تهويد القدس في زمن التراخي العربي والإسلامي

هند بطلموس*

 اكتسبت القدس عبر تاريخها أهمية دينية وحضارية وروحية فريدة، بحكم صلة الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية بها، وبحكم علاقاتها بنشوء هذه الأديان وتاريخها، حتى أصبحت تضم العشرات من الأماكن التي يقدسها أتباع الديانات الثلاث، وفي إحصاء أجرته منظمة الأمم المتحدة في نوفمبر 1949 تبين أن هناك ثلاثين مكانا مقدسا في القدس، 15 منها للمسيحيين و11 لليهود و4 للمسلمين(1).

ولقد شكلت القدس، دائما وعبر التاريخ بؤرة صراع بين الديانات السماوية الثلاث، ولم  يحسم هذا الصراع إلى يومنا هذا، فانتصار المسلمين في ظل الدولة العثمانية بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبين في عام 1187، ظلت القدس تحت السيادة الإسلامية إلى حدود عام 1917، وهوالتاريخ الذي تزامن مع نجاح زعماء الصهيونية في الحصول على وعد بلفور القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين(2).

وفي يوليو، من سنة 1922 شرعت عصبة الأمم في صك الانتداب البريطاني على فلسطين الذي نص على أن توضع فلسطين في ظروف إدارية وسياسية واقتصادية يضمن معها تأسيس الوطن القومي اليهودي، شجعت آنذاك حكومة الانتداب بمقتضاه الهجرة اليهودية إلى فلسطين(3).

في نوفمبر1947 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يدعوإلى تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية وأخرى يهودية، على أن تكون القدس كيانا منفصلا يخضع لإرادة دولية.

علما أن قرار التقسيم الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة أنكره الكثير من فقهاء القانون الدولي لأنه لا يستند إلى أسس قانونية(4)، وبالتالي فهويعتبر بمثابة إهدار كامل لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، طبقا لما حددته المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة(5).

كما أن هذا القرار أعطى للصهاينة فرصة تحقيق مخططهم في الاستيلاء على القدس والسعي وراء تهويده،علما أن المخططات الصهيونية المتعلقة بتهويد بيت المقدس بدأت منذ عام 1898 وهو تاريخ مؤتمر بال الذي أقر بإنشاء إسرائيل بعد خمسين عاما وإنشاء إسرائيل الكبرى في غضون 100 عام(6).

 لكن التطبيق العملي لمخطط التهويد، انطلق منذ يونيو1967(7)، حيث عمدت إسرائيل إلى ضم الجزء الشرقي من المدينة إلى الكيان الصهيوني بموجب إصدار طائفة من التشريعات والإجراءات والتدابير التي تؤدي إلى تدخل السلطات الإسرائيلية، كما عمدت إلى تهويد التعليم العربي وتهويد القضاء(7)، فلم تكتف إسرائيل بذلك، بل عمدت إلى إزالة الأحياء العربية ومصادرة أراضيها وإقامة أحياء سكنية يهودية، والقضاء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، هادفة بذلك إلى تشويه الطابع الحضاري لمدينة القدس، ثم القضاء على الارتباط الديني بين المسلمين والمسيحيين وبين مقدساتهم، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الحفريات التي قامت بها، وتقوم بها بالقرب من المسجد الأقصى، بهدف ما تدعي به أنها تبحث عن موقع هيكل سليمان وكذلك الحفريات بالقرب من حائط المبكى، والتي أدت بالفعل إلى تصدعات، فضلا عن مصادرة الباب المؤدي إلى بيت المقدس (باب المغاربة)(8) والآن تعتزم إزالة طريق المغاربة كونه يعرقل سير المصلين اليهود(9)..

وحتى يمكننا فهم عملية تهويد القدس يجب أن نراها لا باعتبارها عملية عشوائية وإنما باعتبارها مخططا له أهدافه الواضحة ويتمثل في تأسيس القدس الكبرى الموسعة، اليهودية الخالصة ككتلة استيطانية ضخمة تمزق وإلى الأبد الوحدة الجغرافية للضفة الغربية كما جاء في إحدى وثائق حزب الليكود(10)، وفي سياق ذلك فإن أهداف الصهيونية ومتطلبات        الدولة جعلت من التهويد  (JUDAIZATION ) أو أسرلة (ISRAELISATION) الجغرافيا العربية لفلسطين، بهدف طمس المعالم العربية(DE ARABISATIO)، وذلك إما عن طريق التفريغ الجسماني للسكان العرب من هذه المنطقة، أوعن طريق غلق هذه المناطق ومنع العرب من استعمالها فعليا أوعن طريق زيادة الإستطان اليهودي(11).

لاشك، أن الحفريات التي تقوم بها إسرائيل تحمل في طياتها مخاطر تهدد الوجود الحضاري الإسلامي وأسرلته(12)، وتعكس أيضا فرض إسرائيل لسياسة أمر الواقع،  حيث تنطلق من فكرة أن القدس عاصمة لها، وذلك  منذ الإعلان عن ضمها سياسيا 30/7/1980.

إن القدس بالنسبة للديانات الثلاث لا تشكل لهم فقط صفة جغرافية، بل ذات صفة روحية مرتبطة بالعقيدة والإيمان، إلا أن عبء المحافظة عليه يقع على عاتق العرب والمسلمين، فأين يقع دور المسلمين من ذلك؟

لاشك، أن المنتظم الدولي في صورة الأمم المتحدة تحرك إزاء اتخاذ إسرائيل لكافة الإجراءات التي ترمي إلى تهويد القدس، حيث أصدرت الجمعية العامة مجموعة من القرارات التي تدين فيها إسرائيل، واعتبرت تلك الإجراءات غير مشروعة ودعتها لإلغائها كقرار رقم 2253 الصادر سنة 1967، كما أصدر مجلس الأمن قرارا يدين فيه تصرفات إسرائيل واعتبر تلك الإجراءات باطلة كقرار رقم 252، والواقع أن المجال لا يتسع لتعداد القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة، لأن إسرائيل في جميع الأحوال لم تذعن لتلك القرارات، مما يدعوإلى الشك في الاحتكام إلى الشرعية الدولية، فالرفض التام لهذه القرارات لم يعرض الكيان اليهودي لأي شكل من أشكال العقوبات أولأي إجراء من جانب المجتمع الدولي، في الوقت الذي كانت الأمم المتحدة فيه تحاصر وتفرض عقوبات متعددة على العراق وأفغانستان... بل تصدر قرارات تجيز استخدام القوة العسكرية لفرض احترام وتطبيق قراراتها ومبادئ الشرعية الدولية(13)، مما ينذر بالضعف التام لما تبقى من الهيكل الهش للقانون الدولي والنظام الدولي أيضا(14).

تعتبر سنة 1969، بداية للإرهاصات الأولى للتحرك العربي والإسلامي المنظم، لأجل الدفاع عن عروبة القدس وأسلمته، ففي ظل غياب آليات دولية فعالة لردع الصلف الصهيوني، عمدت إسرائيل بحرق المسجد الأقصى، وعلى إثر ذلك عقد مؤتمر قمة عربية في الرباط 24/9/ 1969، وكان من أهم القرارات التي اتخذتها الدول الإسلامية إزاء ذلك، تكوين لجنة دائمة تسمى لجنة القدس، تتولى متابعة القرارات التي يصدرها المؤتمر الإسلامي، من منطلق أن القدس جزء لايتجزأ من الوطن الفلسطيني، وفي إطار ذلك أصدرت قرارات تدين فيها حرق المقدس بالإضافة إلى العديد من القرارات التي أصدرتها جامعة الدول العربية، ولكن تبقى تلك القرارات هزيلة لأنها تكتفي بمجرد الشجب والإدانة، دون أن توفر ضمانات كافية لحماية القدس.

وهنا تبرز إشكالية فهم حقيقية حول الجهد الفلسطيني والعربي والإسلامي المضاد للمسعى الإسرائيلي بخصوص قضية القدس، ومؤدى هذه الإشكالية ما طبيعة الإستراتيجية التي يتبنها العرب والمسلمين لإنقاذ القدس من التهويد في زمن تراخيهم، حيث ترسخت قناعة لدى الجميع أن العمل السياسي العربي الرسمي قد أصابه الهوان والضعف.

لاننكر أن العرب والمسلمين ناضلوا من أجل عروبة القدس وعودتها إلى السيادة الفلسطينية، وتأسيس مواقف موحدة حاسمة إزاء المحاولات الإسرائيلية الهادفة إلى تكريس الاحتلال لمدينة القدس، ولكن ظل نضالهم محدود، حيث تمثل في المطالبة بخلق تحالف عربي إسلامي فاعل على المستوى الرسمي، إعادة تشكيل المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، عقد قمم روحية إسلامية مسيحية من أجل اتخاذ موقف موحد من الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات وغيرها من المبادرات التي تفتقد إلى الفاعلية، بخلاف إسرائيل التي تتحرك وفق خطط واستراتيجيات مدروسة بشكل عقلاني.

 وإن كانت الحركة الصهيونية أسست موقفها في الصراع مع العرب على أوهام وأساطير إيديولوجية، فبالرغم من ذلك، استطاعت تحويلها إلى قوة حية وفعالة وصالحة للاستثمار، بل استطاعت تحويل أطماعها إلى قضايا، جعلت العالم يقر لها بموقع مركزي، أيضا جعلت (أمن إسرائيل) شغل الشاغل ومعيار سلوك الأمم والدول(15)،  في حين اقتصر الدور العربي والإسلامي على  التأكيد أن هناك مؤامرة صهيونية تحاك ضدهم.

 فضلا على أن طبيعة القرار الإسرائيلي يتميز كونه يتفاعل مع الواقع على أساس الجدلية البناءة وليس الفجوة الحاصلة كما في القرار العربي، وهذا راجع إلى البعثرة التي تسود الحالة العربية والإسلامية الراهنة التي لابد من استيعابها واستدراك عواقبها(16).

يفسر البعض، أن الخيارات العربية المطروحة اليوم في إطار مسلسل الدفاع عن القدس هي إمكانية ثابتة وعقيمة جدا ولا تتماشى مع المتغيرات التي تحكم الصراع العربي الإسرائيلي، فإسرائيل لم تلتزم  باتفاقيات أوسلوالتي أعطت للقدس وضعا دوليا خاصا، ولا بوثيقة جنيف من أجل السلام  في الشرق الأوسط التي تناولت مشروع التسوية الدائمة لقضية القدس بتفصيلات أكثر من أية وثيقة(17)                  

والنقطة التي أريد التدليل عليها من خلال ماتقدم، هي أن الخيارات المتاحة لصنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تتناقص يوما بعد يوم ولا تستقيم مع الشرعية الدولية، التي تحدد ملامحها الولايات المتحدة هذه الأخيرة التي تعتبر السلام في المنطقة عرقلة أمام مصالحها(18) كما أن الالتزام العربي والإسلامي، الذي يكرس وحدة الموقف إزاء القدس بشكله الحالي والمتمثل في تفعيل العمل الإسلامي المشترك، والتمسك بقرارات الأمم المتحدة والمطالبة باحترامها أو البحث عن حلفاء جدد في العلاقات الدولية للتأثير على القضية، في الواقع هي بدائل وإمكانيات أبانت عن عجزها وتآكلت مع الزمن، مما يستدعي  أولا قراءة جيدة للتحولات الداخلية للعالم العربي والإسلامي الذي يتجه نحوالفوضى العارمة، والذي يبدومعه استحالة إمكانيته في استرجاع القدس، نظرا لقوة إسرائيل التفاوضية والتي تعطي للبعد الديني أهمية قصوى انطلاقا من توظيفه في التفاوض مع العرب باعتبارها مسؤولة مسؤولية دينية تجاه بيت المقدس، وإن كان هذا افتراءا على التاريخ وعلى الدين، فلن يدوم حتما، لأن ذلك جاء عكس الحقيقة،  التي جاء بها النبي محمد حيث قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم  ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله – عز وجل – وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).

 على ضوء هذا الحديث، يفهم من خلاله أن بيت المقدس سيعود للمسلمين باعتباره وعدا ربانيا، ولكن ذلك رهين بتحقيق الإصلاح الداخلي للعالم العربي والإسلامي في جميع المجالات أولا، ثم تكييف هذا التغيير ثانيا مع التحولات الدولية، بالشكل الذي يضمن للعرب والمسلمين مكانة مؤثرة في النظام الدولي، فالحديث النبوي السالف الذكر، لا يعني أنه دعوة للاستسلام والتسليم بأمر الواقع، بقدر ما هودعوة للتحرك والعمل الفاعل وأيضا يشكل اختبارا للمسلمين.

ستظل القدس القضية التي يتقاطع فيها الديني والجيوسياسي، ولب الصراع الأبدي بين الديانات الثلاث، فهي قبلة المسلمين الأولى والمدينة التي تدور حولها الرؤى والسياسات كونها قطب الرحى في المعادلات القطرية والإقليمية والدولية(19)،، فهل الصراع على القدس هو صراع بين الحضارات أم هو بؤرة  توتر جيوسياسي؟ 

*هند بطلموس، باحثة في قسم العلاقات الدولية، وحدة المغرب في النظام الدولي،

 جامعة محمد الخامس الرباط، المغرب

 .............................................

المراجع

1)         سمير جرجس، القدس، المخططات الصهيونية، الاحتلال،التهويد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،بيروت، الطبعة الأولى،سنة 1981،ص:181

2)         فايز فهد جابر،القدس،ماضيها،حاضرها،مستقبلها،دار الجليل، عمان، الطبعة الأولى،سنة1985،ص:57 

3)         ياسر أبوشبانة، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي والتصور الإسلامي، دار السلام الطبعة الأولى، القاهرة، ص:92

4)         عبد الرحمان الصالحي، مسألة تدويل القدس، شؤون فلسطينية، العدد 202 يناير 1990،ص: 49 

5)         ميثاق الأمم المتحدة المادة الأولى من الفقرة الثانية(إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام

6)         فارس شرعان، دفاعا عن القدس، الطبعة الأولى،سنة 1992، عمان، ص: 43 

7)         فارس شرعان، مرجع سابق، ص:121

8)         عبد الرحمان الصالحي، مرجع سابق

9)         مشروع الاحتلال:تقسيم الأقصى، أنظر الموقع الإلكتروني  www.aljazeera.net

10)     حسن شريف،فلسطين من الحروب التوسعية لتحقيق إسرائيل الكبرى حتى انتفاضة الأقصى وتوابعها 1948-2002 م الجزء الرابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، السنة 2003، ص:1025

     (11) عازي فلاح، أسرلة الجغرافيا العربية الفلسطينية،شؤون فلسطينية، العدد209 سنة1990، ص:15

 

DOMINIQUE VIDAL, lettre de jerusalem, le monde diplomatique, 6 decembre2006 (12)

 (13) ياسرأبوشبانة، مرجع سابق،...ص: 52 

14) نعوم تشومسكي، النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة، ترجمة حنا حداد، رجعها سماح إدريس، الطبعة الأولى،بيروت،2001،ص:231-3-232

15) برهان الدجالي، القضية الفلسطينية والصراع العربي والإسرائيلي نظرة إستراتيجية،مركز دراسات الوحدة العربية، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، بيروت،200، ص:1446

16) كلوفيس مقصود، الوطن العربي بين قرنين دروس من القرن العشرين وأفكار للقرن21،مركز الدراسات الوحدة العربية،دار الخليج،الطبعة الأولى بيروت،2000،ص:29 vers l’israélisation de la veille ville de Jérusalem ,the international soliday movement,26/8/200)(17)

 (18)      carolin paiche, israél.Palestine, Liban : le chemin le plus longs vers la paix,le monde diplomatique,8aout2006

19)) محمد  صادق الحسيني،دفاعا عن فلسطين...والزمن الجديد،جريدة الشرق الأوسط السنة 8/4/2001

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 5 آذار/2007 -15/صفر/1428