شبكة النبأ: رغم ان عمليات خطة فرض
القانون اثبتت نجاحا في شهرها الاول للحد من هجمات العنف الطائفي
والقتل والاختطاف على الهوية الا ان التفجيرات الانتحارية وعمليات
الارهاب لا تزال مستمرة، وتستمر في ظلها معاناة العراقيين النفسية
والجسدية وخصوصا الاطفال الذين طالتهم عمليات الخطف او الاصابة او
الذين رأوا مشاهد التفجير المرعبة امام اعينهم، وتتراوح مأساة الاطفال
بين نوبات الصرع والرعشة والتلعثم او المشي ليلا دون شعور فضلا عن
الاحلام المرعبة التي تراودهم باستمرار.
وبالنسبة للبعض مثل زمان البالغة من العمر 13 عاما أضحت تلك
الكوابيس حقيقة واقعة. فقد تعرضت للخطف والضرب بل وهددت بالاغتصاب.
يقول حيدر عبد المحسن وهو طبيب نفسي بمستشفى ابن رشد ببغداد يعالج
الاطفال الذين يعانون اثار الحرب بعد أربع سنوات من الغزو الامريكي
"زمان تعاني الرعشة والعصبية والتلعثم واضطراب النوم."
وأشار عبد المحسن الى أن زمان اختطفت في بغداد الشهر الماضي وهي في
طريقها الى المنزل عائدة من المدرسة. ولم تكن زمان في المستشفى عندما
زارتها رويترز لكن عبد المحسن قال ان القليل جدا من الاطفال الذين
عالجهم في الاونة الاخيرة أثروا فيه كما أثرت هي.
وقال "طلبت منها امرأة مسنة أن تساعدها في حمل بعض الاكياس
البلاستيكية وتعبر بها الطريق لتوقف سيارة أجرة. وبينما كانت تأخذ
أكياسها من زمان جذبتها عنوة الى داخل السيارة الاجرة. وخدرت زمان
وقيدتها."
واحتجزت الفتاة في حجرة مع 15 فتاة أخرى لسبع ساعات قبل أن تداهم
الشرطة المنزل وتطلق سراحها.
وقال عبد المحسن "ضربوها وأبلغوها أنهم سيرسلونها للمتمردين لتصبح
زوجة لأحدهم رغما عنها."
وهكذا تركت أربع سنوات من الحرب بالاضافة الى العنف الطائفي الذي
يهدد الان بتمزيق العراق اثارا مروعة على الاطفال.
وكل يوم تشهد العاصمة بغداد انفجار سيارات ملغومة. وقذائف المورتر
تمطر بعض الاحياء. وأصبح لعب الكرة في الشوارع شبيها باللهو مع الموت.
وليست هناك أرقام لعدد الاطفال الذين لقوا حتفهم في أعمال العنف منذ
أن غزت القوات الامريكية العراق في مارس اذار عام 2003 وأطاحت بالرئيس
السابق صدام حسين على الرغم من أن الامم المتحدة تقول ان 34500 مدني
قتلوا من جراء العنف في العراق في العام الماضي وحده.
وغالبا ما يكون الاطفال من بين ضحايا الهجمات الكبيرة بالسيارات
الملغومة على أسواق بغداد. ولكن حتى لو لم يصب أولئك الاطفال بأذى جسدي
فان كثيرا من آلامهم تأتي مما يرونه ويسمعونه.
وخارج مكتب عبد المحسن كانت غفران البالغة من العمر تسعة أعوام تقف
في انتظار أبيها الذي كان يناقش حالتها مع الطبيب.
وقالت "أشعر بصداع."
غفران رأت تفجيرا ورغم أنها لم تصب في الانفجار فانها تعاني نوبات
صرع منذ ذلك الحين.
ونقل عبد المحسن عن والدها قوله "كلما رأت مشهدا لتفجير أو سمعت صوت
انفجار أو رأت أناساً يرتدون ملابس سوداء تنتابها نوبة صرع."
وفي عام 2004 فتح عبد المحسن مركزا لعلاج المصابين بمشكلات نفسية
لكنه قال انه اضطر لإغلاق المركز في عام 2005 لان الاطباء الاجانب
توقفوا عن المجيء الى العراق وأفلس المركز.
وأضاف أن 70 في المئة من الاطفال الذين يراهم يعانون أعراض اضطراب
عصبي بعد شفائهم من الجروح.
وقال "البعض يعاني من التبول اللاارادي ليلا وعقد اجتماعية وبخاصة
عندما يرى طفل شخصا يقتل أو يخطف أو يتعرض هو نفسه للخطف."
ولدى كل الاسر التي لديها أطفال تقريبا قصص عن الكوابيس أو التغيرات
السلوكية.
تقول نجاة العزاوي (55 عاما) وهي مهندسة متقاعدة "حفيدي البالغ من
العمر ست سنوات قال لي قبل أيام انه رأى في نومه أنه كان يسير مع أمه
قريبا من منزله عندما رأوني أتجه نحوهم.. لكن رجلا ملثما جاء وخطفني."
وتقول نورا (تسع سنوات) وهي ابنة وفاء حامد المعلمة بمدرسة ابتدائية
انها تخاف من الظلام.
"أرى في النوم أن لصا يطاردني حاملا سكينا كبيرا. أهب من نومي وكل
جسمي يرتجف وأشرع في البكاء منادية أمي وأبي."
وتحب نورا مشاهدة قناة سبيس تون الفضائية في التلفزيون لكنها تجعلها
حزينة.
تقول نورا "أرى أطفالا يلعبون في حدائق ومتنزهات جميلة وأتمنى لو
كان باستطاعتي أن ألعب وأستمتع مثلهم لكني أعلم أنني لا أستطيع لان
عندنا قنابل وأشرارا يؤذون الاطفال."
وقد شنت القوات الامريكية والعراقية حملة أمنية كبرى في بغداد مركز
العنف الطائفي.
وعلى الرغم من أنها قلصت أعداد الوفيات الناجمة عن فرق الموت الا ان
المعتاد في كل يوم وفي أي مكان أن تدوي أصوات ما يتراوح بين حفنة قليلة
وعشرات الانفجارات في أنحاء المدينة من جراء اعمال ارهابية وتفجيرات
انتحارية.
وقالت والدة نورا ولديها أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين الرابعة
والحادية عشرة "أطفالي دائما خائفون. حتى اذا أوصد باب فانهم يشرعون في
الارتجاف والصراخ.. قنبلة .. قنبلة."
ومضت قائلة "اعتاد أطفالي اللعب بالخارج عندما كانت الامور أفضل
حالا قبل عامين لكنهم الان أمام التلفزيون دائما.. هذا اذا حالفنا حظ
كاف وتوافرت الكهرباء."
وبينما كانت تتكلم حلقت طائرات هليكوبتر أمريكية على ارتفاع منخفض
وتسبب هدير مراوحها في ارتجاج المنزل فيما أصبح أمرا شائعا للغاية
لدرجة أن غالبية سكان بغداد لا يشعرون بالخوف منه.
لكن طفلها مرتضى ذا السنوات الاربع انفجر باكيا ووضع يديه في أذنيه
ليحجب الضوضاء. وقال بصوت يخنقه البكاء "ماما .. خائف .. خائف."
وشاهد خليل البالغ من العمر 14 عاما جثة في الطريق بينما كان في
السيارة مع والده. يقول والده انه تحدث عنها كثيرا في باديء الامر لكن
أصبحت تعتريه بعدها فترات من الصمت. كما بدأ في المشي أثناء نومه.
وقالت أم خليل وهي أستاذة جامعية ان ابنها وأصدقاءه اعتادوا من قبل
الحديث عن هواياتهم أو ما اذا كانوا يرغبون في دراسة العلوم أو الادب
أو أن يصبحوا مخترعين ويبتكروا بعض الاشياء العظيمة. لكن الان كل ما
يتحدثون عنه هو قذائف المورتر التي تسقط بالقرب من منزل صديق لهم أو
مقتل والد صديق اخر أو اختطافه.
وتضيف أم خليل "تفكيرهم أصبح كئيبا، انهم لا يفكرون في الغد لأنهم
يعرفون أن الغد قد لا يأتي أبدا."
وفي قصة مماثلة وصباح عراقي أصبح مألوفا ، توجه (خالد) إبن الإحدى
عشر ربيعا إلى مدرسته الواقعة خلف بيته وسط العاصمة بغداد ،ومع نهاية
الدرس الأول... ودون سابق إنذار دكت المدرسة عدة إنفجارات مرعبة ،خطفت
البراءة من عيون الأطفال .
كان المنظر مريعا مع رؤية الزجاج المتشظي وهو يخترق الأجساد
الغضة... (خالد) كغيره من الأطفال إختبأوا تحت أدراجهم ورحلاتهم
الصغيرة. وقع جزء من السقف وسقطت المروحة ،وإندثرت مع الركام
الدفاتر... أقلام الصغار.. السبورة ،وأحلام لم تكتمل بعد... كلها تبخرت
مع غبار الإنفجار ،ولم يبق سوى (خالد) وصديقه الذي قطعت يده .
المأساة التي مرت بحياة هذا الطفل العراقي تستمر حتى هذه اللحظة
،فالبشاعة التي رآها تركت من الآثار ما جعله يعاني الكثير ،وبالتأكيد
هو لم يكن الوحيد... فيوميا هناك عشرات الأطفال في العراق يعانون مثل
هذه التجربة القاسية ،فكانوا مع أهلهم من دفعوا بكثير من الألم فاتورة
الحرب التي لم تنته .
قبل عشرة أيام من اليوم الخميس ،ضرب مدفع هاون مجموعة طلاب صغار عند
خروجهم من مدرستهم الواقعة في (حي الكرادة) وسط بغداد... الطفلة ( ندى)
ذات الإثنى عشر عاما تعرضت بسببه إلى حروق بالغة جعلتها تبكي طيلة
الليل .
تقول ندى لـ ( أصوات العراق) المستقلة "شعرت بخوف شديد... كنت أريد
أمي ، ولم أفكر حينها إلا في أني لن أراها ثانية."
تغرق عينا الطفلة بالدموع... ثم تنظر إلى الفراغ المجهول ،أما أمه
السيدة ( أميرة الجنابي) فتقول "حين سمعنا أصوات الإنفجار المرعبة
،هرعت مع أهالي المنطقة إلى المدرسة... خاصة بعد أن إنتشر الخبر بوقوع
ضحايا بين التاميذ... لم أعرف ماذا أفعل."
وتضيف " كان المشهد مرعبا لدرجة لا يمكن تصورها ،الدماء إختلطت
بالكتب والكراريس الدراسية... وتناثر كل شيء على أسفلت الشارع."
"لم تتوقف الحرب منذ آذار مارس ( 2003) ،فنحن نعيش مأساتها مرغمين
حتى هذه اللحظة."
هذا ما تقوله والدة طفل آخر تعمل معلمة في مدرسة بحي ( العامل) غربي
بغداد ،وتضيف
"هذه المنطقة من المناطق الساخنة ،خاصة في الأشهر الأخيرة ،حتى أننا
في أيام كثيرة كنا نعزف عن الدوام... فلا أحد يعلم ما تضمره اللحظات
القادمة."
وتكمل السيدة (ن ي) حديثها " كنا نحضر الدروس وفي كل لحظة نتوقع
الأسوأ... أغلب الأهالي كانوا يشعرون بالخوف على أولادهم ،خاصة بعد
وقوع الكثير من الحوادث المؤلمة ،
لذا كان الدرس أشبه بحرب نفسية نخوضها ضد عدو مجهول يتصيد بنا."
سعدية محمد ،معلمة في إحدى المدارس الواقعة في ضواحي بغداد ،تقول
"هناك نسبة كبيرة من الطلبة يعانون التردد "وتضيف "في ساحة المدرسة او
في الصف يتصرف بعض من الطلاب بعدائية واضحة ،واللعبة المفضلة لديهم هي
لعبة غريبة تفاجأت بها ..ففي احدى المرات وفي الساحة الخلفية من
المدرسة اجتمع عدد من الطلبه ،كانوا يغطون وجوههم بمناديل صغيرة فلا
تظهر سوى اعينهم.. اجتمعوا حول طفل اخر بعد ان قيدوه ..وفي نهاية
اللعبة يصدرون الحكم عليه بالذبح ،وبالفعل يأخذون قطعة من الخشب على
شكل سكين ويتظاهرون بذبحه " تضحك بأزدراء وتضيف "لقد اختلفت اشياء
كثيرة في قاموس هؤلاء الصبيه."
علم النفس له وجهه نظره فالظرف غير الطبيعي المستمر يتسبب بالاضطراب
الهلعي ..الدكتور عدي خالد المتخصص في الطب النفسي في مستشفى الكاظمية
التعليمي وهو احد الباحثين في هذا الموضوع يقول ( لأصوات العراق)
"للاسف ليست هناك دراسة مسحية في العراق بشأن هذا الموضوع ،لكن
الدراسات العالمية تشير الى تزايد نسبة اضطرابات القلق ،وهذا يجب ان
نميزه عن الرهاب الاجتماعي الذي يصيب الذكور والاناث على السواء ،وهو
الخوف من المواقف الاجتماعية ،اما القلق فيشتمل على اضطرابات الهلع
..الوسواس القهري ..الرهاب من الاماكن المغلقة والظلام والماء والاماكن
المرتفعة."
المرأة بحكم طبيعتها تكون اكثر عرضه للقلق والتوتر ..هذا ما يوكده
الدكتور خالد في معرض حديثه ويقول " من اهم الاسباب هو شعور المرأة
أنها بحاجة الى الاخر (الرجل ) أو شعورها بعدم الاستقرار او فقدان
الرعاية والحنان في وقت مبكر."
"تاريخ العراق تاريخ حافل بالحروب ..الحروب وما تجره من ويلات كل
ذلك كان له اثره في نفسية الفرد العراقي "هذا ما يؤكده الدكتور خالد
ويضيف "كان للحروب المستمرة اثر بالغ في تكوين نفسية خاصة ..نفسية
مستفزه ،فظهر كرب ما بعد الشدة ،اضافة الى الظرف الامني هناك الضغوط
الاجتماعية كصعوبة الحصول على عمل وضياع فرص التعليم."
الدكتور خالد يتمنى اعادة مجلس البحث العلمي الذي الغي في عهد
النظام السابق ،والذي عن طريقه يتم اجراء المسوحات عن نسبة الامراض
النفسية في مجتمعنا للوصول الى دراسة علمية ناجحة.
الباحثة الاجتماعية سمر ناجي تعمل في احدى المدارس المتوسطة للبنين
..تقول انها لاتزاول عملها داخل المدرسة ،والسبب في ذلك ان درس التوعية
الاجتماعية غير مهم داخل العراق بالرغم من اننا اكثر من يحتاج اليه
..وعن الكثير من المظاهر تتحدث " هناك من قال ان الحرب تبدأ عندما تسكت
فوهات البنادق فما بالنا نحن العراقيين ..نحن في حرب لا نعلم متى تنتهي
..فهناك جيل عريض من جيل الحروب ..الاولاد في المدرسه يحبون العنف
ويرون ان الحروب هي الحل المثالي لحل الازمات.
وتقول" لم اتفاجأ حين رأيت ان هناك بين الاولاد من يعاني التبول غير
الارادي برغم ان اعمارهم تتجاوز السادسة او السابعة.كما ان هناك الكثير
من مشاهد الدمار والقتل التي تمر في رأس الطفل سواء كان قد رآها في
الحقيقة او التلفاز."
وتضيف " لن ننسى أن هناك من فقد أهله نتيجة العنف ،الذي يترك أثرا
بالغا في نفسية الطفل... لأنه يقارن نفسه بأصدقائه أو يحمل المجتمع
مسؤولية فقدانه للحنان ،ونتيجة هذا نلاحظ ازدياد التلعثم او التأتأة
بين الاولاد ،هذا اذا تغاضينا عن ما يسببه ذلك من عوز مادي كأن يكون
الطفل قد فقد والده وما ينتج عن ذلك عن اضطراره ترك الدراسة وتحمله
المسؤولية وكثيرا ما يحدث هذا في الاسر الفقيرة او ذات الدخل المحدود،
ولنا ان نتصور شكل المجتمع وهو يرى في العلم او الدراسة شيئا مترفا لا
اساسيا."
ولن ننسى ان الحرب تعني تدمير المدارس وحرمان الاطفال من حقهم
الطبيعي في التعليم والحياة ،واليوم يتعرض اطفال العراق الى حالات
الاعاقة وغياب المعيل وتشتت الاسرة والسبب في كل ذلك هو كابوس لايريد
أن ينتهي... إنه ( كابوس الحرب) . |