إن من أخطر ما قد يصاب به الإنسان هو فقدانه لذاكرته، لأنها الخزان
المعرفي الذي يعينه في التعرف على الأشياء بمجرد استرجاع صورتها
المحفوظة في الذهن. وبدون ذلك تضيع المعالم وتختلط التفاصيل ويفتقد
الإنسان قدرته على معرفة الحقيقة. وإذا كان هذا مرض يصيب الأفراد فإنه
قد يصيب الجماعات أيضا، وذلك حين تفقد ذاكرتها التاريخية فتفقد القدرة
على فهم المستجدات والوقائع الراهنة من سياسية واقتصادية واجتماعية
وغيرها.
وقد ابتليت غالبية الشعوب العربية بهذه الآفة فصار من السهل
اصطيادها من قبل أي مغامر ماكر يعرف كي يداعب عواطفها بالشعارات
السائدة في كل مرحلة. فإذا كانت مرحلة مد يساري رفع شعارات التقدمية
ومحاربة الرجعية والاستعمار، وإذا كانت موجة قومية رفع شعارات الوحدة
العربية ومحاربة القطرية وإزالة الحدود، وقد تصل به الشوفينية إلى
إنكار حقوق القوميات الأخرى ومحاولة القضاء عليها بالقوة.
أما إذا كان التيار الغالب دينياً ترى ذلك المغامر نفسه، الذي كان
يعتقل الإسلاميين بالجملة ويعلقهم على أعواد المشانق، قد أطلق لحيته
وأطال سبحته، وأصبح (يحوْقل) و(يبسْمل) ويرطن بكلمات الإيمان والجهاد
والتوكل ومحاربة الكفار وغير ذلك من الألفاظ التي تجد لها رواجاً في
الشارع.
ولو كانت الأمة تتمتع بذاكرة قوية تعينها على معرفة حقيقة الأشخاص
الذين يتصدون للعمل السياسي والديني والاجتماعي، كيف بدأوا وكيف
انتهوا، لاستطاعت أن تكشف الأصيل من المزيف، وصاحب المبادئ من صاحب
المصالح، ولكن ذاكرتها المعطلة سمحت لأصحاب الأطماع والأهواء والنوايا
السيئة أن يمارسوا عليها حملة من الخداع والتضليل، بسبب عدم مراجعتها
لماضي هؤلاء الأشخاص المليء بالمتناقضات والبقع السوداء.
ومصداق تلك الحالة المليئة بالتضليل والدجل السياسي هي نظام صدام
حسين الذي كان مختصراً في شخصه وحسب.
فقد عمل خلال انقلاب 8 شباط الدموي الذي نفذه تنظيم ميشيل عفلق في
العراق عام1963 كأحد عناصر الحرس القومي المكلفة بانتزاع الاعترافات
تحت التعذيب من المتهمين بالشيوعية. وقد كشف علي صالح السعدي القائد
الأيديولوجي للانقلابيين بأنهم جاؤوا بقطار أمريكي!! وهذا غير مستبعد
لأن عبد الكريم قاسم الذي انقلبوا ضده، هو الذي أسقط حلف بغداد الموالي
للغرب، وقيّد شركات النفط بقانون رقم (80)، واتخذ سياسة موالية للاتحاد
السوفييتي والكتلة الشرقية، وغير ذلك من الأمور التي جعلت الدول
الغربية تريد تصفيته بكل صورة، حيث جاء به الإنقلابيون وهو صائم في شهر
رمضان وأعدم ورفاقه الضباط في مبنى الإذاعة بدون محاكمة، ورميت جثته في
نهر ديالى بعد أن ربطت بها أثقال تمنعها من الطفو، ولم يعرف له قبر!!
رغم انه قد عفا عنهم حينما حاولوا اغتياله عام 1961 قائلاً: عفا الله
عما سلف!
وقد بلغت جرائم الحرس القومي حداً يفوق الوصف، ولم تقتصر على
الشيوعيين بل طالت القوميين والناصريين والناس الأبرياء، الأمر الذي
دفع بعبد السلام عارف رئيس الجمهورية الأسبق إلى القضاء عليهم في
انقلاب 18 تشرين الثاني 1963، وصدر في عهده كتاب (المنحرفون) الذي وثق
بالشهادات والصور بعض جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والمقابر
الجماعية التي ارتكبها الحرس (القومي)، حبذا لو اطلع عليه من يذرفون
الدموع الساخنة على الطاغية وأعوانه.
وفي عهد عارف وضع أحمد حسن البكر وصدام في السجن. أما البكر فقد
أطلق سراحه بعد أن أعلن البراءة من حزب البعث وتخلى عن السياسة
للانصراف إلى تربية الأبقار في مزرعته في (أبو غريب)، حسب نص ما نشرته
الصحافة العراقية في ذلك الحين، وأما صدام حسين فقد أطلق سراحه مقابل
العمل مع الأجهزة الأمنية للنظام العارفي مستفيدين من (خبراته) في
ملاحقة القوى اليسارية أو أي قوة معارضة.
لكن عبد السلام عارف قتل في حادث طائرة فخلفه أخوه عبد الرحمن عارف،
الذي عقدت حكومته اتفاقيات نفطية مع شركة (إيراب) الفرنسية أعطيت تلك
الشركة بموجبها إمتيازات للتنقيب عن النفط في مناطق عراقية مختلفة،
وذلك مكافأة لفرنسا على دورها الإيجابي مع العرب في حرب حزيران 1967
مما استثار بريطانيا وأميركا التي تعتبر نفط العراق من حصتها، ولذا
أعدت العدة لإزاحته من السلطة عن طريق مجموعة عبد الرزاق النايف
الجميلي رئيس الاستخبارات العسكرية في حينها، ولما كان ضابطاً غير
معروف على الصعيد السياسي، فقد كان يبحث عن واجهة سياسية يحكم من
خلالها لفترة مؤقتة ثم يتخلص منها حين يثبت أقدامه في السلطة، فدار
على أكثر من حزب و تنظيم وشخصية ليتعاونوا معه لكنهم رفضوا جميعاً
نظراً لارتباطاته المشبوهة، باستثناء مجموعة (البكر، حردان، عماش،
صدام) التي وافقت على المشاركة مع النايف في الانقلاب على أمل أن تتغدى
به قبل أن يتعشى بهم، وهو ما حصل بالفعل، وبرضا الجهات التي خططت
للتخلص من عارف ومن نظامه المساند لعبد الناصر.
وحينما عادوا إلى الحكم في انقلاب 17 تموز 1968 كان صدام يقف وراء
أحمد حسن البكر كحارس شخصي من جملة آخرين، لكنه اكتسب ثقة البكر حينما
دبر عملية الغدر بعبد الرزاق النايف رئيس الوزراء وهو يتناول طعام
الغداء مع البكر في القصر الجمهوري، حيث دخل عليه صدام شاهراً مسدسه مع
حزبي آخر، وتم تقييده وإبعاده خارج العراق، ثم اغتالته المخابرات
العراقية في لندن بعد سنوات بعد أن كشف حقيقة ارتباطهم بالأجهزة
الغربية ومقدار المبالغ التي سلمها للبكر
وزمرته.
ومن هنا ازدادت حظوة صدام عند البكر، فتوسعت صلاحياته في الحزب وسعى
للسيطرة على الجيش، فأبعد الفريق حردان التكريتي ثم اغتاله في الكويت،
وعين الفريق صالح مهدي عماش سفيرا في موسكو ثم استدعاه ليدس له السم،
وهكذا صفيت كافة القيادات والرتب العسكرية الكبيرة في الجيش العراقي
لتستبدل بأشخاص من أقاربه منحوا رتباً عسكرية متقدمة رغم أنهم ليسوا
بعسكريين وبعضهم كان أمياً، أو من الحزبيين الذين عملوا لهم دورات
عسكرية قصيرة وسرعان ما أصبحوا ضباطاً.
وبما أن النظام العارفي كان قومياً وناصري التوجه، فقد شن صدام حملة
من التصفيات الجسدية ضد الضباط والسياسيين القوميين، كما زج قسماً
كبيراً منهم في السجون وخاصة في معتقل قصر النهاية الرهيب، بينما هرب
القسم الآخر إلى القاهرة. وهكذا أُعدم –على سبيل المثال- كل من العميد
جابر حسن حداد الذي قطعت جثته بالسكاكين، واللواء رشيد مصلح، ومدحت
الحاج سري، وعذب حتى الموت اللواء عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع
الأسبق، كما عُذب طاهر يحيى التكريتي رئيس الوزراء أيام الرئيس عارف
وامتهنت كرامته إلى أبعد الحدود. أما الذين لجأوا إلى القاهرة من
الضباط والسياسيين القوميين فقد أرسل صدام فرقة من القتلة لاغتيالهم
لولا أن ألقت القبض عليهم أجهزة الأمن المصرية.
ولم يكتفِ النظام بذلك بل شن حملة ضارية ضد نظام الرئيس جمال عبد
الناصر الذي كان منشغلاً بإعادة بناء الجيش المصري وتسليحه، ويخوض حرب
الاستنزاف ضد إسرائيل، فاتهمه بالخيانة وتطاول عليه بكلمات نابية في
الإذاعة العراقية استمرت حتى يوم وفاته، ويبدو أن تلك هي إحدى المهام
التي أوكلت للنظام.
أما المهمة الأخرى فهي تصفية العمل الفدائي في الأردن، إذ بدأ يحرض
المنظمات الفدائية للانقلاب على الحكم الأردني مقابل تعهد بمساعدة
القوات العراقية الموجودة في الأردن، ولكن حينما وقعت الواقعة في أيلول
الأسود 1970 نكث بوعده ولم يقدم للمنظمات الفدائية أية مساعدة، بل ذكرت
منظمة فتح في بيان لها سمعته من إذاعتها يومها أن الرمي كان يأتي عليها
من جهة القوات العراقية!!
واستمر النظام في محاربته لحركة فتح الفلسطينية وتمزيقها وتصفية
قادتها، حيث جند صبري البنا المعروف بـ (أبو نضال) الذي كان مسؤولا عن
تنظيم فتح في بغداد، للانشقاق عن حركة فتح وإحداث تنظيم خاص به كان
وراء اغتيال عدد كبير من قيادات فتح أمثال أبو إياد الذي رفض تأييد
صدام في احتلاله للكويت. وقد شهد عقد السبعينيات معركة مفتوحة في عواصم
العالم بين المخابرات العراقية وحركة فتح حيث اغتالت تلك المخابرات
ممثل منظمة التحرير في باريس عز الدين قلق، وممثلها في لندن سعيد
حمامي، وممثلها في الكويت علي محسن، الأمر الذي اضطر ياسر عرفات إلى
التصريح يومها في خطاب له بأحد المخيمات الفلسطينية في بيروت بأن
المخابرات العراقية تخطط لاغتياله. وكل ذلك كان يتم تحت شعارات حماسية
صاخبة يطلقها النظام العراقي لمحاربة الصهيونية والاستعمار والرجعية
العربية التي كان يقصد بها الأنظمة الملكية المحافظة!!
وهكذا ساءت علاقاته مع جميع دول الجوار باستثناء تركيا التي وقع
معها اتفاقية تسمح للجيش التركي باجتياز الحدود العراقية لمسافات بعيدة
لتعقب المقاتلين الأكراد في الزمان والمكان الذي تشاء ضاربة بالسيادة
العراقية عرض الحائط، ومد أنابيب النفط العراقي لتصب في الموانئ
التركية بعد أن قطعه عن سوريا، رغم أن تركيا دولة عضو في حلف الناتو،
وتربطها علاقات دبلوماسية وتعاون عسكري مع إسرائيل، وتتبع سياسة مائية
ليست في صالح العرب، أما تاريخها البعيد والقريب مع العرب فلا يحتاج
إلى شرح. ومع ذلك فقد بقيت علاقات النظام العراقي بتركيا على أحسن ما
يرام منذ مجيئه عام 1968وحتى سقوطه في 2003، وقد مرت علاقاته مع جميع
دول العالم بحالات مد وجزر إلا مع تركيا، لأنها بوابته الآمنة مع
الغرب، ولا قيمة للشعارات والضجيج الإعلامي مادامت المصالح الغربية
وأهمها البترول ثابتة ومؤمّنة.
وفي نفس تلك المرحلة التي كان فيها صدام يلبس برقع اليسار وقع
اتفاقية الجزائر مع شاه إيران تنازل بموجبها عن نصف شط العرب لإيران
مفرطاً بمصالح العراق وأراضيه التي عاد للتباكي عليها حينما سقط
الشاه، وقام بعد الثورة الإيرانية نظام معادٍ للغرب وإسرائيل ومناصر
للقضية الفلسطينية، فمزق اتفاقية الجزائر التي وقعها بنفسه، وشن – بدعم
أمريكي غربي- حربه المدمرة ضد إيران التي كلفت العراق مليون قتيل
وجريح، عدا ضحايا الجانب الإيراني. وأهدرت ثروات العراق والأمة
العربية، وخرج العراق باقتصاد مدمر ومرافق محطمة وديون تقرب من مئة
مليار دولار. ناهيك من الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب العراق من
إعدامات جماعية وتهجير للسكان، وتدمير للمدن والقرى، وقصف للمدنيين
بالسلاح الكيمياوي وغير ذلك مما كان يمرر تحت ستار الحرب التي صورتها
ماكنته الإعلامية بأنها حرب بين العرب والفرس، وكأن شاه إيران لم يكن
فارسياً!!
وكانت تلك الحرب المجنونة التي استمرت ثماني سنوات وأهلكت الحرث
والنسل مقدمة لما جرى بعدها من حروب وتجويع وحصار، كما أنها فتحت باب
التدخل الأجنبي على مصراعيه في العراق والمنطقة. وبعد أن ألقت الحرب
أوزارها وقبل الطرفان بوقف إطلاق النار، وبدلاً من أن يتعظ النظام من
مغامرته الأولى التي كلفت شعبه الكثير من التضحيات والمعاناة، ويقوم
بإعمار ما دمرته الحرب، فإنه قام بمغامرة أخرى ضد بلد عربي هذه المرة
هو الكويت، حيث قامت قواته باجتياحها في العاشر من (محرم الحرام)
الموافق للثاني من آب (أغسطس) 1990، فوجه طعنة نجلاء لفكرة التضامن
العربي، وقضى – ربما إلى الأبد- على أحلام القوميين العرب في بناء دولة
عربية واحدة. وبدأ بمغازلة إيران مرة أخرى وعرض عليها العودة لاتفاقية
شط العرب، وعاد إعلامه يتحدث عن الجار الفارسي المسلم!
وكم طالبته الدول العربية ودول العالم الأخرى بالانسحاب فرفض، ولكن
ما إن قامت الحرب وبدأت القوات الأمريكية والدول المتحالفة معها تصب
حممها وتجرب أحدث أسلحتها على الجيش العراقي المنهك من حربه مع إيران
والمنتشر في الصحراء بلا ماء أو طعام، حتى أعلن موافقته على الانسحاب،
لكنه سحب القوات الخاصة والحرس الجمهوري وترك الجيش العراقي يلاقي
مصيره المحتوم بين رمال الصحاري!
وانتفض الشعب العراقي انتفاضته المعروفة في آذار 1991 وسقطت خمس
عشرة محافظة في الوسط والجنوب والشمال، ولكن الطاغية الذي هرب من
المواجهة في الكويت تركه الأميركان يفتك بالشعب بوحشية لا نظير لها،
حيث دكت صواريخه المدن وأبيد الناس العزل ودفنوا في مقابر جماعية، رغم
أنها كانت قادرة على منعه لو أرادت. وفي خيمة صفوان وقع صدام على وثيقة
الاستسلام، وأصبح العراق محتلاً مع وقف التنفيذ، وهو ما نُفذ في 9
نيسان (أبريل) 2003، حينما ترك صدام وزمرته بغداد لمصيرها وهرب ليختفي
في جحر ضيق أخرجه منه من جاء به إلى الحكم عام 1968!!
لقد رفع صدام خلال حربه مع إيران الشعارات القومية، لكنه بعد انكشاف
زيف شعاراته تلك بعد عدوانه على الكويت والمملكة العربية السعودية، بدأ
يستخدم الشعارات الدينية وأسمى نفسه (عبدالله المؤمن)، رغم أن حزبه
علماني لا علاقة له بالدين، وطالما فتك بالمسلمين وانتهك حرماتهم،
لكنه النفاق السياسي واصطياد السذج.
لكن جرائم صدام أفظع من أن تسترها البراقع الزائفة، وحسبنا أن نذكر
بجرائمه بحق المقربين منه لنتخيل ماذا يفعله بالخصوم أو مخالفيه في
الرأي... وهل ننسى مذبحة قاعة الخُلد التي أعدم فيها كبار الحزبيين
والمسؤولين في حكومته بتهمة التآمر مع سوريا دون محاكمة ولو صورية،
كعدنان الحمداني نائب الرئيس، ومحمد عايش وزير الزراعة، ومحمد محجوب
وزير التربية والتعليم، وغانم عبد الجليل مدير مكتب صدام، وعبد الخالق
السامرائي الأمين القطري المساعد لحزب البعث؟ أم قتله للدكتور راجي
التكريتي الذي قتل بطريقة وحشية حيث أطلقت عليه مجموعة من الكلاب
المسعورة بعد تجويعها لتنهش جثته وتقطعها إرباً، أو أولئك الشبان الذين
أمر صدام بإعدامهم بطريقة لا يصدقها عقل حيث أمر الجلادين بتفجيرهم
بالديناميت، وقد وثقت تلك الجريمة بالصوت والصورة، أو قتله للعلماء من
مختلف المذاهب، أم قصفه لمدينة حلبجه بالسلاح الكيمياوي، أم جرائم
الأنفال، أم جرائمه بحق الكويتيين، وغير ذلك مما لا يعدّ ولا يحصى ؟
هل يعقل أن الذاكرة العربية لم تحفظ شيئاً من كل تلك المآسي التي مر
بها الشعب العراقي خلال العقود الماضية؟ وهل إن ما يعيشه العراق من محن
حاضرة هو وليد الساعة أم هو نتاج لخمسة وثلاثين عاماً من حكم
الدكتاتورية ومغامراتها وحروبها؟ وهل كتب على شعب العراق أن يبث همومه
لنفسه، ويشعر بجراحه لوحده، مردداً قول نزار قباني:
من جرّب الكيّ لا ينسى مواجعه ومن رأى السمّ لا يشقى كمن
شربا!
*أكاديمي وباحث
regicis@yahoo.com |