لاتقتصر الحملة الشرسة التي تتعرض لها التجربة العراقية الوليدة،
على العمليات الارهابية التي يرتكبها التكفيريون العرب وحلفائهم من
فلول البعث وحسب، اعداد لاتحصى من الابواق والاقلام في الاعلام العربي،
تتعمد قلب وتشويه الحقائق، في محاولة لتأليب الرأي العام ضد القيم
الديمقراطية، وخلق صورة قاتمة لها لدى الجمهور العربي، بهدف الابقاء
على الانظمة الاستبدادية القمعية لاطول فترة ممكنة.
"الطائفية والاثنية دخلت الى العراق مع دخول المحتل"، كلام يردده
اتباع وحلفاء الاستبداد والفكر القومي العربي الشمولي، بصورة مستمرة في
وسائل الاعلام المختلفة، زوراً وبهتاناً، لان الصراع الاثني والطائفي
ليس بجديد على العراق والعراقيين، فالصراع الكردي العربي"الاثني"قديم
قدم الدولة العراقية، لكن بفضل الديمقراطية" الدخيلة"، وبعد زوال سياسة
التصفية العرقية بزوال النظام السابق، واتباع السبل السلمية
الديمقراطية لحل المسألة الكردية.
لايوجد اليوم ما يسمى بالصراع الكردي العربي، بالمعنى الدارج
للكلمة، لان اسباب الاقتتال لم تعد قائمة، بعد حصول الكرد على ضمانات
دستورية، تكفل حقوقهم ضمن العراق الديمقراطي الفدرالي الموحد، وقبول
الطرف الاخر في الصراع للطرف الكردي كشريك حقيقي في الوطن، كل ما تحقق
من تحول ايجابي في الصراع الكردي العربي، كان من ثمرات العملية
الديمقراطية، ويصب في صالح العراق والعراقيين، كرداً كانوا ام عرباً،
بالرغم من وجود صراع سلمي مازال قائماً، حول مسائل عدة كقضية كركوك
والمناطق التي تعرضت لعمليات التعريب القسرية، وحتى في مسائل اقل اهمية
كالعلم العراقي السابق، النزاع السلمي مهما كان نوعه يصنف كحالة صحية،
مادام اطراف الصراع يلجؤون لوسائل ديمقراطية في فض النزاعات وحل
القضايا المستعصية.
اما الصراع الشيعي السني، فهو ايضا مثله مثل الصراع الكردي العربي،
ليس بجديد على العراق، ولو لم يكن بهذه البشاعة التي نشهدها اليوم،
وتحول الصراع السني الشيعي الى صراع عنفي، يعود الى ان البعض من
الطائفة السنية، وبتشجيع ودعم من دول الجوار العراقي، ومشاركة من
القاعدة والتكفيريين، يحاول افشال التجربة العراقية باشعال حرب طائفية،
وقد افلح هذا البعض الى حد ما في مسعاه، بعد قيام البعض الاخر من
الطائفة الشيعية، بردة فعل لاتقل قساوة ووحشية عن الفعل المردود عليه.
التنوع والتعدد الاثني والطائفي، لايعتبر بحد ذاته سببا في اثارة
النزعات والنزاعات الاثنية والطائفية، انما اسلوب التعامل والمعالجة مع
هذا التنوع والتعدد الذي يتميز به العراق، كان وما يزال يعتبر اصل
المشكلة، الاستبداد والاقصاء التي ميزت حقبة ما قبل 2003 تعد السبب
الرئيسي للمحنة التي يمر بها العراق حالياً، وليست الديمقراطية كما
يدعي انصار الفكر الشمولي، كما ان ربط الصراع العنيف الجاري في العراق
بالتجربة الديمقراطية، لايمكن وصفه الا بالسطحي، والهزل السياسي الهابط،
والترجمة الدقيقة لمقولة بكل بساطة هي كالاتي: العراق بلد لا يحتاج الى
الديمقراطية بل الى طاغية كصدام حسين، ليلم شمله ويوحد كلمته، في عملية
تلحيم جماعية قسرية، في ظل انعدام الارادة الحرة، لاشباع شهوات واوهام
بعض الطموحات القومية لدى فريق مصاب بالهوس القومي.
رفض التنوع العرقي والطائفي وانكاره، والغاء الاخر او قبوله بشروط ،
واللجوء الى القوة والعنف لفرض طائفة او قومية على طائفة او قومية
اخرى، على طريقة النظام العراقي السابق، لا يؤدي الا الى تصعيد الصراع
الاثني والطائفي، وفي المقابل احترام الاخر وقبوله كشريك في ظل دستور
توافقي ديمقراطي، ينهي جميع انواع الصراع الحاد في العراق.
الكرد والعرب والشيعة والسنة وغيرهم، قوميات وطوائف وجدت قبل
التحرير او الاحتلال كما يحلو للبعض تسميته، وقبل دخول الديمقراطية الى
العراق، والتنوع القومي والطائفي وجد قبل ولادة واعدام صدام حسين، وحتى
قبل وجود دولة العراق الحديث، وهذا التنوع من الطبيعي ان يبرز الى
السطح مع زوال الاستبداد، فالدولة التي تقوم على الاستبداد والعنف
وتغليب مصلحة قومية على قومية اخرى وطائفة على طائفة اخرى، تكون دوما
دولة هشة البنيان ومعرضة للهزات وحتى الانهيار التام، اذا لم يتم ترميم
الاخطاء والتصدعات في اجواء حرة وديمقراطية، جميع العراقيين وبدون
استثناء، معنيين بالمشاركة الجدية في بناء بلدهم على اسس سليمة سلمية
وديمقراطية، ونبذ التعصب واحترام الاخر.
الفارق بين الصراع السلمي والصراع العنفي واسع وشاسع، فالاول غالباً
ما يؤدي الى ايجاد حلول دائمة لمعضلات قد تسبب الاحتقان وعدم الاستقرار
بين اطراف النزاع، اما الثاني فعلى العكس تماماً، بالاضافة الى نتائجه
المدمرة على الجميع، لا يحقق الحلول الدائمة، بل يؤدي غالباً الى ايجاد
حلول قسرية مؤقتة، لصالح طرف على حساب طرف اخر، والحلول المؤقتة تؤجل
الصراع الى مرحلة مقبلة ولا تنهيه.
وللتأكيد على صوابية هذا الرأي استشهد مرة اخرى باسلوب معالجة
السلطة البعثية للمسألة الكردية، رفض الحقوق المشروعة للكرد ولجوء
البعث الى منطق القوة والعنف، كوسيلة وحيدة لحل المشكلة الكردية، كان
مصدر بؤس وشقاء للعراقيين جميعا على مدى عقود طويلة من الزمن، واتفاقية
الجزائر عام 1975 كانت اثارها كارثية، ليس بحق الكرد وحسب بل العراق
ككل، الاتفاقية التي تم بموجبها تنازل العراق عن قسم من شط العرب
لايران، مقابل الوعد الايراني الامريكي بالتواطئ في القضاء على الثورة
الكردية، جلبت اللعنة على العراق، فلولا تلك الاتفاقية المشؤومة، لما
وقعت حرب الثماني سنوات، التي اطلق شرارتها صدام حسين، لاستعادة مافقده
جراء توقيعه لتلك الاتفاقية، ولولا حرب الثماني سنوات لما عانى صدام من
ازمة مالية دفعت خياله المريض لغزو الكويت، ولولا غزو الكويت لما كان
الحصار ومن ثم التدخل الامريكي، والبقية معروفة، وانت عزيزي القارئ سيد
العارفين.
الخلاف والاختلاف ليس بالضرورة ان يؤدي الى الصراع، واذا ادى الى
الصراع ليس بالضرورة ان يصل الى درجة الصراع العنفي، وبالتالي المعضلة
لا تكمن في الاختلاف والتنوع، بل في شكل الصراع الناتج عنه وطبيعته،
بمعنى اخر، الاختلاف الطائفي والاثني بحد ذاته ليس السبب في ما يحدث في
العراق، بل طريقة البعض في فرض طائفيته وقوميته، والاصرار على التفرد
والتسلط والتشبث بثقافة الاستفراد بالسلطة والقرار، والغاء الاخر
اوالتقليل من شأنه، ولجوء اصحاب الامتيازات في العهد القديم الى القوة
والعنف، لفرض شروط طائفتهم وقوميتهم على الطائفة او القومية الاخرى.
السبب الحقيقي للازمة المزمنة التي تعصف بالعراق، ليست الديمقراطيه
بل الاستبداد بأنواعه، لقد مارس صدام حسين وحزبه الاستبداد وسياسة
الغاء الاخر، بحق الشيعة كطائفة والكرد كقومية، فماذا كانت النتيجة ؟
تقسيم حاد في الجسد العراقي، سنة تأصل فيهم روح الاستعلاء القومي
والطائفي، ويقفون اليوم على اطلال الماضي رافضين حقيقة التغيير، وشيعة
يطالبون بحقوق الاكثرية بعد ان حرموا منها لعقود من الزمن، تعرضوا
خلالها الى التنكيل والاضطهاد، وكرد فقدوا الثقة بالاخوة العربية
الكردية بعد ان تعرضوا لشتى انواع التصفية العرقية، ولا يقبلون
الانتماء الى العراق، الا بضمانات دستورية تمنع تكرار المأساة، والحل
الوحيد، هو البعد عن الاستبداد والاحتكار والتسلط التي اعتاد عليه
ابناء البلد، والاحتكام الى العقل ومنطق التوافق، والاهم على الاطلاق
تطبيق الديمقراطية التي اتى بها المحتل، والسلام على من اتبع الهدى
والديمقراطية.
d.mehma@hotmail.com |