها (إسرائيل) دولة أقلية دينية في إطار الدول الإسلامية المحيطة بها، وقُدّرت لدولة أخرى (لبنان) أن تقوم بتمزيقها، إلى حد كبير، أقليةٌ مناوئةٌ من غير المسلمين، تتلقى الأسلحة من إسرائيل وتحظى بمناصرة الولايات المتحدة.

كان ذلك المحور أبعد ما يكون عن الموضوع الأكاديمي المحايد، (فنظام الذمّيين) تعبير، حتى في وضعه بهذه الصيغة، عن الحل السياسي المفضل للمشاكل المعقدة لمسألة الجنسية والقضايا العرقية في العالم الإسلامي المعاصر، ومهما تكن الأسباب الأكاديمية من وراء دراسته، فإن نظام أهل الذمة يمثل ارتداداً ونكوصاً إلى عهد سالف بائد، كانت القوى الاستعمارية (عثمانية أو غربية) تطبق فيه سياسة فرِّق تَسُدْ، حتى تتحكم في أعداد هائلة من السكان الذين قد يقومون بمناوأتها، وأما الأغلبية السنُّية من سكان هذه المنطقة، وبعض الأقليات أيضاً، فلقد كان التاريخ القريب للعالم الإسلامي الحديث يمثل لها نضالاً في سبيل تخطي التقسيمات العرقية والدينية وصولاً إلى نوع ما من الديموقراطية العلمانية (ربما كانت وحدوية). ولم تنجح أي دولة من دول المنطقة في تحقيق ذلك إلا في دنيا السياسات المعلنة (وغير المطبقة في العادة)، ولكن إسرائيل والطائفة المارونية التي تنتمي إلى أقصى اليمين في لبنان قامتا بحملة مستعرة في سبيل العودة إلى هيكل للدولة يقوم أساساً على تمتع الأقلية العرقية بالحكم الذاتي وترتبط بروابط ثنائية مع قوة (راعية) أجنبية أو دولة عظمى، ولم يكن من قبيل المصادفة أن واضعي خطة الحلقة الدراسية قد اقترحوا تطبيق هذا الحل على الفلسطينيين أيضاً، إذ إن الشخص الذي أحضروه إلى برنستون للحديث عن (الأقلية) العربية الفلسطينية(ويا للسخرية المريرة في وصفهم بالأقلية!) كان أستاذاً إسرائيلياً.

ولا يمكننا أن نعزو عقد هذه الحلقة الدراسية حول هذا الموضوع البالغ الحساسية في الولايات المتحدة في مثل ذلك الوقت (1978) ومشاركة عدد كبير من أفراد الأقليات الدينية والعرقية المعادية للحكم الإسلامي المزعوم (وهم من يمكن أن يعودوا بالفائدة على راسمي السياسات الأمريكية) إلى أي اهتمام علمي أكاديمي محض. ولم يكن من المصادفات أيضاً أن الداعي الرئيسي إلى عقد هذه الحلقة الدراسية كان الباحث نفسه الذي أشرت إليه آنفاً، نفس الشخص الذي امتدح حب الاستطلاع الفكري في الغرب، وسخر من جميع الأكاديميين وجميع غير الاوروبيين الذين كانوا يشتمّون مؤامرة سياسية في كل شيء.

كانت الحلقة الدراسية الأولى قد ناقشت تطبيق أساليب التحليل النفسي وطرائق التحليل المتبعة في العلوم السلوكية في تفهم المجتمعات الحديثة بالشرق الأوسط. وصدر فيما بعد مجلد يتضمن أعمال تلك الحلقة الدراسية. وقد حققت الحلقة الدراسية ما كنا نتوقعه، بصفة أساسية، إذ انصب تركيزها الرئيسي على دراسات الشخصية القومية (ولو أن المجلد يتضمن نقداً كتبه علي بنوزازي لما يزعمون أنه دراسات الشخصية الإيرانية، وهو نقد يقوم على أسس علمية صارمة ويتسم بالوضوح، وقد أصاب كبد الحقيقة حين ربط بين هذه الدراسات المزعومة وبين أهداف التلاعب للدول الإمبريالية ذات المطامع في إيران.

كانت نتائج الحلقة الدراسية متوقعة إلى الحد الذي يدعو إلى الانقباض، إذ لا يمل الكتاب من تكرار الإشارة إلى أن المسلمين يعيشون في عالم وهمي، وأن الأسرة تمارس القمع والكبت، وأن معظم القادة مصابون بأمراض نفسية، وأن المجتمعات لم تصل إلى مرحلة النضج بعد، وهلم جرَّا، ولا يقدم هذا الكتاب إلينا ذلك كله من وجهة نظر علماء يسعون إلى تغيير هذه المجتمعات بحيث تصل إلى (النضج)، بل من منظور علماء محايدين، موضوعيين، لا يتقيدون بأحكام قيمة، ولكن الكتاب لا يحسب حساباً للمواقع، التي يشغلها هؤلاء العلماء (مهما يبلغ حيادهم وتحررهم من أحكام القيمة) في علاقاتهم بالشركات الكبرى والسلطات الحكومية، ولا يأخذ في اعتباره الدور المنوط بأبحاثهم في تنفيذ السياسات الحكومية تجاه العالم الإسلامي، أو ما يترتب على تطبيق المناهج النفسية عندما يقوم مجتمع قوي بدراسة مجتمع أقل قوة منه.

ولم تتناول الحلقة الدراسية الرابعة بحث أي من هذه الأمور، وكان عنوانها (الأرض، والسكان، والمجتمع في الشرق الأدنى: دراسات في التاريخ الاقتصادي من فجر الإسلام إلى القرن التاسع عشر). وقد صورت هذه الحلقة نفسها، مثل غيرها من الحلقات، باعتبارها علمية وغير منحازة، وإن استطعنا أن نستشف تحت السطح اهتماماً مُلحاً إلى حد بعيد ويتعلق بالسياسات، وكان في هذه الحالة اهتماماً بالعلاقات ما بين حيازة الأراضي، والأنساق السكانية، وسلطة الدولة، باعتبار هذه العلاقة مؤشراً على الاستقرار أو عدم الاستقرار) في المجتمعات الإسلامية الحديثة. ولكن ينبغي ألا نستخلص من هذا أن كل مساهمة في الحلقة الدراسية كانت تفتقر إلى القيمة الموضوعية، أو أن كل مشارك في الحلقة كان طرفاً في مؤامرة شنيعة، فلقد أبدى القائمون على تنظيم الحلقة حكمة بالغة في أن كفلوا تحقيق (التوازن) بين الآراء، وكفلوا للحلقة الدراسية أن تتسم، إجمالاً، بسمات المسئولية والجدّية. ومن ناحية أخرى علينا ألا نقع في شرك اعتبار الحلقة مساوية للمجموع الحسابي لأجزائها الكثيرة المنفصلة. فلقد عملت الحلقات الدراسية الأربع معاً، في اختيار الموضوعات والاتجاهات العامة، على تشكيل الوعي بالإسلام بأسلوب يضمن إما إقامة مسافة تفصلنا عنه باعتباره ظاهرة معادية وإما تأكيد بعض جوانبه التي نستطيع (التصدي) لها في سياساتنا.

وفي هذا الصدد كانت الحلقات الدراسية التي عقدت في جامعة برنستون حول الإسلام تتفق مع تاريخ برامج الدراسات لبعض مناطق العالم الثالث الأخرى، في الولايات المتحدة – مثل الفترة التالية مباشرة للحرب في الدراسة الأكاديمية للصين، أما الفرق فهو أن البرامج الإسلامية لا تزال في حاجة إلى (مراجعة) وتنقيح، إذ لا تزال تسيطر عليها مفاهيم بالية، وغامضة إلى حد غير معقول (مثل مفهوم (الإسلام) نفسه إلى جانب مصطلح فكري انقطعت صلاته بالتطورات العامة في العلوم الإنسانية وفي المجتمع كله: فلا يزال من الممكن أن يُقال عن الإسلام ما لا يمكن قبوله ببساطة إن قيل عن اليهودية، أو عن أبناء آسيا الآخرين، أو عن السود، ولا يزال من الممكن أن تُكتب عن التاريخ الإسلامي، وعن المجتمع الإسلامي، دراسات يسعدها أن تتجاهل كل ألوان التقدم الكبرى في نظرية التفسير منذ نيتشه وماركس وفرويد.

وكما تساعد الحلقات الدراسية التي عقدت في جامعة برنستون، ، في تشكيل الاهتمامات الفكرية للباحثين والدارسين، نجد أن حقائق هذه الأسواق تؤثر هي الأخرى في المواد الدراسية وموضوعات البحوث. وتركز دراسات الشرق الأوسط أشد التركيز على مجالات معينة مثل الشريعة الإسلامية والصراع العربي الإسرائيلي، فصلتها بالواقع الحي واضحة في الظاهر، ولكن ذلك يترتب عليه، وفقاً لما يقوله نولت، تجاهل الأدب، وتجاهل المجموعات الكبيرة إلى حد ما من طلاب الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية، كما يقول نولت إن مديري المراكز الذين حادثهم أشاروا إلى أحداث معينة تعرضوا فيها لضغوط سياسية منظمة، كان مصدرها في حالات كثيرة من خارج الجامعات، ترمي إلى منع أو تشويه صورة بعض الأنشطة المرتبطة بالعرب، والتي تراها المراكز المعنية مشروعة ومستحبة من وجهة النظر الأكاديمية، ومن بينها الاحتفالات الثقافية العربية، وعرض الأفلام العربية، واستضافة المتحدثين العرب، وقبول المنح العربية لتدعيم الميزانية – وغير ذلك كثير. وقد أدى الوعي بهذا إلى فرض (التعويق النفسي) على الجميع، وهو ما لم يتخلّف معظم المديرين عن إبداء استيائهم منه، ولم يكن بينهم من يملك أن يتجاهله، وقال بعضهم إن الأحوال تسير في طريق التحسن، وتشكك آخرون في ذلك.

وتعلن هذه وتلك جميعاً – أي السياسة والضغوط والأسواق – عن نفسها بطرائق مختلفة. فالحاجة إلى الخبرة بالشرق الأوسط المعاصر تؤدي إلى وضع مناهج دراسية كثيرة، والتحاق الكثيرين من الطلاب بها، مع التأكيد الواضح على قبول (منظورات) المعرفة الأساسية التي تجمع بين الربح المادي وإمكان التطبيق الفوري، والحفاظ على هذه (المنظورات). ومن النتائج الأخرى أن الأبحاث المنهجية غائبة عن الساحة غياباً مطلقاً، فالطالب الذي يرغب أن يشق طريق حياته العملية في دراسات الشرق الأوسط يخشى أول الأمر السنوات الطويلة المجدبة اللازمة للحصول على الدكتوراة (دون ضمان الحصول على وظيفة مدرس آخر الأمر) فيحصل على الماجستير أو دبلوم الدراسات الدولية في موضوع تتوافر فيه الجاذبية لأكبر أصحاب العمل (الحكومة، وشركات النفط، وبيوت الاستثمار الدولية، وشركات المقاولات) وأخيراً يقوم بعمله بأسرع ما يمكن، وفي شكل (دراسة حالة). ويؤدي هذا كله إلى عزل دراسة الإسلام أو الشرق الأوسط عن التيارات الفكرية أو الأخلاقية الأخرى في دنيا الباحثين والعلماء. وتبدو أجهزة الإعلام هنا مسرحاً اصلح وأجدى لعرض خبرته من الدوريات العلمية المتخصصة مثلاً، كما أن الظهور في أجهزة الإعلام يعني، على نحو ما يعرف من اعتادوا ذلك، إما أن تكون مناصراً لقضية ما (وهو ما يفرض عليك قيوداً شديدة) أو تظهر بصورة الخبير الهادئ الذي استدعى دون تحيز ليصدر الأحكام على المذهب الشيعي ومعاداة أمريكا. ومن الواضح أن دور الخبير يساعد المرء في حياته العملية، إلا إذا كان قد أصاب النجاح من قبل في التجارة أو في عمل حكومة.

وهكذا فإن التغطية الحالية للإسلام وللمجتمعات غير الغربية، في مجملها، تضفي القداسة في واقع الأمر، على عدد معين من الأفكار والنصوص والثقات. فالفكرة التي تقول إن الإسلام ينتمي للعصور الوسطى ويشكل خطراً علينا، مثلاً، أصبحت تشغل مكاناً محدداً بدقة في الثقافة العامة وفي السياسة، فما أيسر الاستشهاد بالثقات لتأكيدها، والإشارة إليها، وإقامة الحجة على صحة زعمٍ ما بشأن جانبٍ ما من جوانب الإسلام استناداً إليها، ولقد أصبح ذلك ميسوراً وفي متناول أيدي الجميع، لا الخبراء وحدهم ولا الصحفيين. ومثل هذه الفكرة تقوم بدورها بصفتها المعيار المسبق الذي لا بد أن يضعه في حسبانه كل من يبغي مناقشة الإسلام أو قول شيء ما عن الإسلام. فبعد أن كان الإسلام حقيقة خارجية، أو بالأحرى تلك الكيانات المادية المرتبطة به في كل حالة، أصبحت هذه الصورة للإسلام ذات صحة معتمدة في هذا المجتمع نفسه، بعد أن دخلت الثقافة المعتمدة وأصبحت تنتمي إليها، وهو ما يجعل من مهمة تغييرها عملاً بالغ الصعوبة حقاً وصدقاً.

ويكفي هذا فيما يتعلق بالتغطية (المعتمدة) للإسلام، وهي التغطية التي أدت روابطها بالسلطة إلى منحها القوة، والثبات، وكذلك وقبل كل شيء، الحضور، ومع ذلك فلقد شاعت نظرة أخرى للإسلام، تنتمي إلى فئة أخرى قد أطلق عليها صفة المعرفة المضادة.

وأعني بالمعرفة المضادة نوع المعرفة الذي ينتجه الذين يعتبرون أنهم يعارضون، واعين، الصورة السائدة المعتمدة فيما يكتبون، وهم يفعلون ذلك، على نحو ما سوف نرى، لأسباب متفاوتة وفي مواقف متباينة، ولكنهم جميعاً يدركون جيداً أن أسلوب وأسباب دراستهم للإسلام مسائل تتطلب التأمل والصراحة.

ونحن لا نجد في تفسيرات هؤلاء المفسرين المضادين ما نعهده من صمت منهجي في كتابات المستشرقين، وهو الصمت الذي عادة ما يشيع فيه التفاؤل النابع من الثقة في (موضوعيتهم) البريئة من أحكام القيمة، بل نجد بدلاً منه مناقشة تتميز بالعجلة والإلحاح للمعاني السياسية للدراسة الأكاديمية.

وتنقسم المعرفة المضادة بالإسلام إلى ثلاثة أنماط رئيسية، تنتجها ثلاث قوىً في المجتمع القادر على تحدي تلك الصورة السائدة المعتمدة: تتكون الأولى من مجموعة من الباحثين الشبان الذين يتسمون بالمزيد من الحذق العلمي والمزيد من الأمانة السياسية عن أقرانهم الكبار العاملين في هذا المجال، وهم يرون أن دراسة الإسلام ترتبط بصورة ما بالنشاط السياسي للدولة ومن ثم فهم لا يتظاهرون بأنهم باحثون (موضوعيون). وهم يرون أن انغماس الولايات المتحدة في السياسة العالمية، وهي التي يرتبط جانب كبير منها بالعالم الإسلامي، حقيقة لا ينبغي الصمت إزاءها أو تقبلها باعتبارها واقعاً محايداً. ويتميزون عن المستشرقين الأكبر سناً بأنهم متخصصون ولا يهتمون بإصدار الأحكام العامة مثلهم، وبأنهم يرحبون بالأدوات المنهجية التجديدية مثل الأنثروبولوجيا البنيوية، والمناهج الكمّيّة، والطرائق الماركسية للتحليل، ويبدون اهتماماً حقيقياً بها وينجحون في تطبيقها في حالات كثيرة. وهم يبدون حساسية ووعياً خاصاً بأشكال الخطاب الاستشراقي المتسمة بالتحيز العرقي، ويتميز معظمهم، بسبب حداثة سنهم، بالعمل إلى حد ما خارج نطاق نظام (الرعاية) الذي يضمن لشيوخ مهنتهم ما ينعمون به من ترف، وقد برزت من صفوفهم (الحلقة الدراسية البديلة لدراسات الشرق الأوسط)، كما ظهر مشروع بحوث ومعلومات الشرق الأوسط وقد أنشئ كلاهما باعتبارهما منظمتين ترميان بصفة محددة إلى تجنب التواطؤ مع الحكومة وشركات النفط. وقد تشكلت مجموعات مماثلة في أوروبا. وترتبط كل هذه الهيئات بعضها بالبعض. ولا ينتمي جميع الباحثين الشبان الذين أشير إليهم إلى هذه الهيئات، ولكن معظمهم يبتغون تعديل المناهج القائمة وتنقيحها، وهم يسعون جميعاً إلى دراسة الإسلام من منظورات يهملها أو يجهلها من هم أكبر سناً منهم.

وتتكون المجموعة الثانية من باحثين أكبر سناً ولكنهم، لأسباب أكثر من أن تلخص تلخيصاً منهجياً، يتبعون مناهج معارضة للدراسات المعتمدة السائدة في هذا المجال. وعلى سبيل المثال نجد أن حامد الجار، من بيركلي، ونيكي كيدي من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجيليس، ينتميان إلى القلة القليلة من الباحثين المتخصصين في إيران الذين قاموا، قبل نشوب الثورة الإيرانية بعدة سنوات، بإيلاء الدور الذي يلعبه علماء الدين (رجال الدين الشيعة في إيران) ما يجدر به من اهتمام، ويختلف الجار عن كيدي اختلافاً كبيراً، وإن كان كل منهما قد أعرب عن تشككه الكبير في استقرار نظام الحكم البهلوي. وعلى غرار ذلك قام إرفاند إبراهاميان، من كلية باروخ، بإجراء دراسات للمعارضة العلمانية للشاه، وهي الدراسات التي تضمنت سلسلة رائعة من النظرات العميقة في الديناميات السياسية للثورة، ومن بعده مايكل ج. فيشر من جامعة هارفارد، وفريد هاليداي في إنجلترا، وهما باحثان دفعتهما دوافع فكرية وأكاديمية إلى الخروج على نظرية الأغلبية إلى إيران، ومن ثم أجريا دراسات ذات قيمة فذة في إيران المعاصرة.

والطريف أنه من المحال وضع تلخيص منصف للخصائص المنهجية والأيديولوجية لهؤلاء الذين يكتبون هذه الكتابات عن الإسلام، ومع ذلك فمن اللافت للنظر أنه ليس من بينهم من ينتمي إلى (مؤسسة) دراسات الشرق الأوسط، ولا يعني هذا أنهم شخصيات غير بارزة أو لا تتمتع بالاحترام، فهم في الواقع مبرزون ومحترمون، وإن كان يندر أن نجد بينهم من يعمل فعلاً أو بحكم الوظيفة مستشاراً للحكومة أو للشركات. وقد يكون ذلك هو ما حررّهم من الالتزام بالوضع الراهن ومكّنهم من رؤية ما أهمله وتجاهله الكُتّاب التقليديون عن الإسلام. لكننا لا بد أن نقول إن عملهم، وعمل مجموعة الباحثين الأصغر سناً والمشار إليهم آنفاً، لن يحقق ما هو قادر عليه من تأثير إلا إذا ازداد الدور السياسي المنوط بهم في هذا المجتمع. أي إن اعتناقهم لآراء تميزهم عن الخبراء (المعتمدين) لا يكفي، وعليهم أن يحاولوا أن يكفلوا الشيوع لآرائهم بين الناس، وهو جهد يتجاوز كثيراً مجرد كتابة الدراسات ونشرها، ومن ثم فهم يواجهون مستقبلاً حافلاً بالنضال السياسي والتنظيمي.

ونرى ثالثاً مجموعة من الكُتّاب والدعاة والمفكرين الذين لا يعتبرون من الخبراء المعتمدين عن الإسلام، وإن كانت معارضتهم لما هو شائع بصفة عامة هي التي تحدد دورهم في المجتمع، وهؤلاء هم المناضلون المناهضون للحرب وللإمبريالية، ورجال الدين المنشقون، والمفكرون والمعلمون الراديكاليون وهلم جرا. ونظرتهم إلى الإسلام لا يكاد يربطها شيء بمذهب المستشرقين، وإن كان بعضهم قد تأثر بالاستشراق الثقافي الشائع في كل مكان في الغرب. ومع ذلك – إذا أخذنا رجلاً مثل أ.ف. ستون مثالاً – فسوف نجد بعض العوامل التي تخفف من التشكك والنفور الثقافي من الإسلام مثل إدراك طبيعة الإمبريالية، وهو الإدراك الذي تنجم عنه مشاعر أقوى وأصلب، ومثل إدراك طبيعة المعاناة البشرية سواء كان من يكابدونها من اليهود أو المسلمين أو المسيحيين. وقد تفرد ستون بالتنبؤ بعواقب استمرار الولايات المتحدة في مناصرة الشاه بعد الثورة، ولقد كان أمثاله، لا الخبراء الحكوميون أو الأكاديميون في شؤون إيران، هم الذين نادوا باتخاذ سياسات المصالحة مع النظام الثوري.

وأما ما يدعو للإعجاب بهؤلاء الأشخاص فهو أنهم لا يحملون شهادات خبرة رسمية بالإسلام ولكنهم استطاعوا رغم ذلك، فيما يبدو، أن يتفهموا ديناميات معينة داخل عالم ما بعد الاستعمار ومن ثم داخل مناطق أكبر من العالم الإسلامي. وأما التقسيمات الجديرة بالاهتمام في نظرهم فتقوم على أساس الخبرة البشرية لا على أساس (العناوين) التي تحد من القدرة على التفكير مثل (العقل الإسلامي) أو (الشخصية الإسلامية) زد على ذلك أن لديهم اهتماماً حقيقياً بمبدأ التبادل والمبادلات، واختاروا عامدين أن يتجاوزوا ما رسمته الحكومات من خطوط صارمة للعداوة بين الشعوب. ويخطر على البال هنا أساساً قيام رامزي كلارك بزيارة طهران، والدور الذي يتسم بالشجاعة الذي نهض به في أحلك أيام الأزمة الإيرانية أفراد مثل ريتشارد فولك، ووليم سلون كوفين الإبن، ودون لوس، وغيرهم ممن لا يحصيهم العد، إلى جانب بعض المنظمات مثل لجنة خدمة الأصدقاء، ومثل منظمة (رجال الدين والعلمانيين الذين يعنيهم الأمر) وغيرها من المجموعات المماثلة. وعلينا أن نضيف إلى هذا الحشد من المنشقين شتى المجلات والمطبوعات و(وكالات الأنباء) البديلة، ومن بينها سبعة أيام والأم جونز، وفي هذا العصر، والجارديان، ووكالة أنباء المحيط الهادي، والمسيحية والأزمة، وهي التي فتحت صفحاتها وأتاحت مواردها للآراء المعارضة (للتيار الرسمي) في قضية إيران، وبنسبة أقل، مع الأسف، في قضية الإسلام، وقد تكررت الظاهرة نفسها في أوروبا.

وأما أهم ما تتسم به هذه المجموعات الثلاث في رأيي فهو أنها تعتبر المعرفة، أساساً، مطلباً يسعى المرء جاهداً إلى تحقيقه ومجالاً لاختلاف الآراء، لا مجرد ترديد سلبي للحقائق والآراء (المقبولة). والصراع بين هذه النظرة، في حدود ما يترتب عليها من تأثير في موقفنا إزاء الثقافات الأخرى، وما يترتب عليها من تأثير في المسائل السياسية الأوسع نطاقاً، وبين المعرفة المتخصصة المؤسسية التي تتبناها القوى المهيمنة في المجتمع الغربي المتقدم، صراع بالغ الأهمية. فهو يتخطى ويتجاوز كثيراً تساؤلنا عما إذا كان أحد الآراء يؤيد الإسلام أو يعارضه، وعما إذا كان المرء يتمتع بالوطنية أو يتصف بالخيانة. فكلما ازداد ترابط عالمنا واشتد تشابك أطرافه، زاد استحسان (وازدادت ضرورة) الرقابة على الموارد المحدودة، والمناطق الاستراتيجية والأعداد الكبيرة من السكان، وأما الحرص على تغذية المخاوف من الفوضى والتشتت فمن الأرجح أن يؤدي إلى (قولبة) الآراء وزيادة التشكك في العالم (الخارجي)، ويصدق هذا على العالم الإسلامي مثلما يصدق على الغرب. وفي تلك المرحلة، التي بدأت الآن فعلاً، سوف ينهض (إنتاج) المعرفة ونشرها بدور رئيسي حاسم بصورة مطلقة، لكنه حتى يحين موعد تفهمنا للمعرفة في صورها الإنسانية والسياسية باعتبارها شيئاً نكتسبه لفائدة التعايش والترابط، لا من حيث ارتباطها بأجناس أو أمم أو طبقات أو أديان معينة، فلن يبشر المستقبل بالخير.

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 6 نيسان/2007 -15/ربيع الاول/1428