لا شك أن العراق هذا البلد العريق بتاريخه وحضارته، والحي
بشعبه المتميز، يعيش منذ سنين محنة صعبة، حيث القتل اليومي والتدمير
الممنهج لمنجزاته ومكاسبه وبنيته التحتية. فنشرات الأخبار ومنذ
الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي مليئة بأخبار القتل والتدمير التي تجري
على أرض الرافدين. ولا يمر يوم علينا، إلا ونجد أن الخبر العراقي هو
الذي يتصدر نشرات الأخبار، وأن مضمون هذه الأخبار هو المزيد من سفك
الدم العراقي. أقول أن هذه المحنة التي يمر بها العراق اليوم، لا ترضي
أحدا، وتستفز الأصم من الناس فما بالك بالمتابع للشأن العراقي والحريص
على شعبه وأمته.
ولكن هل فداحة المأساة العراقية، تبرر لنا صب الزيت على النار ودعوة
العراقيين إلى قتل بعضهم البعض. لا شك أن العراق بحاجة إلى دعم كل
العرب والمسلمين، ولكنه الدعم الذي يساهم في إيقاف المحنة، ويساعد على
إنهاء مسلسل سفك الدماء العراقية. ولكن الدعم الذي يتجسد في تشجيع
العراقيين على قتل بعضهم البعض، وتمزيق لحمتهم الداخلية، وتأليب
الطوائف على بعضها البعض، فإنه على العكس من ذلك تماما. حيث إن هذه
النوعية من الدعم، تديم المحنة العراقية، وتوفر كل الأغطية اللازمة
لاستمرار سفك الدم العراقي.
إننا مع دعم العراق، ويؤلمنا ما يجري في العراق، ونتطلع إلى ذلك
اليوم الذي يعم الأمن والاستقرار العراق.. ولكن تطييف المحنة العراقية،
وإعطاءها بعدا مذهبيا صارخا، يضر بحاضر العراق ومستقبله، ولا يفضي إلى
معالجة سريعة للمحنة العراقية.
إن سفك الدم العراقي جريمة، سواء صدرت هذه الجريمة من طرف شيعي أو
سني أو كردي، وإن إنهاء المحنة العراقية، لا يتم بتأليب العراقيين على
بعضهم البعض، بل بالبحث معهم عن سبل عملية لوقف نزيف الدم، وخلق
التوافق السياسي الضروري بين مختلف مكونات وتعبيرات الشعب العراقي.
ويخطئ من يتصور أن الصورة المثلى لدعم العراق، هي في تأليب بعضه على
البعض الآخر. لأن هذا التأليب يحول العراق بأسره إلى كرة نار، لا تحرق
العراق فحسب بل قد تتعداه لا سمح الله إلى كل المنطقة.
صحيح أن الاقتتال الطائفي الحاصل اليوم في العراق، يزعجنا ويستفزنا
على كل المستويات. ولكن من قال أن لغة التأليب والتحريض هي التي ستنهي
هذا الاقتتال. إننا نعتقد أن هذه اللغة وهذا الخطاب التحريضي والتمزيقي
للعراق، يهدد وحدة العراق، ويشعل أزمة العراق ويدخلها في أتون أزمة
مذهبية خطيرة لا يعلم أحد مداها.
لهذا كله ومن أجل العراق أرضا وشعبا، ومن أجل مساعدته للخروج من
محنة الاحتلال التي يتعرض لها، بحاجة أن نفكر مليا في كيفية دعم شعب
العراق في محنته الحالية. فليس مطلوبا من الشيعي في خارج العراق، أن
يصطف مع شيعة العراق بمقدار ما هو مطلوب منه أن يصطف مع العراق كله بكل
فئاته وشرائحه. وليس مطلوبا من السني في خارج العراق، أن يصطف مع سنة
العراق، بمقدار ما هو مطلوب منه أن يصطف مع العراق كله.
فالاصطفافات الطائفية خارج العراق، تضر بالعراق، ونحن أحوج ما نكون
اليوم إلى خلق كتلة دينية وسياسية عربية وإسلامية مشتركة للقيام
بمبادرات تساهم في حقن الدماء العراقية ووقف الاقتتال الطائفي. فما
يجري في العراق يؤلمنا جميعا، وليس من صالح العراق والمنطقة بأسرها أن
نزيد حالات الاحتقان الطائفي. بل المطلوب خلق مبادرة سنية - شيعية من
مختلف المناطق والبلدان، تأخذ على عاتقها مساعدة الشعب العراقي على
الخروج من محنته، والوقوف بحزم ضد كل أشكال الاقتتال والاحتراب
الطائفي. فالعراق لا يدعم بالمزيد من التشنج الطائفي والتحريض المذهبي،
بل يدعم بذلك الخطاب الجامع الذي يتعامل مع العراق بكل فئاته
وتعبيراته، ويسعى لضبط نزعات الاقتتال والفتنة لدى جميع الأطراف.
فنحن بحاجة اليوم إلى مبادرات وبيانات تحقن الدم العراقي ولا تحرض
العراق على بعضه البعض. وإلى مساعدة العراقيين للتعجيل بتوافقهم
السياسي لجدولة انسحاب قوات الاحتلال الأجنبي من العراق. فدعم العراق
مطلوب، ومساعدة الشعب العراقي في محنته ضرورة دينية وأخلاقية وإنسانية،
ولكن العراق بحاجة اليوم إلى الدعم الذي يوقف اقتتاله الداخلي وحربه
الطائفية العبثية. ونحن مع كل مبادرة في هذا الاتجاه. أما المبادرات
التي تساهم في زيادة وتيرة الاحتقان الطائفي، فإننا نحذر من خطرها ليس
على العراق وحده بل على المنطقة كلها.
لهذا فإننا ينبغي اليوم لنا أن نذكر بعضنا البعض بأهمية الابتعاد
قدر المستطاع عن نهج التحريض المذهبي الذي لا نجني منه جميعا إلا
المزيد من الاحتقان والتدهور.
وحتى تكتمل رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري القول: أن العراق لا
يحكم بغلبة طائفة على أخرى أو قومية على أخرى. بل يحكم بمشاركة كل
الفئات والمكونات. ويخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يحكم العراق بوحده.
فشيعة العراق بحاجة إلى سنته لحكم العراق. وعرب العراق بحاجة إلى كرده
وتركمانه لحكم العراق. ولا مجال في عراق اليوم لانتصار كاسح لأحد
الأطراف. فكل الأطراف بحاجة إلى بعضها البعض لخلق نظام سياسي توافقي،
يضمن مشاركة الجميع، ويصون حقوق ومكاسب الجميع.
فالعراق لا يحكم اليوم بالأكثرية والأقلية، وإنما بالتوافق بين جميع
مكوناته وفئاته.
ولا تستطيع أي طائفة في العراق اليوم، أن تستفرد بحكم العراق حتى
ولو كانت هي الأكثرية العددية في العراق. وبلغة أكثر صراحة، العراق لا
يحكم بالشيعة وحدهم، حتى ولو كانوا هم أكثرية العراقيين. ولا يحكم
بالسنة وحدهم حتى ولو كانوا هم عمق العراق العربي والاستراتيجي. ولا
يحكم بالأكراد بوحدهم، حتى ولو كانوا هم تحت الحماية الأمريكية اليوم.
فالعراق من أقصاه إلى أقصاه يحكم بالتوافق والمشاركة العادلة
والمتوازنة. ومهمة العرب والمسلمين الأساسية اليوم، ليس تحريض
العراقيين على بعضهم البعض، بل تشجيعهم وحثهم على التوافق والاتفاق.
وإننا ندعو جميع العراقيين إلى الإسراع في بناء توافقهم السياسي بعيدا
عن لغة الغلبة والمغالبة. فالعراق يحتاج إلى جميع أبنائه وطوائفه، ولا
يمكن لقافلة العراق أن تسير بعجلة واحدة.
من هنا فإننا مع دعم العراق، ولكنه الدعم الذي يفضي ويشجعهم على
التوافق والوحدة، وليس المزيد من التحريض والاقتتال. والتوافق والوحدة
هنا، لا يمكن أن تتم بغلبة طائفة على أخرى، وإنما بخلق توازن طائفي
قادر على إدارة العراق وإخراجه من محنته الراهنة.
فالاقتتال المذهبي يستفزنا، وعمليات التطهير الطائفي تقلقنا. ولكن
هذا القلق والاستفزاز ينبغي أن لا يقودنا إلى التحريض المذهبي
والاصطفاف الطائفي. وإنما على العكس من ذلك تماما. حيث أن المطلوب
مساعدة العراق من هذه المحنة الطائفية بأقل الخسائر الممكنة. فليخرج
الجميع من السجن الطائفي إلى رحاب الوحدة والتوافق والوطن الجامع لكل
الأطياف والتعبيرات الدينية والمذهبية والقومية.
إن كل الدم العراقي حرام سفكه، ولا يجوز لنا من أي موقع كنا، أن
نمارس التحريض أو تبرير عمليات القتل في العراق. ووجود دماء مسفوكة في
العراق ظلما وعدوانا، لا يبرر لنا من أي موقع كنا فيه، أن نشجع على
القتل والتدمير.
فلندعم العراق للخروج من محنته، وذلك عبر تشجيعهم على الوحدة
والتوافق وبناء نظام سياسي عادل تشارك فيه كل قوى وتعبيرات العراق على
حد سواء.
فالقتل لا يبرر القتل، والتحريض لا يقاوم بالتحريض المقابل، والتعدد
الديني والمذهبي والقومي لا يدار بعقلية الاصطفاء والاستفراد
والاستئثار، وإنما بنهج المشاركة والمسؤولية المفتوحة على كل المبادرات
التي تنشد الخير والأمن والاستقرار للجميع.
وإن مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، لا يتم عبر تأجيج المشاعر
الطائفية والمذهبية، وإنما عبر التعامل الحكيم والواعي مع الوجودات
المذهبية في المنطقة. ويرتكب جريمة كبرى بحق الوطن والمنطقة، كل من
يعتقد ويعمل على تأجيج الفتن الطائفية بدعوى مواجهة النفوذ الإيراني.
وذلك لأن النفوذ السياسي لأي دولة لا يمكن مواجهته بالصراخ والعويل
وتأجيج الفتن والتوترات المذهبية، وإنما تتم المواجهة بالبناء الوطني
السليم، الذي يفسح المجال القانوني والسياسي والثقافي لكل التعبيرات
والأطياف للمساهمة في البناء وتعزيز اللحمة الداخلية.
وجماع القول: إننا مع دعم العراق، ذلك الدعم الذي يساهم في إخماد
الفتن ومعالجة كل التوترات المذهبية والسياسية وصياغة الوفاق السياسي
الوطني، الذي يخرج هذا البلد الشقيق والعريق من أتون القتل اليومي
لأبنائه والتدمير الممنهج لبنيته التحتية.
إننا مع العراق الذي ينعم فيه جميع أبنائه بكل الحقوق والمكاسب،
وعلينا أن نعمل على دعم الوفاق العراقي بكل مستوياته ودوائره. |