الثقافة والتثقيف وتحديات المرحلة الراهنة

كتب: عدنان عباس سلطان

شبكة النبأ: كان الشائع من القول ـ أن مصر تؤلف ولبنان يطبع والعراق يقرأ هو قول صحيح يعبر بكل صدق عن واقع الحال آنذاك، أي في فترة الانبهار الثقافي، الذي كان في أوائل الستينات، وربما كان قبلها بقليل، نتيجة ما أفرزته حركات التحرر الوطني، والانفتاح الفكري على شتى الأصعدة.

كان الهاجس الثقافي في تلك الفترة يشغل بال الكثير من العراقيين، حتى بات أمر الإطلاع والقراءة يشمل فئات شعبية، ما كانت محسوبة على المشهد الثقافي من جهة الافتراض، فكانت حصيلة إعداد الكتب والمطبوعات تفوق حصتها في العراق أي حصة أخرى في الوطن العربي، لأن الكتاب كان في متناول الجميع لكل من يطلبه، وبأسعار مناسبة جدا، إضافة للنشرات والمطبوعات المحلية، من جرائد ودوريات ثقافية، إذ لا توجد جريدة ما لم يكن لها ملحق ثقافي، سواء كان يوميا أو اسبوعيا، ولعل الملحق الثقافي بمحتواه الادبي والبحثي، وما يتضمنه من دراسات فكرية وفلسفية، هو ما يروج للجريدة وازدياد مبيعاتها.

وما نريد الوصول إليه: هو ان الرغبة في المعرفة هي التي كانت تقود المتلقي للثقافة، ونتيجة لذاك الوضع المزخرف بألوان باهرة، وعلاقاته الحميمة مع المتلقي الأكثر نضوجا، فقد ظهرت اسماء عراقية لامعة كثيرة سواء التي كتبت في الادب أو الاجناس الفكرية الاخرى، شقت طريقها في الإبداع المعرفي والفني، في مستويات الشعر والقصة والرواية والبحوث والترجمة، وهي أسماء معروفة للادباء وغيرهم من متتبعي المشهد الفكري في العراق، على شتى أجيالهم التي تعاقبت.

لكن ما نراه اليوم شئ مختلف تماما عما هو مفترض، في أن الامر يكون باتجاه المؤمل في التطور الى ما هو أحسن من المرحلة السابقة، باعتباره خطا متصاعدا بيانيا، لكنه بدا مريعا بنتائجه المحبطة، فقد غيرت الحقبة اللاحقة أي ما بعد السبعينات على وجه الخصوص، وامتدت إلى الوقت الراهن، فقد شهدت تلك المرحلة نكوصا بدرجات كبيرة للتطلع المعرفي، بعد ان صودرت المؤسسة الثقافية برمتها، وطغى عليها الخطاب الوحيد  للسلطة، وتوالت الحروب المفعمة بالكراهية والدمار، ولغة القتل والتجويع والإرهاب، وعندما ترصنت السلطة الدكتاتورية، وارتكزت دعائمها الحديدية، أخذت  تقود الخطاب الثقافي وتمارسه بشكل منظم، وفق عملية تجهيلية، مما أفقد الخطاب قيمته الفكرية والفنية والجمالية وحولته الى جانب خطابها الغاشم.

وصاحب ذلك تردي المستوى التعليمي، وشيوع العسكرة، واستنفار الجميع باتجاه ما يعرف بالتعبئة العامة، وتأصيل استمرارية الحرب بشكل دائمي في الذهن الاجتماعي، إضافة الى عدم وجود المستلزمات الطبيعية للآليات الدراسية، مما خلق هاجس اللاجدوى في الانطباع العام الشعبي منه أو النخبوي.

اننا نشهد الآن  هذا العزوف الخطير عن المعرفة بشتى أشكالها، اضافة الى التعليم، حتى على النطاق المهني، فضلا عن الإطلاع الادبي، وإزاء وضع كهذا نتساءل : ما هي مهمة الثقافة لمواجهة معركة لها هذه التضاريس؟.

المنطق يقود الى ان مهمة الثقافة يجب عليها التحرك من برجها العاجي، وتذهب هي الى المتلقي لكي تستفزه وتؤثر عليه وتتفاعل معه، وتشبكه بعلاقات متبادلة وخصوصا مع الصنف الفعال من المجتمع، وأقصد الطلبة، طلبة الكليات والاعدادية، وشخصيات المجتمع المدني والمنظمات المهنية، والا ما فائدة ان تعقد امسيات ادبية لا تضم غير الادباء؟ لو صرفنا النظر عن أهمية مثل هذه الأمسيات من الناحية الفنية، باعتبار ان هذه اللقاءات تهذب إناء الخطاب الثقافيفي المجتمع.

الشعراء يقرأون شعرهم للشعراء، القصاصون يقرأون قصصهم للقصاصين الباحثون المحققون لأمثالهم، في حين يكون من مهمة الادب والادباء، ومهمة أهل الفكر، أن يكون لهم في الاقل خيوط اتصال مع قاعدة الثقافة النامية، والتي تتمثل بالطلبة، وأن تعقد امسياتهم في الاوساط المحتاجة اليهم، والتي يكون من الضروري عقدها في الجامعات، والاعداديات، ومنظمات المجتمع المدني، والاتحادات والمؤسسات التي تعنى بالمجالات الفعالة على الطرف السياسي، وعلى الطرف التربوي.

على ان لا يكون لها إقليم مكاني محدد، او مربع لا تتخطاه في شتى الظروف. فحبذا لو كان المكان يتغير في كل مرة. وان يجري ذلك بتنسيق، لكي يصل الخطاب بشكل مباشر إلى الطلبة أو غيرهم من الشخصيات .

كذلك ان تأخذ قضية الطفل العراقي حيزا لا بأس به، هذا الطفل الذي تحاصره قوتان مدمرتان، قوة تحضه الى الاسواق بما تفرضه الحاجة الآنية وظروف العيش، وما يفرضه أيضا التخلف والجهل، وقوة اخرى أكثر خطرا، وهي تعليمه الكراهية ربما بشكل منظم وأكثر دموية تحت ذرائع مختلفة وما تفرزه المرحلة الراهنة من حيثيات خطيرة.

والقوتان تحاولان ملأ الفراغ، وهذا الفراغ الثقافي لن يبقى شاغرا إلى الأبد، مالم يسارع المخلصون بأسرع ما يمكن لمباشرة واجبهم الاخلاقي وتكليفهم الانساني، وكذلك خلافتهم النبيلة في رفد الحياة الانسانية، لبلوغ الكمال الذي يريده الله، بالطريقة التي يصلون إليها وبحدود المستطاع، وليخوضوا نضالهم المقدس من اجل حياة كريمة مزدهرة بالمعرفة والنور

ورغم ما في هذا القول من روح للمثالية من حيث يجب الانتباه قبل الجزم بالمقترحات الشفافة التي نطلقها الآن، الانتباه الى الظرف المرحلي الراهن بما يحتويه من وضع اقتصادي، ووضع أمني وسياسي، ومكانة الدولة، ودرجة إمساكها بدورها الحكومي، ومدى القوة التي يتمتع بها القانون، والمقدار الذي تتمكن فيه، من إطلاق التنمية في الحقل الثقافي، والحقول الاخرى المترابطة، كل هذه الامور هي من قبيل الأسس التي لا بد منها، وهي الأرض الواقعية لأي مشروع، مهما كان نوعه.

 فلا تتحقق الامور بقوة السحر، ولكن رغم كل هذه النواقص، فلا بد من أن تتخذ المؤسسات الثقافية دورها، في التحريض والمتابعة، وفعل ما عليها في هذا المضمار.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 4 نيسان/2007 -13/ربيع الاول/1428