ربَّما يعتقد المرء للوهلة الأولى بأن الولايات المتحدة الأمريكية
تجرُّ ذيول الخيبة والهزيمة في العراق وأفغانستان، وأنها قد أقرت
بالوضع الراهن، واعترفت بعجزها عن إدارة الملف العراقي، وراحت توصّل
الحبال المنقطعة بينها وبين دول "محور الشر" سوريا وإيران ؛ للاستماع
لهما وللاستعانة بهما في البحث عن حل جدي للوضع الأمني المتردي في
العراق، من خلال الدعوة لمؤتمر بغداد.
وعلى الرغم من أن بعض المراقبين يعتبر أن مؤتمر بغداد ؛ الذي ترعاه
الأمم المتحدة، ممثلو الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن،
الجامعة العربية، سوريا، إيران، مصر، ودول الجوار الإقليمي ؛ هو إذعان
لتوصيات بيكر-هاملتون، لكني أعتقد أنه تكتيك سياسي جديد، يتمثل في
إعطاء شرعية إقليمية وإسلامية، ودولية للتحرك الأمريكي القادم في كل
الملفات العراقية، بدءًا بالخطة الأمنية الأمريكية ؛ التي من المتوقع
أن تأخذ منحى تصعيدياً، مع استمرار أعمال المقاومة، وانتهاء بتحقيق
الأجندة الأمريكية الحقيقية ؛ التي من أجلها تم احتلال العراق.
وإذا كانت إيران التي حضرت المؤتمر، والتي تُعتبر من أكبر اللاعبين
على الساحة العراقية شككت في أهداف المؤتمر على لسان ـ رئيس مجلس صيانة
الدستور الإيراني ـ "أحمد جنتي" ؛ الذي اتهم " بعض دول المنطقة والدول
الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بأنها تسعى من خلال مشاركتها في
مؤتمر بغداد إلى سحب السلطة من أيدي الشعب العراقي، وتقديمها إلى
جماعات أمريكية، أو إلى تلك التي ترتبط بها".
هذا المؤتمر الذي استمر ليوم واحد، واقتصر مستوى التمثيل فيه على
السفراء ؛ يبدو أنه تحضير لما سيعقبه من مؤتمر ثانٍ على مستوى الوزراء،
يُعقد في القاهرة في أبريل المقبل، يدل على أن المؤتمر ليس الهدف من
ورائه معالجة الوضع العراقي بجدية، بقدر ما هو تدويل للأزمة العراقية.
كما أن الاتهامات الأمريكية لكل من إيران بتزويد جماعات شيعية مسلحة
داخل العراق بمعدات يتم استخدامها في الهجمات، وسوريا التي يتسلل
المقاتلون الأجانب عبر حدودها إلى العراق، ليس إلا محاولة من الولايات
المتحدة الأمريكية ؛ لتوريط البلدين مع غيرهما من دول الجوار، مثل
السعودية والأردن أكثر فأكثر في الوضع العراقي، في الوقت الذي تنسحب هي
تدريجياً من الملف الأمني ؛ لتتركه كاملاً للحكومة العراقية الهزيلة،
ومن ورائها للدول المجاورة.
فالأمريكيون يأملون بأن تقوم دول الجوار العراقي ؛ التي تخشى على
كياناتها من تسرب العنف إلى داخلها ؛ بالتدخل المباشر في الملف الأمني،
بحيث إذا تدهور الوضع أكثر تكون التبعة ملقاة على دول الجوار أكثر مما
هي ملقاة على الأمريكيين، فضلاً عن أن ذلك قد يُعجّل بسرعة في انشغال
هذه البلدان ببعضها البعض على حصص النفوذ، في الوقت الذي يتعهد فيه
الجميع باحترام قانون "النفط العراقي".
ولا يخفى على أي متابع حرص الولايات المتحدة في توريط دول الجوار،
من خلال التصريحات ؛ التي تصدر عن مسئوليها، فالمبعوث الأمريكي نوه
بأهمية دول الجوار ؛ حين قال بأن : للحكومة العراقية "احتياجات للحصول
على المساعدة، والدعم من دول الجوار فيما يتعلق بالأمن والمسار
السياسي، وكذلك المجال الاقتصادي".
والسبب في هذا التحول في السياسة الأمريكية ؛ يعود لعجز الإدارة
الأمريكية عن حماية النفط، التي جاءت من أجله من جانب ؛ ولتخوفها من أن
تتحول الأراضي العراقية إلى منطقة استقطاب للحركات المسلحة المعادية
للولايات المتحدة، على غرار أفغانستان في ظل نظام طالبان، وفي هذا يؤكد
جورج بوش أن "الانتصار في هذه الحرب ضروري لمنع أن يصبح العراق ملاذاً
للإرهابيين، مثلما أصبحت أفغانستان في ظل حكم طالبان".
جُلّ ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية الآن، بعد سلسلة الهزات
التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية في الداخل والخارج، هو تمرير مشروع
قانون النفط العراقي الجديد ؛ الذي قام بوضع مسودته شركة استشارية
أمريكية تدعى "بيرينجبوينت"، استأجرتها السفارة الأمريكية في بغداد
للقيام بعدة أعمال لها في العراق. واطلعت عليه شركات النفط الأمريكية
الكبرى، وكذلك صندوق النقد الدولي قبل طرحه على الحكومة العراقية.
وإذا كان الرئيس الأمريكي بوش قال ذات يوم : " إن وجود القوات
الأمريكية في العراق يعود لسببين أساسين وهما النفط العراقي وحماية
إسرائيل "، فإنه وفي ظل هذا القانون الجديد يستطيع السيطرة على هذا
النفط ؛ من خلال الامتيازات التي حصلت عليها شركات التنقيب الأمريكية.
وبحسب ما ذكرته صحيفة " الإندبندنت أون صنداي" البريطانية في 7/1/2007
فإن هذا القانون الذي سيعرض على البرلمان العراقي، خلال أيام يمنح
الشركات الأجنبية "فرصة لاستخراج النفط في العراق -ثالث أكبر احتياطي
في العالم- لمدة 30 عامًا مقبلة، حيث يتيح القانون لتلك الشركات بتحقيق
أرباح ضخمة على مدار فترة التعاقد تصل إلى 75% من الأرباح خلال السنوات
الأولى، وهي ما تُعَدّ أوسع عملية لاستغلال للنفط العراقي منذ تأميمه
عام 1972".
وبما أن مشاكل عديدة حالت حتى الآن دون الاستفادة القصوى من النفط
العراقي ـ في ظل الأوضاع الحالية ـ حيث تشير الوقائع إلى:
• سيطرة الميلشيات الشيعية المدعومة من إيران على معظم الآبار
النفطية جنوب العراق، حيث النفوذ عبد العزيز الحكيم الموالي لإيران،
ففي محافظة البصرة حوالي 8 مواني غير شرعية ؛ يسيطر عليها ميلشيات
شيعية حيث يتم من خلالها تهريب كميات من النفط، وتقسم عائداته فيما
بينها بحسب ما أشارت صحيفة الزمان العراقية.
• ما كشفت عنه صحيفة نيويرك تايمز من حصولها على تقرير سري يؤكد أن
الجماعات المسلحة في العراق أصبحت تمول نفسها بنفسها ؛ من خلال تهريب
النفط، والحصول على فدىً ؛ مقابل الإفراج عن الرهائن الأجانب المخطوفين
لديها. ويوضح التقرير أن ما تحصل عليه هذه الجماعات سنوياً، هو ما بين
25مليون و100مليون دولار ؛ لتمويل عملياتها ضد القوات الأمريكية.
من أجل ذلك كان لا بدّ للولايات المتحدة أن تجلس إلى باقي أطراف دول
الجوار العراقي والتفاهم، بعدما أكد المفتش المستقل للحكومة الأمريكية
بشأن مشاريع الإعمار بالعراق في سبتمبر الماضي، أن العراق " فقد 16
مليار دولار من عائدات تصدير النفط خلال عامين تقريبًا، على تسوية ما
تضمن تمرير قانون النفط العراقي ؛ الذي سيحقِق للأمريكيين بالدبلوماسية
ما عجزت عنه الآلة العسكرية، في الوقت الذي تظن دول الجوار أنها حققت
إنجازاً تاريخياً ؛ بإبعاد الولايات المتحدة الأمريكية عن أي تهديد لها
ولنظامها!!
* كاتب ومحلل سياسي لبناني |