تمر الأيام تلو الأيام وأنا استرجع إحدى ذكرياتي التي مرت عندما
كان مستوى التمثيل الدبلوماسي بيني وبين صاحبي أضعف ما يكون، حيث سحب
كل منا سفير فمه من الحديث مع الآخر، وانقطعت العلاقة بين الدولتين،
فلم تتدخل الأمم المتحدة ولا جامعة الدول العربية لإعادتها، ربما لأن
حق الإنسان العادي في العيش بسلام ليس كحق الزعماء وقادة الدول!
حاول قادة الدولتين التعامل مع الحدث بهدوء، فلم تنشب أي حرب كلامية
مدمرة او باردة، بل اكتفت الدولتين بتجميد العلاقات لعله يأتي الحدث
الأبرز لإعادتها، ولكوني زعيم إحدى الدولتين فقد قررت إعادة النظر في
إعادة العلاقات في أقرب فرصة دون الحاجة لأي منظمة حقوقية تسعى إلى
حلحلة الأزمة ودون الحديث عن السبب والمتسبب والمحق والمخطيء، فذاك أمر
مضى، كفرت الليالي والأيام خطيئته.
فكانت مناسبة ميلاد الرسول – صلى الله عليه وآله- هي الأفضل لإصلاح
ما أفسدته الأيام، وكعادة الأصدقاء في مناسبات ميلاد أئمة أهل البيت
عليهم السلام من مصافحة كل منا الآخر ومعانقته، انتهزتها فرصة لتحقيق
ما أصبوا إليه لأبدأ بالسلام على جميع الموجودين في المجلس وأقرأ
التهنئة عليهم، وقد تحينت الوقت الذي يكون فيه صاحبي ضمن الجالسين و
الذي كان الأخير عندما امتدت يدي نحوه فبادرني بالوقوف وبالتحية
ومباركة الميلاد بأفضل العبارات وأصدقها، واليوم وبعد مضي ثلاثة أعوام
ونحن كذلك والحمد لله.
ليس صعباً أن نزيل ما أحدثته الأيام من تراكمات في النفوس، وأن نحسن
لبعضنا البعض والله تعالى يقول: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}(1)،
وأن نعفو عن الزلات والخطايا اللمم، علنا نصل إلى مراتب التقوى كما قال
الله عز وجل: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}(2).
فواعجباه والأيام تمر تلو الأيام وصِلات الأرحام والمودات عندنا
منقطعة متقطعة، لا أفراحاً نجتمع فيها ولا أحزان تضمنا –ربما-، فكيف
يعرض الصغير عن الكبير ويُحقِر الكبير من هو أصغر منه، فصار الإصرار
والتعنت سيد الموقف لتتالى المصائب علينا، فيكثر الفقر وموت الفجئة،
وتزداد الأمراض سوءً وانتشاراً، ولا غرابة في ذلك وقد أشار لهذا المعنى
أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بقوله: "حلول النقم في قطيعة
الرحم" (3) فـ"ثلاث خصال لا يموت صاحبهن، حتى يرى وبالهن: البغي،
وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وان أعجل الطاعة ثواباً
لصلة الرحم"(4).
فماذا عسانا فاعلين لنتجاوز كل تلك المصائب ولنفتح باباً جديداً من
التناغم والتآلف مع أرحامنا وأقربائنا المقربين بالدرجة الأولى ومع من
نتعايش معهم في الحياة اليومية من أصدقاء وزملاء وشركاء في المهنة؟!
قبل أيام قليلة وصلتني رسالة على الجوال تالية لمجموعة رسائل ختامها
"أرجو أن تنساني للأبد"، فاتصلت بمرسلها سائلاً: ما الأمر؟ وما موقعي
من الإعراب في مشكلة لا أعرف ماهي إلى الآن؟! أجابني: اعتزال الناس
والعالم وإن لم تكن طرفاً في الموضوع الذي تبين فيما بعد أنه خلاف حول
كيفية العمل مع المرسل وأحد أصدقاءه. تساءلت متعجباً: إذا كان العمل
الديني جامع للقلوب ومؤلف للمحبة، فلماذا -وبإيماننا الكامل به- نحرق
اجره ونفسد ثمرته بتعاملنا مع بعضنا البعض بطريقة صلدة؟ فندعي أننا
نسلك نهج أهل البيت (عليهم السلام) ونتبع نور كلامهم، إلا ما يحلوا لنا
مخالفته في جانب الأرحام والعلاقات الشخصية وغيرها من أمور الهوى، فكم
منا يحضر مجالس الإمام الحسين – عليه السلام- ويسمع آيات المودة
والقربى والأرحام ولكننا لا نعبه بها ولا تزيدنا أنفسنا إلا إصراراً
وتصلباً بمواقفنا البدوية الداعية للثأر وعدم التنازل لأن الواحد فينا
يظن –هداه الله- بأنه المحق دائماً والآخر هو المخطئ، فلا يتنازل ولا
يعفو وإن مرت سنين وسنين على أمر الهجران!
هب أن صديقك أو قريبك أخطأ بحقك او بحق من تكن له الود والاحترام،
هل توقفت الدنيا عند هذا الخطأ، وهل أن حساب الجنة والنار متوقف على
هذا الحدث فقط وألف فقط؟! ذنوب كبيرة نقترفها بحق أنفسنا وبحق غيرنا
وفي غفلة أو إصرار، ودائماً نحن المحقين والمعتدى علينا ونحن أصحاب
الحق والحقيقة، وكلنا أمل أن نكون من أنصارك وأعوانك ياحجة الله لصفاء
أنفسنا واستعدادها للجهاد دونك!!
لنكن على قدر عال من الأخلاق والفضائل الإسلامية ولنتجاوز ثارات بدر
وحنين حتى نصبح الأنموذج الأسمى لكافة أبناء المجتمع موفقين ومسددين من
قبل الله لتحفنا بركات أهل البيت (عليهم السلام) حتى يكون كلامهم الفصل
في سلوكنا ومنهجنا، فكما جاء عن أبي عبدالله عليه السلام: "ليس منا من
لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه، وممالحة من مالحه، ومخالقة من
خالقه"(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية : 195
(2) سورة البقرة: الآية 237
(3) بحار الأنوار ج74 ص138
(4) بحار الأنوار: ج68، ص274
(5) الكافي: ج4، ص286 |