هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة ؟!

نهاد عبد الإله خنفر- بريطانيا

 إن التأسيس للمراحل والحقب السياسية عادة ما يبدا بشرارة متناهية في الصغر كتنفيس عن بعض الطموحات او كتعبير عن الصراع المصلحي الذي عادة مايتم تغذيته من قبل الطبقات السياسية الحاكمة او التي تؤثر في شروط الحكم ومقدراته سواء ما كان منها على مستوى الصراع السياسي الداخلي او ما كان منها من صراعات اكثر حدة واشد وتيرة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية التي تحكمها شهية المصالح وشهوانية بعض الانظمة السياسية في الحكم والسيطرة والتوسع وخلق الانظمة الموالية وتوسيع المجالات الحيوية ومن ثم محاولة الحفاظ عليها بكافة الوسائل التي تتسع وتتنوع ما بين السياسي والامني والعسكري والاقتصادي والدبلوماسي وما يغلف ذلك من اساليب مشروعة او غير مشروعة وما يضفى  اليها من خطوات واضحة وصريحة ومباشرة او ما يعاكسها من غموض وسرية والتفاف وتزوير للحقائق.

 في حقيقة الامر فقد انحصر تاسيس واطلاق الحقب السياسية والتاريخية على الدول الضخمة والامبراطوريات الكبيرة، وذلك على اختلاف الاسباب والدوافع والمبررات التي ساقتها او تسوقها هذه البنى السياسية باختلاف الاهداف والغايات والبرامج وضمن استراتيجيات تحددها طبيعة المطامع والطموحات التي تترواح بين التوسع الاستعماري الصريح او الضمني وان اختلفت المسميات والاغطية والتغليفات وبين الدفاع عن الامن القومي الذي تتنوع أيضا فروعه وتوابعه ومقتضياته وما بين اهداف ايديولوجية او دينية او عرقية او غيرها.

 ولا شك بان التاريخ الإنساني قد حبل بعدد كبير من الامثلة الدالة على ذلك، والتي كان ابرزها امبراطوريات الفرس والروم والامبراطورية الاسلامية وما قبلهما طبعا،هذا في الحقيقة ما انسحب على الامبراطوريات والمحاور السياسية العملاقةالتي انجبتها الحربين الكونتين الاولى والثانية واللتان ولدتا او انجبتا للبشرية الامبراطورية الالمانية التي تلاشت بشكلها الذي ولدت فيه ولم يبق منه الا الدولة القائمة حاليا والتي لا تتشارك بالاهداف السياسية والطموحات التوسعية مع الامبراطورية الهتلرية ومبادئها العرقية والايديولوجية.

 وهو الحال الذي حصل مع الامبراطورية اليابانية التي تشابه وضعها إلى حد  بعيد مع ما الت اليه ظروف الامبراطورية الالمانية ، وان كان هذا ما خلفته لنا نتائج الحرب العالمية الثانية، فالبقطع هو ما يتشابه معه من حيث النتائج العامة التي جلبتها لنا الحرب الاولى التي اعلن فيها عن انهيار الامبراطورية والدولة الاسلامية ككيان ومفهوم وبنية سياسية تمثل في انهيار دولة الخلافة العثمانية. هذا طبعا مع اختلاف الظروف والاسباب والمناخات التي ادت الى ذلك، ولكن قصدت الاشارة الى بعض الامثلة الدالة على موت الامبراطوريات وولادة او انبثاق غيرها كسنة الهية مكرسة على الصعيد التاريخي.

 وحتى لا ينحرف المقال عن مقصده فيتحول الى مرصد للاحداث التاريخية وتحليل حيثياتها على اهميتها القصوى والمطلقة في مختلف القراءات والاستنتاجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها من تفاصيل الحياة البشرية برمتها فانني اعود هنيهة الى الوراء لاقول بان الحرب العالمية الثانية قد اوجدت لنا امبراطوريتين او عملاقين او منظومتين سياسيتين جديدتين هما الامبراطورية الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفييتي السابق الذي شهد جيلنا انهياره المدوي والمفاجيء لكافة الاوساط الا ما ندر من العارفين والمتابعين، حتى لا نغمط احدا حقه في ذلك،الى جانب العملاق الراسمالي المتمثل بالامبراطورية الامريكية التي لا زالت قائمة بمهامها السياسية كما ينبغي لامبراطورية تدعي وبحق زعامتها السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم.

 قد عرف العالم صراعا سياسيا وعسكريا وامنيا وايديولوجيا امتد الى ما يزيد على الأربعين عاما قادته الولايات المتحدة كزعيمة للنظام الراسمالي من جهة، والاتحاد السوفييتي كزعيم للنظام الشيوعي من جهة اخرى، وكما يعرف الكثيرون ، فقد تميزت هذه الفترة بكثير من الشد والجذب بين القطبين الاوحدين ما بين سباق للتسلح وحروب امنية استخباراتية وحروب عسكرية مباشرة اندلعت واديرت بالوكالة في كثير من البقع الجغرافية والدوائر السياسية حول العالم، مع عدم تطور هذه المواجهات الى مواجهة عسكرية شاملة بين راسي النظام العالمي على الرغم من وصول الامور الى ذروة المواجهة اللفظية والكلامية في بعض الاحيان، مما هدد واوحى بازوف العالم من الحرب العالمية الثالثة التي تتصدرها التكنولوجيا النووية وغيرها من اسلحة الدمار الشامل.

 وعلى الرغم من سخونة الاحداث وحمأة وطيسها اللفظي السياسي والامني الا ان العملاقين نجحا في الابقاء على الحرب البينية مشتعلة من دون اللجوء الى الصدام المباشر فيما عرف بالحرب الباردة والتي يعرف الجميع الان انها انتهت الى عالم احادي القطبية تتسيده الولايات المتحدة بلا منازع، في ظل ضعف سياسي واضح للكتلة الاوروبية، وغياب اكثر وضوحا لتكتل عربي سياسي او اقتصادي، واحتواء امريكي مبرمج وناجح للصعود الهندي الذي يقف بالتضاد مع اي مشروع صيني حالم في التقطب السياسي الذي لا تبدو الصين مستعدة له في ظل انشغالها التام بالملف الاقتصادي  وتبعاته الكبيرة، وعموما غياب الافق التحالفي القطبي دوليا في موازاة القطبية الامريكية الاحادية.

إن الهجوم الحاد واللاذع الذي بادر الرئيس الروسي بوتين الى القيام به ضد الولايات المتحدة وسياستها باتهامها بتحويل العالم الى عالم اقل امنا واعظم خطرا وانتقاد مساعيها للتفرد او الابقاء على تفردها بزعامة العالم وارتكاب الموبقات السياسية والعسكرية باسم الديمقراطية ونشرها، مع تركيزه على خرقها الدائم للقانون الدولي وشطب وتحييد الامم المتحدة كاداة نافذة لهذا القانون ضاربا العراق كمثل اخير على ذلك.

سيسعد الادارة الامريكية الحالية ان تستمع الى بعض التصريحات والتقييمات المنطلقة من هنا وهناك بتشبيه الخطاب البوتيني ببداية حرب باردة جديدة على الرغم من مجافاة ذلك لاسس الواقعية السياسية حتى يضيفوا لخطابهم عنصر اثارة جديد ويتوجهوا الى خصومهم بتبرير تشددهم في السياسة الخارجية وما يلحق بها من زيادة في ميزانية الدفاع وما يلحقها من نفقات عسكرية اخرى تغذي الية صنع القرار العسكري، ولهذا ومع قليل من التركيز والانتباه فاننا نرى ان اثنين من اهم صانعي السياسة الامريكية الخارجية في المجال العسكري وهم يسارعون الى تشبيه خطاب بوتين بخطابات الحرب الباردة، وهم طبعا وزير الدفاع ومستشار الامن القومي الامريكي، وهذا ما اشعرني باقتناصهم لهذه التصريحات على الرغم من سقوطها واقعيا اذا ما تم النظر اليها بعين الحرب الباردة وشروطها الندية المطلوبة التي اشرنا الى بعض منها في سياق المقال.

على الرغم من وجاهة ما قاله بوتين ومحاكاته لكثير من الاصوات التي دأبت على انتقاد السياسة الامريكية حتى من حزب الرئيس الامريكي نفسه الا انني ارى استنتاج البعض ومسارعته الى القول ببدء الترويج لحرب باردة جديدة  من قبل بوتين لاستعادة امجاد الاتحاد السوفييتي السابق سابقة لاوانها، لانها لا تحمل من الوجاهة ما يؤهلها للاعتماد او البناء عليها في تحديد مستقبل السياسة الروسية الخارجية وخصوصا حيال او في مواجهة الولايات المتحدة وسياساتها التي لا تجد منافسا حقيقيا لها على الاقل في المدى القصير او المتوسط وان بدى للبعض بان التحرك الروسي في العالم اصبح اكثر جدية ونشاطا وتحديدا في القضايا الشرق اوسطية. هناك الكثير من الاسباب التي تدفعنا الى نفي البدء بحرب باردة جديدة وان المحت تصريحات بوتين الاخيرة الى ذلك، فاذا بدأنا من  الحرب على العراق مثلا فإننا لم نجد إي تأثير روسي في منع اندلاعها أو وقفها كما حصل مثلا عندما استطاع خروتشوف وقف العدوان الثلاثي على مصر، على الرغم من المصالح الاقتصادية الضخمة لروسيا في العراق والتي يبدو أنها خسرتها و إلى الابد.

ونرى مثلا  الانتشار الامريكي العسكري في كل القارات تقريبا وبقوات عسكرية ضخمة ولا نجد ما يماثلها او ينافسها او حتى قد ينافسها في المسقبل القريب من قوات روسية حتى في اطار ما يسمى بقوات حفظ السلام الدولية التي يشترك فيها الامريكيون بكثافة، وهذا يعود في الاساس الى انهيار كل الانظمة الشيوعية الحليفة للروس والتي تحولت الى المعسكر الراسمالي خصوصا في اوروبا الشرقية التي كانت تعد قواعد عسكرية متقدمة للروس واصبحت الان معادية او منافسة لهم على الاقل، وهذا ما رأيناه في ازمة امدادات الغاز الاخيرة بينهم وبين روسيا، ولا انسى طبعا ان روسيا لا زالت تتلقى مساعدات القمح الامريكي وان كان بنسبة اقل من السابق، نضيف الى ذلك حجم الميزانية الضخمة التي تقدر بالاف المليارات في الولايات المتحدة والتي يُدفع منها الكثير كمساعدات لدول كثيرة حول العالم، فيما لا تحتمل الميزانية الروسية الضعيفة اصلا ان تفعل ذلك لتدخل في سباق الانفاق  لاحتواء بعض الانظمة السياسية لصالح الايديولوجيات المتصارعة التي تلاشت تقريبا من اجندة الصراع لصالح الرأسمالية المتوغلة عميقا في النظام الاقتصادي الدولي الذي قد تستثنى منه الصين جزئيا.

مضافا الى ذلك كله قدرة الولايات المتحدة على ربط الكثير من القضايا المصيرية التي تخص الحياة البشرية وشروط رفاهيتها على الارض بانظمتها الخاصة ومن اهمها طبعا النظام المالي الدولي وما يرتبط به  من انتقال الرساميل عبر المؤسسات المالية المنتشرة في اصقاع الارض  والذي تحتفظ الولايات المتحدة بسيطرة شبه تامة عليه وخصوصا في القطاعات البنكية المختلفة التي سرعان ما تشرع السلطات الامريكية بشهر سلاح المقاطعة في وجه المخالف  منها مضافا الى السيطرة شبه الكاملة على حركة الفضاء والاعلام وغيره في وقت لا يقابله اي امكانيات روسية توازيه او تنافسه، وحيث  لا تكفي القوة العسكرية وحدها  في كسب حرب او بالظفر باسباب النجاح فيها في ظل دخول الكثير من العناصر والعوامل الاخرى التي قد توفرالحسم لاي طرف على الاخر حتى في الحرب الباردة.

ومع افتقاد روسيا بوتين لهذه العوامل مجتمعة الا من مناورة هنا او هناك، فاننا نرجح عدم البدء بحرب باردة جديدة ايا كانت الحروب الكلامية والمعارك اللفظية التي قد تنطلق من بوتين او من غيره من القادة الروس، حيث تنعدم التنافسية وتتوازى مع المرحلة الصفرية في امكانيات الخوض في حروب باردة أو ساخنة جديدة مع الولايات المتحدة ،مع تصوري بأن الطفرة الكلامية التي طفت على سطح الخطاب البوتيني الروسي الاخير ما هي الا جزء من تهيئة بوتين لامور قد ترتبط ببقائه في الكرملين من خلال الاعداد لفترة رئاسية ثالثة وربما رابعة في ظل نجاحه في بعض الملفات الداخلية التي ربما اراد ان يدعمها ببعض النجاحات الخارجية التي تظهره بمظهر الزعيم الدولي القوي والمؤثر والفاعل حتى في وجه الولايات المتحدة التي لا زال الروس يكنون لها الكثير من المشاعر غير الطيبة وربما العدائية، ولربما فاننا الان امام حرب ساخنة في الداخل الروسي، ولسنا مقبلين كما اعتقد على حرب باردة جديدة بين الكرملين والبيت الابيض.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 21 شباط/2007 -3/صفر/1428