مفارقات ومغالطات في قراءة المشهد العراقي (1/3)

  الهاشمي بن علي*

 بنحو دراماتيكي فاجع، تستمر المأساة العراقية حاملة كل يوم أخبار القتل والتهجير والتفتيت لوطن يعده الجميع ركنا ركينا في العالمين العربي والإسلامي. منذ عقود لم يذق الشعب العراقي طعم الأمن والاستقرار.

حروب تتلوها حروب ودسائس سياسية بعضها من الداخل والبعض الآخر أتى مع التدخل الخارجي لينتهي الأمر إلى استشراء الانقسامات الطائفية والعرقية في جسد هذا البلد الجريح

تلك هي صورة الوضع التي لا يتناطح في وصف خطورتها متابعان، لكن الاختلاف يبرز ويشتد عند البحث في جذور هذا المشهد المؤسف، فكل تفسير يعد في الحقيقة انعكاسا لقراءة سياسية أو دينية أو عرقية تخفق غالبا في الإلمام بالجوانب المتعددة والمعقدة للواقع العراقي.

أمام التطورات المتلاحقة للخبر العراقي وفداحة مضامينه، تجد النزعة المعيارية طريقها بسهولة إلى عواطف وأفكار الناس.

 فالبعض يرى أن المهمات الملحة لا تحتمل العودة للحفر في الجذور العميقة للأزمة العراقية، هؤلاء يقولون إن مهمة استدراك المأساة والتصدي للمشاريع المشبوهة في العراق أوكد وأجدى من مجرد تقليب الماضي الذي سيعمق الخلافات أكثر فأكثر.

وآخرون ومن نفس المنطلق يذهبون إلى أن الماضي مهما تحمل من وزر في الوصول بالعراق إلى ما هو فيه اليوم لن يقلب المعادلة التي تقول إن راهن العراق أقل بشاعة من كل حدث في السابق، هذا إن سلم بأن الواقع السابق كان أسوأ.

في مقابل هذه الآراء هناك صوت أقليّ تمثله في الغالب شريحة من المثقفين المستقلين لم ترد ورغم ضغوط اللحظة أن تقفز فوق حقيقة  أن الواقع العراقي سياق ليس من المعقول أو المناسب فيه فصل الماضي عن الحاضر وتقديمه بالتالي في شكل حلقات منفصلة يغرق المتابع في تفاصيل كل واحدة منها على حدة.

لقد جرب الوعي العربي والإسلامي ولعقود أنماطا متتالية  من الإدراك اللحظي الذي بقي في المحصلة ردة  فعل تفشل في النهاية في تأسيس قراءة متوازنة وواقعية للمعارك التي تنشب هنا وهناك في بقاع ساخنة من الوطنين العربي والإسلامي.

لعل في هذه الجوانب ما يفسر فشل مشاريع  التغيير في تجسيد فعلها التاريخي  في مجتمعاتها، فللمفارقة بقيت النخب تابعة لجماهيرها تنافقها  في أحيان كثيرة مجارية مشاعرها الهائجة وحنقها الذي يعكس تراكمات القهر الذي تتعرض له من قبل الاستبداد المحلي والهيمنة الخارجية.

إن الأكيد هو أن تغيير الواقع يحتاج أحيانا للشرب من كؤوس مرة نقر فيها بمسؤولياتنا نحن عن بعض مما حاق بنا والكف بالتالي عن الاستسلام للحل السهل وهو تضخيم نظرية المؤامرة التي تشبع رغبتنا في إدانة الآخر ما دمنا لا نستطيع رد صاعه بصاعين.

إنه لمن المؤسف القول إن الهروب إلى الأمام تحول إلى عقيدة سياسية تطبع الكثير من الخطابات السياسية التي تستسهل قراءة أزمات الأمة فتحيل كل عواملها إلى التدخل الخارجي وتنسى أو تتناسى أن التدخل الخارجي يبقى في النهاية خطوة تستدعيها ظروف داخلية تغري بالأوطان كل من يريد بها شرا.

رأينا هذه الحقائق في الحرب الأهلية اللبنانية ومن قبلها في تطورات مفصلية للنضال الوطني الفلسطيني وها نحن اليوم أمام اختبار جديد في العراق..فهل تعلمنا الدرس أم أننا لذنا بالوصفة المعروفة: مزيد من الشعارات..كثير من المبالغات..تعمية على الحقائق..جعل التدخل الأجنبي ومقاومته سيئة لا تضر معها حسنة، وهكذا؟

إن المتتبع لما تخطه نخبنا الفكرية والمسيسة داخل الدوائر الحزبية أو خارجها يجدها وقعت في فخاخ من المغالطات والمفارقات الصارخة التي يتلقاها الشارع العربي والإسلامي بالاستحسان لأنها تعزف على أوتاره الحساسة وأهمها: ممانعة المحتل.

ليس من شك في أن مقاومة المحتل ورد الهيمنة الأجنبية وظيفة شريفة تحتاج تضافر جهود الجميع وتعبر عن انخراط النخب الواعية الفاعلة في هموم الجماهير ومشاركة لها في تحقيق أهدافها في التحرير والتنمية، لكن الحقيقة البديهية تذكر الجميع أن الهيمنة الأجنبية والتي تجلت بشكلها الفج فيما تعرض له العراق، مشروع متعدد الأبعاد كثير الوسائل التي بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفي عن العين المجردة.

لست أضيف جديدا عندما أقول إن الاستعمار القديم والجديد طالما استفاد من عوامل ضعفنا الداخلي كي يمر إلى مرحلة التدخل في واقعنا بما يخدم  مصالحه الحيوية. ثم إن عمل أي قوة دولية طامحة لمصالحها لا يعد بدعا من الفعل، ذاك هو دأب القوى الكبرى التي تسعى دائما لبناء مجالات حيوية تتمدد فيها وتسهر على ضمان استمرار نفوذها.

الجديد الذي شهدنا بعض بوادره المحتشمة في السنوات القليلة الماضية هو ذلك النقد الذاتي الذي ومن منطلق منهجي إجرائي حيد العامل الخارجي ليسأل عن عوامل سقوطنا الحضاري وعجزنا عن النهوض والوقوف بندية تجاه حركة الآخر.

جاءت الإجابة متعددة الجوانب تلتقي عناصرها عند إدانة معالم الضعف والسقوط في الجسد العربي الإسلامي مما جعله يتخلف عن ركب الفعل التاريخي قابعا على هامش الحياة. السبب في ذلك تخلف علمي واجتماعي وفكري يشرف عليه استبداد محلي قاهر قتل في الشعوب العربية والإسلامية كل معاني الكرامة وذوبها في بوتقة الحزب الواحد والزعيم الفرد الضرورة.

تعددت العناوين والنتيجة كانت واحدة: مرة بعنوان إسلامي و أخرى قومي وثالثة يساري ولما لا في حالات تحت لافتة وطنية، قامت تجارب استهلكت كل عناوين التغيير لتفرز في النهاية هزائم وانتكاسات والأدهى من ذلك هو أنها سحقت الإنسان تحت أقدامها وألهت في المقابل أسماء وأحزاب خلنا أن قدرنا أن نموت ونحيا تحت وطأتها التي لا ترحم.

هذا التوصيف لم يكن في يوم سرا خافيا على أحد، إذ أن الواقع بألوانه الفاقعة يؤكد هذه الصورة السلبية ناهيك عن الأدبيات الحقوقية المستقلة و السياسية المعارضة التي تؤرخ لحقبة امتدت منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة إلى المرحلة الحالية التي نحن بصددها.

تكمن خصوصية العراق في كونه بات لحظة مكثفة للاستبداد العربي حيث نكاد نجزم أن ما مر به العراقيون يكاد لا يوجد له نظير في المنطقة العربية. فدون أن نعطي صكا براءة لأي من الزعامات العربية الأخرى، نسجل ما خلفته لنا الحقبة البعثية من شواهد تؤكد أن الإنسان العراقي لم يعرف طعم الكرامة أو ما يشبه الحقوق الأساسية في يوم من الأيام.

تحت غطاء كثيف من الشعارات القومية، شقت التجربة البعثية طريقا ملؤها التصفيات والقمع الشديد والتأليه للزعيم الذي كان يخير شعبه بين خضوع يتنازل فيه عن كل حقوقه أو معارضة ثمنها قطع الرقاب دون هوادة.

كان العراق وما يزال مختبرا واسعا للعناوين التغييرية العربية، هناك في بلاد الرافدين تنوع عرقي ومذهبي واسع وفسيفساء فكرية أنتجت تاريخيا أحزاب وتيارات وكيانات سياسية متعددة تطرح تحديا على أي شخصية أو مؤسسة قيادية.

في ظل نظام يرفع شعار الوحدة، كان لابد من حل ما لهذا التنوع إما باحتوائه من خلال منظومة مفتوحة ترتكز إلى قوة القانون وعلويته، أو أن تكون العصا الغليظة مشرعة أمام الجميع فلا صوت يعلو فوق صوت البعث.

اختار البعث وصدام وداخل حيثيات تاريخية معلومة الحل الثاني: عسكرت الحياة مع مجيء ثورة تموز وقضي على التنوع الفكري والثقافي والسياسي في بلد يوصف بكونه مثابة تاريخية للحراك الفكري والسياسي.

كان الخطاب الرسميّ وفي إخراج ستاليني واضح يحكي كل معاني القوة والمنعة ولم ينصت إلى كل الأصوات التي أكدت أن ما يحدث إنما هو الضعف في أعمق معانيه. في غياب المواطنة الحقيقية نشأ رباط خشن من الخوف والنفاق بين الحاكم والمحكوم الهدف الأساس فيه هو الموالاة مقابل الحق في البقاء..البقاء حيا لا غير!!

النظام البعثي مختزلا في صدام وحده، أقدم على نمط من التسيير في العراق خنق كل صوت حرّ وأحال التعدد الثقافي والديني والسياسي إلى مجموعة مخاطر ليس من طريق في التعاطي معها سوى بضربات استباقية غاية في الوحشية.

غابت طيلة العقود الأخيرة المنقضية أدنى درجات الحرية الفكرية أو الإعلامية أو السياسية وبذلك بات العراق مختطفا تحت خيمة الشعار القومي. للمفارقة التي تكشف مدى مصداقية العنوان القومي الذي أريد له أن يبرر ضرب مكونات المجتمع الأهلي العراقي، تحالف النظام البعثي مع أكثر الأنظمة العربية رجعية وعمالة فمدت حبال الوصل والدعم من المشيخات الخليجية ومن الأردن ومن مصر وغيرهم من تلك الأنظمة التي كانت و ما تزال في قطيعة مع الطموحات المشروعة لرجل الشارع العربي.

من وراء هذا الصف وقف المايسترو الأمريكي الذي يقال إنه لم يكن بالأصل بعيدا عن قيام انقلاب تموز الدموي، وقف يقاسم الهدف الرسمي العربي هدفه الملح: وأد الثورة الإسلامية الإيرانية في المهد.

لم يكن لفارسية إيران أو مجوسيتها أو علقميتها ذكر في أدبيات البعث أو في الخطاب الرسمي وغير الرسمي في العالم العربي. لكن وصول الإسلاميين الشيعة للحكم في طهران و إذلالاهم الأمريكان وإعلانهم الدعم المطلق للحق الفلسطيني وتبنيهم لنهج ثوري، حولهم إلى هدف لحملة عسكرية دامت ثمانية سنوات لم يتوقف الغرب فيها عن إمداد صدام بالمال والسلاح والغطاء السياسي.

يذكر الجميع كيف كان سلاح الجو العراقي مفخرة لا يكف صدام ورفاقه عن ترديدها، ولم يكن ذلك السلاح في قوته الضاربة سوى تشكيلات من طائرات الميراج الفرنسية و التورنادو البريطانية.والسؤال هو كيف للغرب أن يمنح العراق مثل تلك الأسلحة الفتاكة لو لم يكن وكيله غير الحصري لإسقاط نظام طهران الوليد نيابة عنه.

داخل الحرب الكبيرة نشأت معارك جزئية من قبيل المواجهة الشرسة بين صدام وبين المكون الشيعي داخل العراق. سواء بالعنوان الفكري أو بالعنوان السياسي كان لابد من يوم تشب فيه تلك المعارك خاصة بالنظر إلى الطابع العدواني للنظام البعثي. والحقيقة أن تهمة الولاء للخارج لم تكن سوى دثارا آخر يلبسه البعث لتصفية فريق سياسي أو ديني يهدد مصالح الاستبدادية. فعلى ضوء مقولة الولاء للخارج كان من السهل تصنيف أي تكتل سياسي، فالماركسي موال لروسيا والوطني ليبرالي عميل للغرب والقومي تحريفي يتبع النهج الناصري أو الليبي.. فكيف بالشيعة في بلد يقع على تخوم إيران ويرفع فيه صدام شعار حماية البوابة الشرقية للوطن العربي.

دفع المفكر الفيلسوف محمد باقر الصدر ثمن قدر محتوم وضعه وجها لوجه مع صدام الذي لم يفلت من يد بطشه أقرب رفاقه من رواد البعث الأوائل والمتأخرين فأعدمه وأخته الأديبة بنت الهدى الصدر غير آبه بكل المناشدات التي نشطت لثنيه عن نهجه التصفوي.

كما لم يستمع صدام إلا لنفسه وهو يرى العصا الغليظة النهج الأمثل لسياسة العراق( العراق العظيم العريق في الحضارة) لم يستشر أحدا عندما غزا الكويت وألقى ببلده في أتون مواجهة احتاجت هي الأخرى لعناوين كبيرة تغطي الخور الداخلي. برزت للساحة عناوين أم المعارك و الحواسم لتلهب عاطفة الجماهير العربية والمسلمة التي فعل فيها اليأس والإحباط فعله.

دخل العراق حربا شبه عالمية مدججا بكل عوامل الضعف والهزيمة: علاقات سيئة مع جميع الدول تقريبا خاصة في محيط العراق الحيوي، ساحة داخلية معسكرة بالكامل استند النظام فيها  لآلة عسكرية لا ترحم منتسبيها قبل خصومها، ومواطن عراقي طحنته حروب متتالية واستبداد عامله معاملة غير إنسانية بالمرة. وغياب لأي مظهر من مظاهر الوفاق الوطني و ممارسات فرعونية للمنتفعين من الوضع القائم بقيادة المتهورين عدي وقصي ومن شاكلهما  من نتاج البعث.

ماذا كانت ستكون النتيجة يا ترى؟

هزيمة مدوية وتدخل عسكري أمريكي مباشر وفرز رسمي عربي على أسس جديدة وسقوط العراق في براثن الفوضى حيث لا دولة ولا قانون مشرعا على كل الراغبين في تصفية الحسابات الدولية والإقليمية.. واقع جديد نواصل الحديث فيه في مقال قريب.

... يتبع

*كاتب تونسي

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 12 شباط/2007 -24/محرم/1428