الآفاق التلمذية ما بعد الدراسية ووظيفية المدرسة

 د. شهاب اليحياوي: تونس 

  لقد ظلّ الجدل القائم حول المدرسة يتراوح بين خطّي المحافظة والتجديد في ما يتّصل بصلتها بالمجتمع. ينطوي كلّ قطب جدلي على تباين إتّجاه التأثير بين المدرسة والمجتمع. فبينما ينتصر دوركايم للوظيفة المحافظة للمدرسة على إعتبار انّها أداة المجتمع إعادة إنتاج وتثبيت نظامه الإجتماعي عبر التنشئة: أي تكييف التلميذ مع البيئة الإجتماعية. فهو بذلك << ينشىء صلة بين الأخلاق مأخوذة في قوّة دمج إجتماعي والتربية ليبرهن على الوظيفة الإجتماعية المنوطة بالمربي>> (1). الذي يتمتّع بسلطة أخلاقية تفوقه شخصيا. إنّه << وسيلتها دون أن يكون صانعها>> (2). تتّجه التيارات الماركسية الى توصيف الفعل التربوي إنطلاقا من خارج المدرسة دون الخروج عن كونها أداة للمجتمع.

       يرى ألتوسار althusser  أنّ النظام المدرسي هو أحد الأجهزة الإيديولوجية للدولة الذي يؤمّن إستنساخ روابط الإنتاج عبر خلق نموذج تقسيم مستويات التكوين مطابق لنموذج تقسيم العمل السائد في مجتمع معيّن، ضمن حقبة تاريخية محدّدة، على أنّ وسيلة المدرسة في صياغة هذا التماهي هي الإكراه الثقافي الذي لا يعنى العنف مثلما الظاهر، بل إخضاع كلّ مكونات وعناصر العملية التعليمية الى الإيديولوجيا السائدة بعبارة ألتوسير أو المحافظة على النفوذ الثقافي للمهيمن ماديّا أو طبقيا بعبارة باسرون وبورديو. يصبح معه الفعل التربوي الذي أداته اللغة وعونه الدرّس" ممثّل الثقافة المؤسسية أو هو عامل الإصطفاء الثقافي"(3) علم لفرض الثقافة الشرعية أو تكريسها.

       تشكّل هذه الثقاافة الشرعية أو ما يمكن تسميتها بالأنموذج الثقافي،  في توجّه بورديو، غاية المجهود التربوي. فالعلاقة التربوية هي فعل رسم للعلاقة الإجتماعية: معنى ذلك أنّ اللامساواة في التحصيل الدراسي بين التلاميذ ليست نتاج نهائي لفعل المساواة في الظروف والوضعيات، الذي يشكّل مضمون الفعل التربوي، بفعل الفروق الطبيعية في الذكاء والإستعدادات، كما في المقاربة البسيكوـ تربوية. فاللامساواة لا تولّدها المدرسة " بسبب تحيّز حتّى ولو كان لاشعوريا " (4)، لدى سنيدرز. فهي أداة لإعادة إنتاج اللامساواة الإجتماعية.

      تتّخذ تباينات التحصيل الدراسي بالنظر الى قطبي النجاح والإخفاق معنى الإنتقائية التي هي إوالية المدرسة أو الفعل التربوي لدى بورديو وباسرون، إذغ كان التطابق هو صفة العلاقة بين المدرسة والمجتمع الطبقي لديهما. لكن ريمون بودون يحيل ذلك، ضمن نقده لغائية تفكير بورديو، الى تباينات مستوى العائلة الإجتماعي ـ الثقافي، في صلة جدلية بمستواها الإجتماعي ـ الإقتصادي(5). فالوضعية السوسيو ـ ثقافية للأسرة يفرز آليات عدم تكافؤ فرص التعليم للطفل. إنّ التحليل العاملي الذي يبحث عبر تمشّي نظري عام عن العمل المؤثّر وإكتشاق آليات الإستقطاب ضمن العلاقة بين المجتمع والمدرسة زالذي تصبح معه متعدّد الظواهر المعطاة للتحليل تمظهرات لها ولإتّجاهها التحديدي.

      فالمقاربة التي تبدو اليوم أكثر من ملحّة للفشل المدرسي وأسبابه أو صلة التحصيل المدرسي بتمثّل التلاميذ لصورتهم المستقبلية ضمن المجتمع، تستدعي تجاوز الماكرو ـ تحليلية الى التناول الميكرو ـ تحليلي لمثل هذه الظواهر، لقياس مردودية النظام التربوي أو مدى تأثيريته أو تأثّره بما هو خارج عنه. فمثل هذه التناولات المبحثية تمتلك القدرة على خلق إجابات علمية لمشكلات الهوّة الحاصلة بين الأنموذج الثقافي الذي يتضمّنه ويروّج له النظام التربوي بمتعدّد تمظهراته المعرفية والسلوكية والوجدانية والعقائدية، والأنموذج المغاير أو الموازي كما ينكشف عبر دراسة تمثّلات وتصوّرات وأهداف التلاميذ وصورتهم حول ذواتهم وآفاقه المحدّدة في أهدافهم المعلنة.     

     نحتاج دائما، حين نتطلّع الى الفهم الدقيق والعلمي، أن لا نقرأ بل نستقرأ الظاهرة. وإستقراء الظواهر يقتضي أوّلا أن نتخلّص من بديهياتنا العامة التي نشترك فيها معا غير الباحث وأن ننقطع عن أخضاعها الى نمط فكري جاهز.   يحاول البحث هذا تعقّل الظواهر المشار لها في علاقة بمتغيرات الجنس والمستوى الثقافي والإجتماعي للعائلة ولكن أيضا عبر تمثّلات التلاميذ للمدرسة ولذواتهم ولصورتهم ومواقعهم المستقبلية ضمن المجتمع، عبر مؤشّر أسميناه بالتطلّع السياسي أو فعل المشاركة السياسي مستقبلا: أي درجة المواطنة المستقرأ من إجاباتهم. بما أنّ التربية، مهما كان التموقع النظري للبحث، تؤخذ كأداة تكيّف الفرد مع حياة الجماعة، عبر دفع المتعلّمين الى إستبطان معيير وقيم ونماذج المشروع التربوي الذي تشتغل عبره وله المؤسسة المدرسية. معنى ذلك أنّ المدرسة هي حقل تشكّل الذات في قطيعة مع المجتمع في الإتّجاه المعاكس للعلاقة. وهو ما لا نؤمن به ضمن منطلقاتنا البراديقمية، فما يسميه هاملين " بالضرر الثابت " (6) للمؤسّسة المدرسية لعجزها، على حدّ قوله، عن تحصيل غاياتها المبرمجة لها، هو نتاج تضافر عاملي متعدّد الصلات بما هو عام يحيل الى المجتمع بأكمله وبما هو خاص يتّصل بالمؤسّسة المدرسية في حدّ ذاتها. ذلك أنّ التناول أحادي إتجاه التأثير ضمن العلاقة بين المدرسة والمجتمع، لدى بورديو وباسرون مثلما المقاربة المؤسسية للنظام التربوي يستبعد ما نسميه بتبادلية التأثير والتأثّر بين المدرسة والمحيط المجتمعي الذي ينفذ اليها عبر لا المتعلّم فحسب بل أيضا المعلّم مهما كانت مدى عونيته التي يستمدّها من إنضباطه للتحديدات الرسمية أو تعليمات المشرفين على سير وإنجاح أهداف المشروع التربوي.  

         فإذا كانت المدرسة تدفع بما لها من آليات نحو إنجاز المشروع المجتمعي أو بمعنى ابسط هي حقل إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع. فهي المجال أيضا الذي يمارس ضمنه الغير محظوظين إجتماعيا مقاومتهم من أجل التغيير الغائي والنفعي.  فالمدرسة وفق هذه الرؤيا هي حقل الفعل في النموذج أيضا، لكونها تتأثّر بأشكال الرفض والمقاومة التي تبديها الأطراف الغير مهيمنة خارجها، إذا أردنا أن نعارض التوجّه الأداتي في تعقّل وفهم طبيعة وظيفة المدرسة. هذا التوجّه لا يجب أن نأخذه في شكله الثابت والنهائي. قد يستمرّ الدور أو تتواصل الصلة بين المدرسة والمجتمع في إتّجاه تحديدي ما. لكنّ اللتغيّر وإن كان غير بنيوي فإنّه حاصل في هذا الدور.

         نحتاج الى أن نختبر ونقيس مستويات وأبعاد التبدّلات الجزئية الحاصلة في صلةالمدرّس بذاته ونظرته لمكانته ودوره ونظرة المتعلّم والمجتمع والمشروع النموذجي له، مثلما تتأكّد اليوم الضرورة الملحّة لتبيّن التغيّرات الحاصلة في مستوى تأثيرية المشروع التربوي في تشكّل أنموذج الإنسان الذي تروّج له وتوظّف تبعا لذلك متعدّد الوسائط المادية والإجتماعية والعقائدية والرمزية لترسيخه. تتّخذ هذه التغيّرات تمظهرات عديدة على أصعدة مختلفة. من الضروري تمثّلها عبر مثل هذه البحوث السوسيوـ تربوية التي قد تحمل إجابات عن عديد الظواهر التي تكبح سيرورة تحقّق المشروع التربوي ومن خلفه المجتمعي، كظواهر اللامساواة أو التفاوت في التحصيل الدراسي وعوامله ومسألة الإخفاق الدراسي وأسبابه.

      تتضافر عوامل عديدة لتصنع التفاوت الذي يأتي كنتاج غير مبرمج أو غير مطابق لديموقراطية التعليم. لمذا تخلّف المساواة المتأسّسة على واحدية المقاييس والمعاييروالبرامج على الأصعدة الفردية والجماعية وأيضا الجغرافية، هذه اللامساواة. لقد ظلّ هذاالإشكال الإجرائي مصدر كلّ التعديلات والمشاريع الإصلاحية المتعاقبة. سعت وتسعى هذه التعديلات الى خلق آليات إمتصاص سعة التفاوت في التحصيل، معتبرة أن تعديل إتّجاه الفعل التعليمي نحو القدرات المتوسّطة أو دونها وبالتالي مراجعة المعايير ومقاييس التقييم الجزائي، كفيل بتقليص هوّة التفاوت. تلتقي مثل هذه الحلول مع المقاربة المؤسسية للمدرسة التي تتعقّل النظام التربوي أو الفعل التربوي في قطيعة مع المحيط أي المجتمع. إنّ تساوي الظروف لا يعني أبدا تعادل الحاصل. وبالتالي فإنّ الحلّ لا يستقيم ابدا مع النظرة الجزئية والضيّقة للمدرسة. فالتغيّر في المدرسة هو تمظهر للتغيّر المجتمعي. من هنا يستدعي المشروع التربوي الرؤية السوسيوـ تربوية للعلاقة القائمة بين المدرسة والمحيط المجتمعي الذي تتداخل معه، لوضع الآليات العلمية للتحكّم في المعادة المذكورة آنفا.

      يحصل تمثّل مستويات وابعاد هذه العلاقة عبر مؤشّرات عديدة، لعلّ أبرزها وضع الصلة بين التحصيل الدراسي وتصورات المتعلّم للمدرسة وتمثّلاته المستقبلية لذاته المجتمعية ومواقفه، موضع إختبار سوسيو ـ تربوي لفهم وتعقّل طبيعة العلاقة التي يقيمها المتعلّم الذي هو محور وغاية العملية التربوية، بين التحصيل الدراسي وذاتيته التي لا يجوز تصوّر خضوعها التام الى تحديدات الفعل التربوي. تشكّل نتائج البحث هنا مرحلة منهجية توظّف لخلق مقارنة بين أنموذج الإنسان الذي يهدف له المشروع التربوي والأنموذج المبني إستنتاجا من تصورات ومفاهيم وتمثّلات المتعلّمين. تسمح هذه المقارنة بقياس مردودية النظام التربوي ومدى صحّة أو خطأ التمشيات التربوية والبيداغوجية المعتمدة. لذلك نعتفد بقوّة في جدوى هذا البحث ومنطلقاته النظرية والبراديقمية.

- 1 التطلّع للعمل السياسي والطموح الدراسي لدى الشباب التلمذي 

      يحمل قرابة ثلث شبّان العينة تصوّرا يموضع الفعل السياسي في تعارض مع الطموح الدراسي. فهل يحيل هذا التعقّل الى مقاربة العمل السياسي كوسيلة بديلة للنجاح الإجتماعي في غياب النجاح الدراسي أم أنّه يمظهر قناعة فكرية قد تكون منقولة شفويا أو عن تجربة غير شخصية ـ بأنّ حضور الواحد يلغي الآخر. بمعنى أنّ النجاح الإجتماعي المستند الى قناة أو وسيلة العمل السياسي يحتّم لا الفشل بل إفشال مسيرة التحصيل التعليمي، أم أنه يكشف حكما قيميا يعتبر أنّ  النشاط السياسي لا يقتضي مستويات أرفع من الشهائد التعليمية.

       يضعنا متغيّر الطموح التعليمي، إذا إختبرنا مستوى عامليته في توجيه موقف الشباب التلمذي من الإنخراط السياسي في مجتمعه، أمام عدم صحّة الفرضيات السابقة، على إعتبار أنّ 70% من الذين يحملون رغبة في أن يصبح لهم نشاطا سياسيا في المستقبل يضعون الأستاذية كحدّ أدنى للتحصيل الدراسي، أربعون بالمائة منهم يتطلّعون للحصول على شهادة الدكتوراه. وهي نفس النتيجة تقريبا التي وجدناها لدى فئة الرافضين لأن يكون لهم مستقبل سياسي، مع إختلاف يتّصل بنسبة المتطلّعين لبلوغ أقصى درجات التحصيل الدراسي، حيث تبلغ لدى هؤلاء قرابة 54% في مقابل 40% لدى الفئة الأولى.         

      لا يشكّل متغيّر الجنس عاملا مؤثّرا في تباين تمثّلات الشباب التلمذي للفعل السياسي ــ  كمؤشّر على الآفاق ما بعد الدراسية للشباب التلمذي ـ والموقف منه بإعتبار تطابق الخط الهرمي للموقف بالنظر الى الطموح الدراسي. حيث أنّ الموقف الرافض يزداد بنسبة بسيطة بين شهادة ختم التعليم الثانوي وشهادة الأستاذية. إلاّ أنّنا نسجّل تراجعا يصل الى حدود 25% في الموقف الرافض، اذا تعلّق الطموح الدراسي للذكور مثلما الإناث ببلوغ أقصى درجات التحصيل الدراسي (دكتوراه).

                                                       الرسم البياني رقم:1  

                          

          نقف عند تماثل موقفي من العمل السياسي في الوسط التلمذي بين الذكور (كما في الرسم البياني: الطموح الدراسي والتطلّع للنشاط السياسي لدى الذكور’) والإناث. فالسائد يتّصل بنفي التطلّع للإنخراط في الحياة السياسية للبلاد عند بلوغ سنّ المواطنة. إلاّ أنّ ما يستدعي الإنتباه يتعلّق بنسبة الرفض التي تصل حدود الثلاثة أرباع الذكور وما يعادل ثلثي الإناث.    (أنظر الرسم البياني الموالي: عدد:2).

                                                      الرسم البياني رقم:2

                       

        على أنّ الإناث أظهرنا ميلا أكثر لفعل المشاركة *السياسي *ممّا هو لدى الذكور. نردّ ذلك إفتراضا الى أنّ الإناث من التلاميذ أكثر قابلية للتأثّر بالتكوين السياسي الحاصل عبر مادة التربية المدنية كمادة سياسية (نعتمدهــا هنا كمؤشّر على تأثيــر التعليم على تشكّل مواقـف التلاميذ المجتمعــية). لكنّ السؤال الذي يطرح هنا: هو من من الإناث اكثر تعلّقا بهذا الفعل المؤشّر على الآفاق ما بعد الدراسية ؟ ننطلق في تبيّن تأثيرية هذا المعطى الإضافي في البحث من فرضية: أنّ أكثر الإناث صلة بالتطلّع السياسي المستقبلي هنّ أقلّهنّ تعلّقا بالنجاح الدراسي. يظهر الرسم البياني التالي لنتائج سبر آراء الإناث أنّ اكثر الإناث تطلّعا للعمل السياسي المستقبلي هنّ أكثرهنّ طموحا دراسيا.   

                                                    الرسم البياني رقم:3

               

معنى ذلك أنّ الإناث يقمن علاقة إرتباطية وثيقة بين النجاح الدراسي والنجاح الإجتماعي، على عكس الذكور. واذا نظرنا الى الرافضين منهنّ نجد صلة عكسية. فكلّما تدرّجنا في خطّ الطموح الدراسي نزولا كلّما صعدنا في خطّ الرفض للعمل السياسي المستقبلي لديهنّ. الاّ أنّ القراءة المنفصلة لقطبي القبول والرفض تحمل مغالطة يحصل تصحيهها عبر الجمع بينهما. ذلك أنّ النتائج تثبت أنّ الإناث يبدين رفضا للعمل السياسي المستقبلي في كل مستويات الطموح الدراسي. إلاّ أنّ نسبة القبول له تتزايد مع كلّ صعود في درجات الطموح الدراسي وتتقلّص في المقابل نسب الرفض له.

      يمكن استنتاجا أن نلخّص النتيجة كما يلي: كلّما تعاظم طموح البنت الدراسي تزايد معه درجة وعيها بصفة المواطنة لديها مستقبلا بإعتبار تراجع مستوى الرفض مع كلّ تدرّج نحو أعلى مستويات الطموح الدراسي، رغم أنّ الصفة الغالبة هي رفضهنّ أو عدم تحمّسهنّ للإنخراط المستقبلي في الحياة الإجتماعية والسياسية لبلادهنّ. هل يتّصل هذا بنظام أولويات يضع النجاح الإجتماعي في درجة أقلّ من النجاح الدراسي، او هو إعتبار النجاح الدراسي شرط مبدئي للتفكير في صفة المواطنة. ما هي العوامل التي خلقت لديهنّ هذا الترتيب التفاضلي ؟ وهل يعبّر ذلك عن موقف عقلاني ؟ أم أنّ لعوامل أخرى تأثير في هذا التمثّل لصلة مستويي النجاح ؟ استدعينا، في سياق التحليل متعدّد الأبعاد الذي يؤمن به البحث وينطلق منه، عدّة متغيّرات لنختبر مدى تأثيريتها في علاقة مبحثية ببعضها البعض. نحاول أن نتبين الآن متغير التوجيه القيمي والعقائدي والنفسي للمضامين التعليمية ومدى تدخّلها في صياغة تصوّرات وتمثّلات المتعلمين لصورتهم المجتمعية المستقبلية.  

2 ـ تأثير التعليم في تشكّل مواقف المتعلّم غير الدراسية

           إنّ إعتماد المدرسة على معايير كميّة (معدّلات، درجات، مستويات ونسب قبول......)  ومعايير كيفية  (مناهج ومعارف متّصلة بكلّ مستوى تعليمي...). ضمن نظام التفريع أو الإنتقاء الذي يشكّل آلية المدرسة اليومية لتثبيت النظام التربوي، يرتقي الى مستوى العامل التفسيري لضعف تأثيرية الفعل التربوي القيمية والعقائدية. فالتصوّر الرسمي والسائد لدى متعدّد أطراف العملية التربوية ومحيط المدرسة يغلّب المعايير الكمية. فأن يصبح التقييم الكمّي طاغ وموضوع إتّفاق جمعي على أنّه لا عنوان أو دليل على درجة إندماج وإستيعاب أو إستجابة المتعلّم للمبرمج والرسمي في متعدّد تمظهراته المعرفية والمنهجية والسلوكية والعقائدية، بل وسيلة أو أداة، فذلك يدعو الى مراجعة تصوّر النظام التربوي وإعادة التساؤل حول تأثيرية الفعل التربوي في الآفاق المستقبلية للمتعلّمين التي هي إحدى مبحثيات هذه الدراسة السوسيوـ تربوية.       

       يخفي الإتّفاق الوضح تباينا مخفيّا أو هو خاف. فأن تكون المعايير الكمية أداة لدى المتعلّم مثلما المعلّم ليس معناه انّ المضمون أو الهدف المعلن والموظّفة من أجله هذه الأداة، هو ذاته لدى قطبي الفعل التعليمي. فالمعايير الكمية أداة تقييم ذاتية ومعرفية لدى المدرّس، فهي من ناحية وسيلته لقياس نجاحه في التبليغ وأداة تقييم مدى إستجابة المتعلّم وإستيعابه للمضامين المعرفية عبر تمشّي بيداغوجي معيّن. يعني أنّ التقييم هنا ليس في المطلق بل هو تقييم بالنظر الى معطى ما. وهو ما يجب أن تنتبه له أيّ دراسة تقييمية لمردودية المدرسة أو لمردودية المدرّس. فالقدرة التبليغية للمعلّم تتأثّر بالتمشيّات البيداغوجية أوّلا وبمدى قبوله لها أو موقفه منها مثلما بمدى مشاركته في صياغتها وبلورتها. أمّا المتعلّم فالمعايير الكمية لديه هي غاية في حدّ ذاتها في نفس الوقت الذي لا تعنيه المعايير الكيفية في شيء. لذلك نجد أنّ كلّ الوسائل تبدو شرعية لديه لتحصيل أقصى الدرجات.

       فالحرص المعتمد من المدرّس على التقييم الدقيق المطابق لرؤية ذاتية لوظيفته وللمنتظر والمطلوب من المتعلّم، يقابله تمثّل، لدى المتعلّم، يفرغ العدد من بعده التقييمي والمرجعي في الفعل التربوي بإعتباره يفصل بين المعرفة والجزاء العددي. فهو يضع خطوط سير الجزاء والمعرفة في إتّجاهين غير نتلازمين. فما يتلازم لدى المدرّس لا يتلازم لدى محور العملية التعليمية. ينعكس هذا التعارض الفهمي للمعايير الكمية مثلما الكيفية، في المواقف منها. فبينما هي عند المدرّس * الذي يعطيه المجتمع الحقّ والواجب بأن يتوقّع من التلاميذ نتائج وأن يكافئهم عليها بالدرجات والشهائد * (7)، أداة إصطفاء أو إنتقاء ذات مضمون ديمقراطي لكونها تساوي مقاييس التقييم لنفس المعرفة المعطاة، فهي عند المتعلّم أداة ولكن للإقصاء ذات مضمون عقابي لا جزائي أو تقييمي.

      اننا أمام وضعية تباين تبدو شديدة الإتساع، ليست هي أحكام تخمينية أو مسقطة على الوضعية التربوية، بقدر ما هي نتائج بحوث سوسيوـ تربوية، ننطلق منها بصيغة فرضية لتعقّل وجود هذا التباين ومدى تأثيريته على المواقف التلمذية خارج الدراسية أو صورة وموقع المتعلّمين، موضوع الدراسة، المجتمعية.

      يقتضي إختبار مدى صمود هذه الفرضية إستدعاء متغيّر موقف الشباب التلمذي من علاقة مادة التربية المدنية بتشكّل الموقف من فعل المشاركة السياسي كما إصطلحنا عليه آنفا، على إعتبار أنّ التربية المدنية تثير موضوعات سياسية ومدنية تتّصل بخصائص الحكم الديمقراطي وعلاقته بالتنمية والتقدّم وتطرح نموذج الإنسان المدني الواعي بقضايا مجتمعـه والعارف بحقوقه وواجباته والذي يحمل إستعدادا للإنخراط والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والإجتماعية لبلاده.

       فالتربية المدنية بما تطرحه من موضوعات هي تربية على الديمقــراطية والتمــدّن ونقــد أشكال التخلّف وأسبابه السياسيـــة والإقتصادية والإجتماعية والثقافية المتّصلة بالشخصية القاعــدية أي السماة الثقافــية المشتركة بين عناصر المجتمـع والـتي تتكّيف معها سلوكات وأساليب تفكير الأفراد وتصرفاتها ونظرتها للعالم وللذات ومتعدّد تمثّلاتها (8).

       يحصل تعريف التعلّم بأنّه ترتيب إمكانات التعزيز التي تؤدي اللى تغيير السلوك (9). فالفعل التعليمي هو فعل توجهي في جوهره، لأنّ المتعلّم لا يحدّد إختياراته ذاتيا بقدر ما تفرض عليه. ويرى ميرتون  أنّ المتعلّمين يضبطون طموحاتهم بالرجوع الى الجماعات الإجتماعية التي ينتسبون لها (10) هل معنى ذلك أنّ المدرسة أو إجرائيّا الفعل التعليمي الذي يحمل مشروعا للأنسان الراشد الذي يتّجه، عبر متعدّد البرامج والمواد الدراسية،الى تكمينه في تصوّرات وسلوكات المتعلّمين ومنه في مواقفهم المجتمعية من أدوارهم المنتظرة أو المتوقّعة منهم أو المنتظرة من قبلهم بالنظر الى التأثيرات التي يتلقّونها منة الجماعات الإجتماعية المرجعية. تلك هي الإشكالية التي يعالجها موضوع البحث عبر إستجلاء الصلة التوجيهية للتعليم أو الفعل التعليمي باللآفاق المابعد دراسية المستقرأة ممّا يصرّح به المستجوبين من مواقف تجاه فعل المشاركة السياسي أو درجة الإستجابة لصفة المواطنة مستقبلا.

      تضعنا هذه الإشكالية أمام قطبي الفعل التوجيهي في السلوك والتصوّر لدى المتعلّم وهما المدرسة والمجتمع، فإذا أخذنا بالتوجّه الباسروني المتمثّل للمؤسسة التربوية كجهاز إيديولوجي يشرعن السيطرة ويستنسخ النظام الإجتماعي القائم وبالتالي يعبّر عن الثقافة المسيطرة، فإنّنا ننفي عنها صفة العقلانية والدمقرطة التي تدّعيها منذ إنفصالها الأوّل عن الطابع الديني والصفة النخبوية المتّصلة بتكوين القيادات الدينية والسياسية من النخب الحاكمة. ةإذا إنتصرنا لتوجّه ريمون بودون أو مورتون لبقائل بضرورة إستدعاء العامل الثقافي والمكانة الإجتماعية للعائلة في فهم توجّهات وإنتظارات وتطلّعات المتعلّمين الدراسية أو الغير مدرسية، فإنّنا نقوّض عضوية الوظيفة المجتمعية للمدرسة بمفهومها المستجيب والمستبطن لمفاهيم وقيم وتصوّرات المهيمن إجتماعيا في مرحلة تاريخية معيّنة. من هنا يصبح تناول الفعل التوجيهي أو تتبّع إصعدة تدخّل الفعل التعليمي في تشكّل مواقف المتعلّمين من المضمون القيمي والمعاييري للبرامج والمواد التعليمية (التربية المدنية كوحدة قياس)، متغيّرا لفهم وقياس مدى الإرتباط بين تأثير العائلة وصورة المتعلّمين لذواتهم المستقبلية، إجتماعيّا. هل يلعب الفعل التعليمي دورا في مراجعة أو خلق التباعد بين المتوقّع في إرتباط بالتأثيرية المفترضة للعائلة ونظرة المتعلّمين لذواتهم المستقبلية.     

      إنّ مادة التربية المدنية بماهي كذلك تستدعي إعتبارها ذات صلة تفسيرية بتشكّل موقف الشباب التلمذي من فعل المشاركة ـالسياسي ـ وقد إعتمدناها كمؤشّر لقياس حجم تأثير التعليم في تشكّل مواقف التلميذ من محيطه المجتمعي، في ذات الوقت الذي هي فيه أداة بناء الإنسان المواطن وفق تصوّر وفلسفة رسمية. وهي بهذا المنحى تستحيل أداة لقياس حقل تطلّعات وإهتمامات الشباب التلمذي المستقبلية.

       يمكن القول إستنادا لمقاربة فعل المشاركة السياسية بالنظر الى الموقف من درجة تحفيز مادة التربية المدنية على تبنّي أو الإنخراط في الحياة السياسية مستقبلا، أنّ مستوى تأثير المادة في تشكّل موقف الذكور المتطلّعين للعمل السياسي في المستقبل أكبر ممّا هو لدى الإناث،(كما يتّضح في الرسم البياني التالي)، ذلك انّنا نجد أنّ 80% من الذكور المتطلّعين للعمل السياسي يعتبرون أنّ التربية المدنية محفّزة. معنى ذلك أنّ الموقف الإيجابي للذكور يستمدّ جزءا أكبر من تشكّله من تأثّرهم بالمضامين المثالية لمناخ سياسي ديمقراطي تروّج له المادة عبر برامجها.

       إنّ ما يدعّم ويؤكّد صحّة هذا الإستنتاج هو أنّ أكثر من ثلثي الذكور الرافضين لأن يكون لهم دورا أو نشاط سياسي مستقبلا يعتبرون المادة غير محفّزة. لا يجب فهم هذه النتيجة على أنّها موقف سلبي من المادّة بقدرماهي تبريرية لسلبية الموقف ممّا أسميناه بفعل المشاركة السياسي.

                                                           الرسم البياني رقم:4

                                   

هناك شيء ما يلعب دور الكابح أو العازل الذي يصنع الفجوة بين التأثيرية المفترضة للمادة على السلوك والتصوّر المستقبلي لدى التلميذ لمجتمعه ولذاته ولعلاقته به، لا يسمح، لا  موضوع البحث ولا تقنياته، بإثارته أو طرح فرضيات حوله. ولعلّ أهمية هذا البحث تكمن في إيحائاته العديدة الى جملة من الفرضيات التي قد تصاغ عبره ويحصل إعتمادها كفرضيات إنطلاق لبحوث أعمق في السياق ذاته.

       يكشف إستدعاء متغيّر الجنس في مقاربة تباين المواقف على صورة معاكسة لدى الإناث. فبينما تتوافق إيجابية الموقف من فعل المشاركة السياسي مع إعتبار المادّة محفّزة، يتّجه المتغيرين عكسيا، فمعظم الإناث ممن يتطلّعون للعمل السياسي مستقبلا لا يعتبرون المادّة محفّزة. هل تكشف هذه النتيجة ضمن تأويل أعمق عن حقيقة أنّ الذكور أكثر قابلية أو إستعداد لإستبطان تأثيرات المضامين التعليمية، السلوكية والعقائدية والنفسية، التي تمرّرها عبر متعدّد برامج التدريس، ممّا هو عليه لدى الإناث. إذا سلّمنا بمشروعية هذا الحكم الإستنتاجي للمقاربة الكمية، فإنّ ذلك يطرح ضرورة ملحّة لتبيّن مدى صحّتها لغاية الوقوف على مستويات ودرجات تباين القابلية للتأثّر بين الجنسين وبالتالي اسباب وعوامل هذا التغاير. لانحتاج دائما الى الوصول الى نتائج قابلة للتعميم بقدر ما نحتاج ان نطوّر نتائج مثل هذه البحوث والدراسات لتعميق الفهم.

       قد يجد إعتبار أنّ الذكور أقرب لإستيعاب الأنموذج الرسمي (كما عرّفناه في المقدّمة النظرية)  من الإناث تفسيره في تقارب نسب التحفيز وعدم التحفيز كموقف من مادة التربية المدنية لدى المتطلّعات من التلميذات الى الفعل السياسي في المستقبل (كما يتّضح من قراءة الرسم البياني التالي) 

                                                           الرسم البياني رقم:4

           

 هل معنى ذلك أنّ الموقف الأنثوي من الفعل السياسي في الوسط التلمذي أو ما يمكن تسميته بمعنى أشمل درجة التعلّق بصفة المواطنة، هو موقف عقلاني، بإعتباره فعلا موجّها نحو غاية تبرّر التموقع بالنظر الى معطى موضوع الإختبار. ذلك أنّ الفاصل الذي يصنعه التلميذ بالنظر الى سلوك المواطنة يستدعي تعقّله تمثّل صورته لذاته المستقبلية التي يوظّف كلّ أفعاله وسلوكاته وتصرّفاته ومواقفه من أجل خلق أرضية تحقّقها. وبالتالي تجد سلوكاته وأفعاله تفسيرها وعقلانيتها من حيث كونها موجّهة نحو هدف ما.

      إعتمدنا كمؤشّر على عقلانية السلوك هنا، التطلّع الدراسي أي المرحلة النهائية للنجاح الدراسي التي يحدّدها التلميذ لنفسه، كما تمّ تناوله في الفقرات السابقة.  بمعنى أنّ درجة التحمّس للأخذ بالإنخراط في الحياة السياسية لمجتمعه تتبرّرها طموحاته الدراسية ونظرته الذاتية للنجاح الإجتماعي في علاقة بالمدرسة والفعل المجتمعي. فالآفاق ما بعد الدراسية تحتمل تأثيرات التصوّرات الذاتية في صلة بالجماعة المرجعية التي هي العائلة،للمدرسة والنجاح المدرسي والترتيب التفاضلي الذي يقيمه المتعلّمين لهذه الوسائل المتاحة للنجاح الإجتماعي الذي هو الهدف العام. فتأثير التعليم أو المدرسة بصفة عامة في تشكّل وتغاير المواقف التلمذية من الحياة العامة أو المجتمعية المستقبلية التي أسميناها بالتطلّع للنشاط السياسي المستقبلي كمؤشّر على الآفاق ما بعد الدراسية في الوسط التلمذي، تتوسّطه قواليب فكرية وتصوّرات وتمثّلات مرجعية ذات أصل إجتماعي يرتبط بالمكانة الإجتماعية للعائلة والعامل الثقافي(11). ينسحب تأثيرها لا على مفهوم النجاح المدرسي فحسب بل يتجاوزه الى ما ينتج عنه من تصورات لذواتهم الإجتماعية ومكاناتهم المجتمعية المستقبلية. ذلك أن هذه القولب، كما بينّنا في دراسة سابقة حول عوامل اللامساواة في النتائج الدراسية (12)، تشتغل كمخطّطات توجيهية للسلوك التربوي للمتعلّمين وتفاعلهم مع الوسط التربوي ضمن العلاقة التربوية، مثلما على مواقفهم ونظرتهم التقييمية والتعييريّة للمواد التعليمية.

3 ـ الآفاق التلمذية والمرجعية الأسرية:

     لا يتّجه البحث هنا الى مقاربة تأثيرية العامل الثقافي أو العامل الإقتصادي ـ الإجتماعي في تكوّن المواقف المجتمعية المستقبلية للمتعلّمين، بل يهدف الى تبيّن ما يمكن أن يمارسه حضور أو غياب الإنخراط السياسي للآباء (الذكور والإناث) في مجتمعهم من تأثير على سلوكيات وتصورات ومواقف الأبناء من الجنسين من هذا المستوى أو الصعيد الإندماجي في المجتمع أو المحيط المجتمعي.

     إنّ أوّل ما ننتبه له هو انّ عدم ممارسة الآباء والأمّهات لأيّ نشاط سياسي يمارس تأثيرا أعمق على أهداف أبنائهم ما بعد الدراسية، أكثر من التأثير الإيجابي لفعل الممارسة. يلتقي الذكور والإناث من أبناء الأولياء الغير ممارسين لنشاط سياسي، في رفض أن يكون النشاط السياسي منفذا للإنخراط في الحياة الإجتماعية مستقبلا بنسبة تتراوح بين 60 % و 78 %.                                                  

                                                         الرسم البياني رقم:5

                                         

 يمارس الأب توجيها كليّا لموقف أبنائه الذكور مثلما الإناث اذا تعلّق الأمر بالناحية الإيجابية. بمعنى أنّه إذا كان الأب يمارس نشاطا سياسيا فإنّه يشكّل نموذجا مثاليّا يتّجه الأبناء من الجنسين الى التماهي معه. وهو ما يفسّره تعبير كليّة العينة،المتّصلة بهذا المتغيّر التفسيري، عن موقف إيجابي من الفعل السياسي مأخوذ دائما كمؤشّر على درجة التعلّق بصفة المواطنة. حيث نجد أنّ كلّ الذكور المستجوبين الذين عبّروا عن رغبتهم أو تطلّعهم الى أن يكون لهم دور في الحياة السياسية مستقبلا، يعود ذلك الى ممارسة آبائهم الحضرة لهذا الفعل. فالحاضر المعاش عمليا شكّل إذا نموذجا لمستقبل معاش ذهنيا. يمكن تقديم النتيجة بشكل آخر، وهو أنّ كلّ أبناء الآباء الممارسين لهذا الفعل الإندماجي يطمحون الى ممارسته (الرسم البياني رقم: 5 و6).

      يقلّ تأثير الأبّ أو مدى حضوره كنموذج أو كمرجعية في تكوّن وتشكّل الآفاق ما بعد الدراسية، إذا إنتقلنا من الذكور الى الإناث من الأبناء. فذلك لأنّ نصف الأبناء الإناث فقط يطمحون الى التماهي مع صورة الأب الإجتماعية  والنصف الآخر عبّر عن رفضه لهذا الفعل.                                               

                                                            الرسم البياني رقم:6

   

 فإذا كان الأب ينجح في أن يمثّل نموذجا مستقبليا لنصف بناته فقط، فإنّ الأم لا تنجح مطلقا في أن تكون كذلك لأبنائها الإناث، في مقابل نجاحها المطلق في ذلك إذا إنتقلنا الى أبنائها الذكور. ذلك أنّ كلّ بنات الأمّهات اللواتي يمارسن نشاطا سياسيا عبّروا عن رفضهم الكلّي لهذا السلوك.(الرسم البياني رقم: 7).                           

                                                         الرسم البياني رقم:7

      

        يمكن القول إذا أنّ الأب أكثر تدخّلا في تصوّرات أبنائه لذواتهم المجتمعية المستقبلية من الأمّ. ويتجّه فعله التأثيري للذكور من أبنائه أكثر منه للإناث. أمّا الأمّ فيفرز سلوكها نموذجين متعارضين كليّا بالنظر الى متغيّر الجنس. فهي تخلق نموذجا مغايرا كليا لها لدى تصوّر البنات من أبنائها لذواتهم المجتمعية المستقبلية، في نفس الوقت الذي تكون فيه نموذجا مثاليّا للذكور من أبنائها، حيث أنّ الأبناء الذكور للأمّهات الممارسات لنشاط سياسي عبّروا  بنسبة 100 % عن نيّتهم المستقبلية للتماهي مع نموذج الأمّ.

                                                            الرسم البياني رقم:8

               

     إذا تحولّنا الى الموقف السلبي للآباء من العمل السياسي، نقف على إلتقاء كلى الجنسين في التأثّر الحتمي بسلبية موقف الاباء سواءا الأمّهات أو الآباء. فإذا كان الأب أو الأمّ لا يمارسان نشاطا سياسيا فإنّ الذكور مثلما الإناث من أبنائهم يتأثّرون بذلك وينكس التأثير في سلبية الموقف من هذا السلوك المدني. ويكون تأثير الأب السلبي أكبر أيضا على الذكور منه على الإناث من الأبناء، بإعتبار تراجع نسبة رفض الأبناء للعمل السياسي مستقبلا إذا إنتقلنا من الذكور الى الإناث. وتتكرّر العلاقة السببية في وجهها السلبي نفسها مع الأمّ. معنى ذلك أنّ الذكور أكثر تأثّرا بنموذج الأب والأمّ على الصعيد الإيجابي للموقف من العمل السياسي مثلما السلبي. أمّا الإناث فيمظهرن التأثير الإيجابي للأمّ بدرجة أولى ثم الأب بدرجة ثانية ويتأثّرن سلبا بنموذج الأب أكثر من الأم.

خاتمـــــــــــــة

     إذا كانت المدرسة، في مفهومها المتّفق عليه، المجال التكويني للفرد اإجتماعي  أو الإنسان المسقتبلي، فإنّ دراسة الآفاق التلمذية ما بعد الدراسية هو تمثّل وإختبار للوظيفة المعلنة لها. فالفهم السائد  يستحيل في البحث  طرحا فرضيا يتناول إشكالية مبحثية معيّنة. وتثير دراستنا هذه إشكالية العلاقة بين الوظيفة التعليمية والوظيفة السياسية للمدرسة. ونقصد بالوظيفة السياسية الغاية  ما بعد التربوية التي تتجه المدرسة لبلوغها: تصريحيا أو ضمنيّا.

     فدوركايم  يتمثّل المدرسة كمجال إجتماعي لتشكيل الفرد المجتمعي عبر فعل التنشئة الإجتماعية التي تمارسها بواسطة الإكراه المتأتي من سلب الفرد المتعلّم مثلما المعلّم حرية إنتقاء أو رفض المضامين التعليمية وتضميناتها القيمية والمعاييرية  (13). أمّا ألتوسير فالمدرسة هي إحدى تمظهرات توظيف المهيمن إقتصاديا  لمؤسسات المجتمع لإعادة إنتاج التقسيم الإجتماعي للعمل وبالتالي لنمط علاقات الإنتاج القائمة (14). وهي كما لدى بورديو وباسرون الأداة الأيديولوجية لشرعنة التفوّق الإجتماعي عبر أو خلف الديمقراطية والعقلانية المسندة تظليليّا للمدرسة (15).

      تكشف هذه التوجّهات عن الصلة العلائقية بين المجتمع والمدرسة. من هنا تتضّح أهمية وشرعية التناول السوسيولوجي لآفاق المتعلّمين المجتمعية كمؤشّر إجرائي لمقاربة جدلية العلاقة بين المدرسة والمحيط الإجتماعي. تتمظهر تصوّرات ومواقف المتعلّمين، إذا، كحقل تفاعل الذاتي والمجتمعي والمؤسسي (نسبة للمؤسسة التربوية).

      هذا التفاعل أو تبادلية التأثير بين المدرسة والمجتمع تناولناها عبر إختبار تأثيرية متغيّرات المواد التعليمية (التربية المدنية نموذجا) والجماعة المرجع (الأسرة) . وقد إنتهينا الى إستجابة النماذج التصوّرية التي أبداها المستجوبين من الإناث والذكور الى تأثيرات النماذج السلوكية للآباء والأمّهات، بدرجات متباينة بين الجنسين،  أكثر منه لتأثير التعليم. ولقد بيّننا في دراسة سابقة أنّ المواقف من المواد تتغاير هي نفسها بالنظر الى المكانة الإجتماعية وبعدها الثقافي للعائلة (أنظر الباب الأوّل من هذا الكتاب: الفصل الثاني).

     لم يتّجه البحث الى تعقّل الصلة التأثيرية للمكانة الإقتصادية ـ الإجتماعية للعائلة في تصوّر المتعلّمين لذواتهم المجتمعية المستقبلية بإعتبار أنّ هدف البحث كان يتعلّق بتبيّن الآفاق ما بعد الدراسية للمتعلّمين كمؤشّر على درجة التعلّق بصفة المواطنة بالنظر الى النموذج المثالي الذي تمرّره المدرسة عبر المضامين التعليمية والنماذج السلوكية المعاشة أسريا أي درجة إنخراط وإندماج الآباء في الحياة السياسية لبلادهم.

     قد يشكّل البحث في حدوده التفسيرية المتّصلة بالمتغيّرات التي يستدعيها موضوعه، منطلقا لبحوث تعميقية، لا نعتبرها أشمل بل يتأتّى عمقها الزائد من أستدعائها لمتغيّرات إضافية  لإختبار نفس الفرضيات المطروحة حول إشكالية الفردي والجماعي في تواصل وتفاعل المتعلّمين مع المدرسة ومع ذواتهم وتصوّراتهم وتمثّلاتهم  لها وللنجاح الدراسي والإجتماعي.

.....................................................

الهوامـــــش

1 – العلاقة التربوية: مارسيل بوستيك، ترجمة، محمد بشير النحاس، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1986،ص، 22.

2- Durkheim (E): L’èducation Morale ; paris puf ; 1963 ;p 131.

3- العلاقة التربوية: مارسيل بوستيك، ترجمة، محمد بشير النحاس، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ ص23، 1986   

4- Synders (G): Est – ce le Maitre d’ècole qui a perdu la bataille contre les inègalitès scolaires ? enfance:1 ; jan 1970 ;p 1-22.

5- Boudon ®: l’inègalitè des chances، la mobilitè sociale dans les sociètès industrièlles ; paris colin ; 1973 239 p.

6- Hameline (D): de l’invariance et de l’autonomie du pèdagogique ; in bulletin de la sociètè. Alfred binet et thèodore simon ; N° 537، 2، 1974 ;p 51-73.

7- العلاقة التربوية: مرجع سابق ص: 35.

8- نفس المرجع: ص،  44

9- - Boudon ®: Mieux comprendre la relation education-ègalitè en france ; in l’èducation، les inègalitès de chances dans la vie ;vol 1 ; 1975 ;paris ocde ;p 293-305.

10- Skeiner (B.F): La Rèvolution scientifique de l’enseignement ; Bruxelles ; Dessert ; 1968 ; p 136.

11- Merton (R.K): Social theory and social structure ; Glengoe illinois ; the free press ; 1949 ; Traduit par Henri Mendas ; Elements de thèorie et de Methodes sociologiques ; paris، plon ; (1953،1965).

12- أنظر الفصل الثاني من الباب الأوّل ص ص: 9 ـ 53،

13- Durkheim (E): op ; cit ; p 129-132.

14- Althuser (L): ideologie et Appareils ideologiques d’ètat: sur la reproduction des conditions de la productuon ; la pensèe ; juin 1970 ; p 3-21

15- Bordieu (P)et Passeron (J.C): Langage et rapport au langage dans la situation pedagogique ; les temps modernes ; 1965 ;pp 435- 466.

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة2 آذار/2007 -12/صفر/1428