ذهلت وأصبت بالغثيان من جراء القراءات ذات الطابع الطائفي والموغلة
في المذهبية لعملية إعدام صدام حسين. لا شك أن عملية الإعدام شابها بعض
القصور، ووقعت في بعض الأخطاء سواء لجهة زمان إعدام صدام حسين، أو لجهة
بعض المواجهات اللفظية التي جرت في المقصلة بين صدام حسين وبعض الحضور.
ولكن هذه الأخطاء أو الخطايا لا فرق، لا تبرر بتاتا هذه القراءة
الطائفية لحدث الإعدام. إذ انبرت العديد من الأقلام لوصف عملية
الإعدام، وكأنها انتقام شيعي من السنة، وهذه هي الهدية التي يقدمها
شيعة العراق إلى جميع المسلمين في عيد الأضحى المبارك.
أقول أن هذه القراءة الطائفية، أصابتني بالذهول والغثيان. لأنها
قراءة شحنت النفوس وأججت المشاعر ووجهت سهام غضبها لطائفة مسلمة
بأسرها. وهذه القراءة المشحونة بالرموز والإيحاءات الطائفية المقيتة،
حولت صدام حسين في لحظة واحدة من طاغية وديكتاتور إلى بطل وشهيد. ومن
شخصية ظالمة أوغلت في دماء السنة في العراق قبل أن توغل في دماء
الشيعة، إلى رمز من رموز المقاومة والسنة في العراق .
وأنا في هذا المقال، لا أبرر الأخطاء التي وقعت فيها المحكمة أو
طريقة إعدام صدام حسين. وأتفهم بشكل كامل كل ردود الفعل المتعلقة
بطريقة وزمان إعدام صدام حسين. ولكن ما لا أتفهمه هو هذه القراءة
الطائفية، التي تحمل الملايين مسؤولية هذا الخطأ أو هذه الخطايا.
إن هذه المواقف والآراء الطائفية والمطلقة، والتي تكيل التهم
الطائفية، وتنبري لاتخاذ مواقف طائفية - عدائية، هي في حقيقة الأمر
ترتكب جريمة كبرى بحق كل المنطقة والشعوب العربية والإسلامية. لأنها
توجه الناس وغرائزهم ونزعاتهم، تجاه المعركة الخطأ، وتشحن نفوس الناس
وتؤلب مشاعرهم تجاه طائفة بأسرها، لا ذنب لها في كل ما جرى ويجري في
العراق من أحداث وويلات.
فالاقتتال الطائفي في العراق جريمة، ومسؤوليتنا تجاه هذه الجريمة
ليست تأليب السنة ضد الشيعة أو الشيعة ضد السنة، وإنما العمل على وأد
الفتنة والقيام بمبادرات للمصالحة الوطنية في العراق. وإن توتير
العلاقات الداخلية بين المسلمين، انطلاقا من أحداث العراق المدانة
والمستهجنة، لا يخدم أحدا من أبناء الأمة، مهما كانت المبررات. وهي
بالمناسبة هذه المبررات موجودة عند جميع الأطراف. ولا يجوز أن نحول خطأ
أو خطايا مقصلة إعدام صدام حسين، إلى مناسبة لتوتير الأجواء الطائفية،
أو قراءة هذا الحدث بوصفه حلقة من حلقات المؤامرة التي يحيكها الشيعة
ضد المنطقة وشعوبها.
وينبغي أن لا تنسينا هذه الأخطاء، حقيقة صدام حسين وجرائمه، التي لم
تكن خاصة بالشعب العراقي، وإنما طالت كل شعوب المنطقة.
فلا ننسى احتلال الكويت وتشريد أهله وتدمير خيراته، ولا ننسى معركة
الخفجي التي لولاها لدخل الجيش العراقي أراضي المملكة واحتل بعض
أراضيها، ولا ننسى الصواريخ التي استهدفت العاصمة الرياض.
فصدام حسين مجرم وطاغية، وهو المسئول الأول عن احتلال العراق،
وإطلاقه (39) صاروخا على الكيان الصهيوني لم تقتل إلا عجوزا إسرائيلية،
لا تنسينا جرائمه والتي كان آخرها تسليم العراق وبدون قتال ومواجهة
ومقاومة إلى القوات الأمريكية. فلا يتحول هذا المجرم بخطأ هنا أو خطيئة
هناك إلى بطل وشهيد ورمز من رموز السنة والمقاومة والعرب في العراق.
فصدام لا يمثل السنة، حتى ولو عمل البعض لإرباك الساحة على إثبات ذلك.
والخطايا التي ارتكبت أثناء عملية الإعدام، لا تمثل الشيعة حتى ولو قام
بها بعض أفراد هذه الطائفة.
فلنكف عن هذه القراءات الطائفية، التي تؤجج النفوس والمشاعر، وتهيأ
الأجواء لمعارك ومواجهات طائفية لا تخدم أحدا، بل تهدد أمن واستقرار
المنطقة كلها. فالقراءات الجاهزة ذات الطابع الطائفي للأحداث السياسية
ذات الظروف والمتغيرات الخاصة، لا توصل إلى الحقيقة، لأنها قراءات
منحازة سلفا، وتعمل على خدمة أجندة خاصة، ليس لها علاقة سوية بالقراءة
الموضوعية للأحداث والتطورات السياسية. فلا يعقل أن يتحول الاحتلال
الأمريكي للعراق، وهو الذي أسقط صدام حسين وفكك نظامه الأمني والعسكري،
إلى رؤوف بصدام قبل إعدامه، ويتحول ضحايا صدام حسين إلى قتلة ومجرمين.
إننا مع إيماننا بحصول بعض الأخطاء في عملية الإعدام، من ناحية وقت
وزمان الإعدام، إلا أننا من الضروري أن نتفهم مشاعر هؤلاء الضحايا،
الذين لاقى أهلهم وذووهم من نظام صدام حسين كل الويلات والمحن. فلا
ننتظر من الضحية أن تحزن حينما يقتل جلادها.
حتى الشعب الكويتي الذي احتلت أرضه من قبل صدام حسين فرح بالإعدام،
وتغاضى عن بعض الخطايا. ولم توصف هذه الفرحة الكويتية بأوصاف طائفية
مقيتة. وما كتب في الصحافة الكويتية بعد إعدام الطاغية صدام حسين، يفوق
ما كتبته الصحافة العراقية، ومع ذلك لم تتجه الآراء صوب تقويم الفرحة
الكويتية .
لهذا فإنني أقول: إن التوظيف الطائفي لعملية إعدام صدام حسين ، ليس
توظيفا بريئا ، وتشوبه الكثير من الأسئلة المتعلقة بالمصلحة والغايات
المرسومة لعملية التوظيف ذات الطابع الطائفي. بل إننا نعتقد أن هذه
القراءة الطائفية مغلوطة وظالمة للأسباب التالية :
1- إن صدام حسين لم يعدم بأياد شيعية فقط، بل اشتركت أطراف سنية
وكردية عراقية في قرار الإعدام. فغالبية القضاة الذين حكموا على صدام
حسين بالإعدام بجريمة أحداث الدجيل الذي راح ضحيتها (148) شخصا هم من
أبناء السنة في العراق.
2- توظيف الغضب العربي والإسلامي بالاتجاه الخطأ. فبدل أن يوجه هذا
الغضب باتجاه الاحتلال الأجنبي للعراق ومن مخاطره ومؤامراته، هو يتجه
من خلال القراءة الطائفية لعملية الإعدام إلى طائفة بأسرها. هي أحد
ضحايا نظام صدام حسين خلال العقود الثلاثة الماضية.
3- تراجع خطاب الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي، لصالح
الخطابات الطائفية - التقسيمية. ففجأة تناسى الجميع ضرورات الإصلاح
ومطالبات الدمقرطة في العالمين العربي والإسلامي، وتوجه الجميع صوب
النزاعات الطائفية، وضرورة الوقوف ضد التمدد الشيعي في المنطقة. وكأن
هذا التمدد حقيقة قائمة.
فهذه القراءة الطائفية خاطئة وظالمة، لأنها تنقل شعوب المنطقة من
موقع المطالبة بالإصلاح والديمقراطية إلى موقع الصدام الطائفي الذي لا
يخدم إلا أعداء الأمة وخصومها الحقيقيين. فلماذا نقرأ مثلا الاختلاف أو
التناقض في الخيارات السياسية بين بعض الدول العربية وإيران، قراءة
طائفية. هذه القراءة التي تتعدى في تأثيراتها حدود إيران، وتتعامل مع
المجتمعات الشيعية في الدول العربية وكأنها جاليات إيرانية.
فإيران كدولة وكمجتمع ليس كل الشيعة، وخياراتها السياسية ليست ملزمة
لشيعة المنطقة. فما المصلحة المتوخاة من خلط الأوراق، وإطلاق أحكام
طائفية - مطلقة. فلا مشروع خاص للشيعة في أوطانهم، فهم مواطنون لهم ما
للمواطنين وعليهم ما على المواطنين، وكل تطلعاتهم وطموحاتهم هو أن
تزداد حقائق المشاركة والاندماج في أوطانهم. فالشيعة ليسوا حالة مضادة
للمواطنة، بل هم جزء أصيل منها. ووجود احتمالات التأثير الإيراني
عليهم، يحمل شركاءهم في الوطن مسؤولية التواصل معهم ومنع هذا التأثير
بوسائل حضارية، وليس اتهامهم ووصفهم بأوصاف غير لائقة.
فكل الشرائح والفئات معرضة للتأثير والتأثر من الخارج، ولكن هذا لا
يعالج بالاتهام، وإنما بالعمل الحكيم الذي يسد الثغرات ويقوي عوامل
الوحدة الداخلية.
فمجتمعاتنا متعددة ومتنوعة مذهبيا، ولا يصح التعامل مع هذه الحقيقة
بعقلية الاتهام والتخوين. ووجود مواقف سياسية مختلفة، لا يبرر الاتهام،
بل على العكس يحفز على التواصل والتفاهم والتلاقي وسد الثغرات.
لهذا كله فإننا ندعو إلى الحذر من القراءات الطائفية لأحداث
المنطقة. لأن هذه القراءة تفتح جروحا عديدة في كل المجتمعات والمناطق.
ولا يجوز لنا أن نهدد أمننا واستقرارنا بنزعات طائفية مشبوهة. والإنسان
لا يحاسب سياسيا واجتماعيا على انتمائه الديني أو المذهبي أو القومي،
بل يحاسب على خياراته وكسبه السياسي والاجتماعي.
لهذا فإن صدام حسين مجرم وطاغية، ويستحق الإعدام، ووجود أخطاء في
عملية إعدامه سواء في الزمان أو في بعض الشعارات، لا يحول صدام إلى بطل
وشهيد.. فهو الذي أعدم الشيخ عبد العزيز البدري قبل أن يعدم السيد محمد
باقر الصدر.
فلا ندخل المنطقة كلها في أتون التوترات المذهبية والطائفية، بدعوى
الانتصار لصدام حسين. فهو لا يستحق منا إلا النبذ والنسيان، لأنه أضر
بنا جميعا، وأدخل المنطقة كلها في أتون حروب ومواجهات، قتلت الآلاف
ودمرت البنية التحتية وأهلكت الحرث والنسل.
والصوت الطائفي المرتفع المدافع عن صدام حسين، قد يخدم بعض الأطراف
تكتيكيا في ظل هذا الجو المشحون والمليء بالهواجس، إلا أنه يضر
بالمنطقة كلها على المستوى الاستراتيجي. فلا تتحمل المنطقة حربا جديدة،
وكل هذه التعبئة الطائفية هي بمثابة الحروب الأهلية الباردة التي قد
تقود لا سمح الله إلى حروب وصدامات مباشرة.
فلننتقد إعدام صدام، ولكن خطيئة كبرى بحق الجميع حينما تقرأ عملية
الإعدام قراءة طائفية مصحوبة بالشحن والتعبئة الخطيرة. لأن هذا الشحن
يزرع بذور الفتنة في كل المنطقة .
وجماع القول : إننا نتفهم بعض ردود الأفعال على إعدام صدام حسين في
يوم العيد، ولكن ما لا نتفهمه هو القراءة الطائفية المقيتة، التي تؤسس
بشكل مباشر وغير مباشر إلى فتنة طائفية في كل المنطقة، لا يعلم إلا
الله مداها وآثارها. فلنتق الله سبحانه، ونجنب المنطقة مقدمات حرب
جديدة. فالمنطقة تمر بظروف خطيرة وحساسة، والإمعان في التحريض الطائفي،
يزيد الأوضاع خطورة وصعوبة وتعقيدا. ولا خيار أمامنا إذا أردنا الأمن
والاستقرار، إلا الابتعاد عن كل أشكال التحريض الطائفي، والتأسيس
العميق لكل موجبات الوحدة والائتلاف في داخل أوطاننا.
والانتماء المذهبي ليس بديلا عن الانتماء إلى الأوطان. وإننا نشعر
أن الحضور المتضخم للمذاهب في الحياة السياسية العربية والإسلامية
اليوم، هو حضور مؤقت ومرتبط بعوامل تاريخية - وسياسية. ولكن هذه
العوامل لن تصمد طويلا أمام حاجة الجميع إلى الأمن والاستقرار على
قاعدة الانتماء الوطني والمواطنة، وليس على أساس الانتماء المذهبي أو
العرقي أو القومي. والاستقرار السياسي في العراق، مرهون على قدرة كل
الفرقاء من الخروج من سجن الطوائف والمذهبيات إلى رحاب الوطن
والمواطنة.
فالعراق لا يستقر ولا تستقيم حياته السياسية إلا بمشاركة جميع
الأطراف في حكمه وإدارة شؤونه المختلفة.
(*) كاتب و باحث إسلامي سعودي |