فضيلة الشيخ القرضاوي

ابو محمد الحسني

 بسم الله الرحمن الرحيم

(فَبَشِّرْ عِبَادِ Q الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر: 17 ـ 18).

فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اكتب إليكم من رحاب بيت الله الحرام في مكة المكرمة حيث الصفاء الروحي لضيوف الرحمن والجوّ المفعم بالإيمان. ورغم انشغال الحجيج بأداء مراسيم الحج والعبادة في رحاب البيت العتيق إلاّ أني صدمت بشدة لمقاطع من خطبة الجمعة التي نشرتها عنكم الصحافة اليومية، فارتأيت الكتابة إليكم أداءً للواجب واهتماماً بصلاح الأمة.

وقبل أن أُعلّق على فقرات الخطبة أوّد التنويه بأني انتمي إلى أسرة علمية تتشرف بالانتساب للدوحة الهاشمية، وهي مثل جُلّ الأسر العراقية التي كانت ضحية نظام الطاغية في العراق حيث استشهد من أسرتنا حوالي ستين شخصاً من الرجال والنساء ـ شيوخاً وشباباً وأطفالاً ـ بمن فيهم الطفلة زينب بعمر ثماني سنوات وأخواها اليافعان عبد الحميد وعبد المجيد وأبواهم العجوزان الذين قتلهم صدام وأعدمهم ولم تُسلَّم جثامينهم، كما اعتقل العشرات من أفراد الأسرة، بمن فيهم أنا شخصياً حيث أمضيت حوالي ثماني سنوات ونصفاً في معتقلات الطاغية الرهيبة من دون ان نشاهد حاكماً ولا محكمة، ولمست ورأيت بأم عيني جانباً من جرائم النظام المروّعة وسمعت بأذني صراخ الأطفال الرضع مع ذويهم في المعتقلات، ولا أريد أن أسرد مآسينا التي تشبه مآسي جلّ العراقيين في عهد الطاغية، لأن سرد ذلك لا تكفيه مجلدات وتعجز عنه مفردات اللغة، ولا يكاد يصدّقه إنسان، فمن أساليب التعذيب الرهيبة إلى الاستهانة بالحرمات إلى الاعتداءات المخزية على النساء المسلمات المصونات إلى قتل وتعذيب الأطفال أمام ذويهم... وغير ذلك، يكفي أن تعرف ـ جناب الشيخ ـ أن الطاغية حشر عشرات الشباب والشابات لمدة تناهز أربعة أشهر في إحدى زنازين معتقلات الأمن العامة بعد أن جرّد الجميع من ملابسهم تماماً حتى اضطر الشباب المؤمنون أن يصلّوا على عكس القبلة طيلة هذه الفترة تجنباً للاحتكاك الجسدي مع الشابات اللاتي حشرن في النصف الثاني من الزنزانة الصغيرة ـ ومن دون ساتر أو حاجب ـ الذي كان باتجاه القبلة.

وهذا غيض من فيض لجرائم هذا الطاغية المتوحش الذي ملأ سهول العراق وبواديه بالمقابر الجماعية فضلاً عن آلاف الجثث التي قطّعها بجهاز المفرمة والآلاف الأخرى التي ذوّبها في أحواض التيزاب والتي رأيت شخصياً إحداها في محوطة معتقلات الأمن العامة.

أقول: من الغريب أن ينتفض فجأة (الضمير العربي) ويصحو الكثير من العرب بعد سبات طويل ليتحدّثوا عن مبادئ الإسلام والضمير الإنساني لمجرّد أن الطاغية أعدم في يوم العيد! ولذلك ارتأيت التعليق على هذه (الصحوة) التي كنتم طرفاً فيها.

1 ـ أين كانت هذه المشاعر الإنسانية والمسؤولية الشرعية المزعومة عندما كان الطاغية يوغل في جرائمه البشعة بحق الشعب العراقي وشعوب المنطقة؟! ألم يكن الكثير من العرب يصفّقون ويباركون له انتصاراته المزعومة ويطبّلون (للقائد الضرورة والقائد الملهم وبطل التحرير القومي) وغيرها من الألقاب الرنانة الجوفاء، وكأنه حرّر أرض فلسطين والقدس الشريف! أو كأنه أنقذهم من براثن التخلف والجهل! أو خلّصهم من الأنظمة الدكتاتورية الجاثمة على صدورهم، على خلاف باقي شعوب المعمورة التي تنعم ولو بشيء من الحرية و الكرامة، وهل نسي العرب والمسلمون أن الطاغية الحاكم العربي الوحيد الذي دعم الصرب المعتدين ابان حرب الإبادة ضد المسلمين في البوسنة والهرسك حيث استقبل رئيس أركان الجيش الصربي رسمياً وبحث التعاون العسكري بين الطرفين وبثت وسائل الإعلام العراقية ذلك في حينه.

2 ـ من الغريب افتعال ضجة مسعورة بهذه الضخامة والحجم عند إعدام الطاغية، أتراها ـ يا جناب الشيخ ـ لمجرّد العيد، أو أن وراءها بعض الأنظمة العربية التي تريد تثبيت وراثتها على البلاد العربية سواء على الطريقة (الملكية) أم (الجمهورية). والأغرب أن ينظّر لهذه الضجة بعض المشايخ وكأن صداماً كان يحترم عيداً أو حرمة، أود أن أحكي لكم قضية رأيتها مع مئات المعتقلين في معتقل الأمن العامة في يوم عيد الفطر عام 1984 عندما جاء علي حسن المجيد ـ المعروف بعلي كيمياوي ـ وكان مديراً للأمن العامة آنذاك حيث شدّد العقوبة من السجن المؤبد إلى الإعدام يوم العيد على شخص من أهالي بغداد لمجرّد أنه  قال مازحاً ـ: (قادسية عبّود العربنجي) وقد أمضى صدام الحكم بالاعدام، فأعدم المسكين سريعاً لهذا الكلمة، ولم يشفع له العيد ولا توسلاته للطاغية.

وبينما كان الشاعر العربي ـ في القرن الماضي ـ يستهجن ويندّد بالمعايير الغربية المزدوجة حيث يقول:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر                وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر

وإذا بنا نجد في عالمنا العربي ما هو أسوأ بكثير وأنكى حيث صار قتل طاغية دمّر الحرث والنسل جريمة لا تغتفر، وقتل شعوب آمنة بالمقابر الجماعية والحروب العابثة مسألة فيها نظر!!

ألا يستدعي ذلك وقفة مسؤولة ودراسة جادة لهذا التردّي، ومن هو المسؤول عن ذلك، ومن الذي أوصل الأمة إلى هذا المنحدر؟!

3 ـ أوّد أن استفسر منكم ومن المشايخ الذين ساهموا في هذه الضجة متسائلاً هل هناك مستند من كتاب أو سنّة تمنع إنزال العقوبة بالمجرم يوم العيد، ألم تكن الحدود وأحكام القصاص تقام قديماً وحديثاً بالمدانين يوم العيد، وكان من جملتهم (الحلاج) الذي قتله الوالي يوم العيد ولم نسمع أو نقرأ استنكاراً من أحد.

وفي عصورنا القريبة كانت تقام مراسيم تنفيذ الأحكام القضائية أمام انظار الجمهور في بعض البلاد الإسلامية المعروفة رغم أنها ممن ساهم في إثارة الضجة الآن!

ثم أليس من حق المظلوم أن يبتهج بالقصاص من قاتل أبيه يوم العيد؟! فلماذا تحرم هذه البهجة على ملايين العراقيين الذين قتل الطاغية ذويهم أبان حكمه الأسود؟!

ثم هل هناك حكومة عربية توقّت ممارساتها على أساس تاريخ معتمد في دولة أخرى؟ خاصةً إذا أخذنا بالاعتبار أن التاريخ المعتمد في العراق وبعض الدول العربية والإسلامية في شهر ذي الحجة ينسجم مع إجماع المراصد الفلكية، على خلاف ما تبنته دول عربية أخرى.

4 ـ من الغريب وصفكم لصدام بأنه (الرجل الذي لم يستطع الأمريكيون أن يروّضوه) متناسين أنه بالأساس مطيّتهم، كما تجلّى ذلك في مواقف الأمريكيين في الحرب العراقية الإيرانية وما قبلها حتى إنهم ساهموا في إزاحة سلفه أحمد حسن البكر واستبداله بصدام قبيل الحرب بعام واحد لكونه المطيّة المناسبة لتفيذ سياساتهم آنذاك، وتدخّلت طائراتهم (الآواكس) تدخلاً مباشراً لصالح الطاغية، بالإضافة إلى بعض رجالاتهم في المنطقة. وحبذا أن تراجعوا رسالة الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريغان) إلى صدام عام 1988م.

ثم عندما تجاوزت رعونته كل المقاييس وقرّر الأمريكيون إذلاله استجاب لهم في كل ما أرادوه حتى إنه فتح له غرفة نومه ليفتشوها في سابقة ليس لها نظير. وعندما أرادوا التخلّص منه لكونه من عملاء استراتيجيتهم القديمة ـ في فترة الحرب الباردة ـ التي أرادوا التخلّص منها ومن كل توابعها تخلّصوا منه بلمحة بصر وهرب (القائد الضرورة) تاركاً جيشه الممزّق، ليختبئ في جحر تمّ استخراجه منه بذلّة وهوان لا نظير لهما.

5 ـ ومن المثير للدهشة تباهيكم بأن صداماً أطلق 39 صاروخاً على إسرائيل.

وكأنكم تناسيتم أنكم في حينها قرأتموها بشكل معاكس تماماً، حيث اعتبرتموها محاولة ساذجة من الطاغية لكسب ودّ الرأي العام العربي، وقال العرب في حينها: أين كانت هذه الصواريخ قبل الهجوم على الكويت وما تبعه من تلاشي قوات الطاغية، وإن هذه الصواريخ المعدودة التي أطلقها بقايا جيش ممزّق لا تضرّ بإسرائيل ـ بل خدمتها حيث اكتسبت بذلك تعاطف الرأي العام العالمي ـ بل الذي كانت تخشاه إسرائيل هي:

أولاً: الجيوش العربية القوية التي دمّر صدام العديد منها، بما فيها الجيش العراقي الذي دمّره صدام في حروبه العابثة وتعيين أقاربه وأعوانه من غير العسكريين قادةً عليه.

وثانياً: وحدة الهم والصف العربي الذي مزّقه الطاغية بسياساته الهوجاء وهباته الحرام لبعض العرب.

ثالثاً: الإمكانات الاقتصادية العربية الهائلة التي بدّدها صدام بسياساته العدوانية ضد الكثير منها. حتى غدت مدينةً بعد أن كانت دائنة، ويكفي أن تعرف أن ديون العراق ارتفعت في عهد الطاغية إلى أكثر من 450 مليار دولار إضافة إلى غرامات حروبه العابثة.

كما ان الكثير من الدول العربية ومنها (مصر) و(قطر) كانت تحارب صداماً في تلك المعركة أبان ضرب الصواريخ. فكيف كان ضرب الصواريخ محاولة مفضوحة وساذجة من الطاغية في حينها، وإذا بها تتحول إلى مأثرة لصدام بعد خمسة عشر عاماً؟! خاصة إذا تذكرّنا أن صداماً دفع لكل صاروخ عشرات الملايين من الدولارات كتعويض لإسرائيل ـ رغم انها لم تصب قوات أو منشآت عسكرية أو اقتصادية ـ حتى ان الإسرائيليين كانوا يتمنّون لو ان تلك الصواريخ كانت أكثر عدداً!

6 ـ وأما قضيّة المفاعل النووي فهي لا تقلّ فضيحة عن غيرها، حيث انكشف للجميع الدور الفرنسي ـ صديق العرب وباني المفاعل ـ في تزويد الإسرائيليين بالخرائط والمواقع، ومع ذلك لم يتخذ (القائد الملهم) أي إجراء لا ضدّ إسرائيل ولا ضد الفرنسيين، بل أعطاهم مئات الملايين من الدولارات قيمة المفاعل المدّمر، فنهبت أموال العراق بذلك من دون مسائلة أو رقيب.

7 ـ الغريب أنكم تحدثتم عن صلاح صدام واستقامته في سنواته الأخيرة اعتماداً على من وصفتموه (بإخوانكم العراقيين)! وانه كان يقرأ القرآن ويبني المساجد!

أ ـ ألا تتصور ـ يا شيخ ـ أن هذه هي ثقافة الطغيان، وأنّها تبرّر للطغاة طغيانهم، حيث يفسح المجال للطغاة ليمارسوا ما يحلو لهم وما تدفعهم إليه نوازعهم الشريرة من مجازر وجرائم وحشية وملذاتهم المحرّمة ويعيثون في الأرض فساداً ونهباً، وبعد أن تضيق بهم السبل يقرؤون آيات من القرآن الكريم ويبنون المساجد من أموال ابتزوها بالحرام، فيتحوّلون إلى قديسيين وأتقياء!! مهلاً مهلاً: ما هكذا جاء به الكتاب والسّنة. وما هكذا تستحّق الجنّة يا شيخ؟! وحبذا أن أخبرك أن هذا (القارئ للقرآن) كان يمنع المواطنين في عهده من قراءة القرآن، ففي معتقل الأمن العامة الواسع لم يكن هناك سوى نسخة عتيقة ـ تتكسر أوراقها الصفراء ـ من قرآن صغير جداً استطاع أحد المعتقلين تسريبه بعيداً عن أعين الجلاوزة، ولا يجرؤ أحد من المعتقلين القراءة فيه؛ لأن ذلك كان كافياً لتشديد عقوبتهم، حتى قال لي أحد المعتقلين المصريين وهو المهندس أبو المعاطي: إني أخجل أن أقول إني في بلد إسلامي.

ب ـ إن ما عشناه من سياسة صدام في سنواته الأخيرة لا يختلف عن سلسلة سياساته المشؤومة قبلها، فقد استمرت موجات الإعدام في سجونه المظلمة حتى انه اعدم الأعداد الهائلة من المعتقلين السياسيين وغيرهم من الأبرياء قبيل الحرب الأخيرة، وفي مقابل ذلك أطلق سراح أعضاء العصابات الإجرامية الخطرة من القتلة والسفاحين ليعيثوا في المجتمع العراقي عتواً وفساداً.

وبلغ من تمسّكه بعرشه الذي بناه على جماجم الأبرياء أن رفض كل دعوات الحكمة والعقل من العرب وغيرهم بالتخلي عن السلطة لتجنيب العراق وشعبه والمنطقة حرباً جديدة، وبدلاً من ذلك أعلن فوزه في (انتخابات) مثيرة للسخرية بنسبة 100% وسلّم مقاليد البلاد والقوات المسلحة لعدد من أقاربه وأعوانه الجهلة فقسّم قيادة القوات المسلحة والبلاد إلى أربعة قواطع، فسلّم أحدها إلى ولده النزق قصي، والثاني إلى ابن عمه علي كمياوي ـ وهو مفوض شرطة من الدرجة السادسة ـ والثالث إلى أحد أعوانه الحزبيين وتولى هو قيادة منطقة بغداد، وهو غير عسكري.

فهل هذه الممارسات هي مؤشرات صلاحه المزعوم!

ج ـ كيف يغيب عنك  ـ يا شيخ ـ أن توبة المذنب المعتدي العادي تتوقف على إظهار ندمه وسعيه لإرجاع حقوق من اعتدى عليهم. فكيف بطاغية أهلك الحرث والنسل، فلم يعلن يوماً ندمه على جرائمه ولا سعيه في إرجاع حقوق ضحاياه وذويهم بل تمادى في الظلم إلى حين سقوط عرشه.

وعندما سنحت له الفرصة لحوالي عامين بعد اعتقاله لم يعبّر عن ندمه أو أسفه على جرائمه التي لا تعدّ ولا تحصى، ولم يسعَ إلى إرجاع ما نهبه من العراق ظلماً وعدواناً بما في ذلك الأرصدة والأملاك المنتشرة في أنحاء المعمورة ـ خاصة في الغرب ـ التي نهبها من العراق، والتي بدأ بعضها ينكشف تدريجياً حيث أعلنت الحكومة الفرنسية انها سوف تعيد بعض ممتلكات الطاغية ومنها بعض القصور الشاهقة على البحر المتوسط!

فأين توبته وأين صلاحه المزعوم؟!

د ـ وأما أولئك (الأخوة العراقيون) الذين أخبروك عن صلاحه فهم حفنة من أزلام الطاغية ممن اعتاش على فتات موائده الحرام، ومارس العديد منهم الجرائم البشعة بحق الأبرياء العراقيين، وقد اتخذ بعضهم مسميات دينية تنفيذاً لتوجيهات جهاز مخابرات النظام التي أصدرها قبيل سقوطه (تصلكم صورة مرفقة منه) وهؤلاء يؤدون حالياً أدواراً مشابهة لما كانوا يقومون به أبان حكم الطاغية، وهم المصداق البارز لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).

ونحن العراقيون نعرفهم بأشخاصهم ومسمياتهم الحقيقية.

8 ـ الغريب انكم ـ جناب الشيخ ـ وضعتم أنفسكم موضع القاضي من بعيد فحكمتم بأن المحكمة أمريكية لا عراقية متناسين أوّلاً رسميّتها من برلمان عراقي منتخب ـ قلما يوجد نظيره من حيث البعد الشعبي والحرية المتاحة في بلدان عربية أخرى ـ.

وقد اُعطيتْ لصدام وأعوانه فرصة طويلة ومفتوحة لا تمنحها أية جهة قضائية عربية،ولم يكن صدام يمنح الجزء الضئيل منها لضحاياه، حيث كان يتم الحكم على المئات منهم بلمحة بصر ـ كما شاهدناه في فترة اعتقالنا ـ بل في نفس قضية الدجيل تم الحكم الوهمي بالإعدام من جانب المجرم (عواد البندر) وتصديق صدام له على العشرات من ضحايا الحادث مع أنهم كانوا قد استشهدوا في التعذيب القاسي ولم يشاهدوا حاكماً ولا محكمة ولو صورية ـ كما سمع العالم ذلك كله عبر شاشات التلفزيون ـ.

وكن على ثقة ـ يا شيخ ـ ان الموقف الأمريكي كان موقف المماطل من إعدام صدام، رعاية لضغوط أوربية وعربية رسمية، وإلاّ فان الأكثرية الساحقة من الشعب العراقي كانوا يضغطون على المسؤولين بالإسراع في إعدامه، وكان الكثير منهم يوّد المشاركة في ذلك، لما عانوه من المآسي والخراب على أيدي الطاغية المقبور.

9 ـ من المدهش تصوير الطاغية صدام بأنه رمز للسنة العرب، وأن في إعدامه إثارة لمشاعرهم، وهو موقف متناقض، لأنه لا ينسجم تماماً مع ما كنا نسمعه قبل إعدامه بأنه لا يمثّل إلاّ نفسه، وانه لا يجب تحميل السَّنة العرب مسؤولية جرائمه!

ثم أليس من حق الشاب العربي المثقف الذي يعيش عصر الانفتاح على الحضارات والشعوب الأخرى أن يتساءل: هل هذه هي الطريقة السليمة لخلق الرمز؟! وهل يليق بالعرب أن يكون أمثال صدام رموزاً لهم؟

ثم هل تبقى ثقة للمثقف العربي برموزه التاريخية ما دامت الماكنة الإعلامية الضخمة التي يموّلها بعض أمراء النفط والأنظمة العربية الأخرى تحاول جعل أبشع دكتاتور متوحش عرفه العصر الحديث رمزاً للأمة مع انكشاف الكثير من جرائمه، وملاحظة خصوصية عصر الانفتاح الذي نعيشه؟!

ثم لماذا تنأى الشعوب الأخرى عن الاعتزاز بطغاتها بل هم يأنفون ويتبرؤون منهم، بينما يصرّ هؤلاء العرب على اتخاذ الطاغية رمزاً؟! هل هو خلل فاضح في الثقافة العربية المعاصرة أو إفراز لهيمنة الأنظمة الدكتاتورية على المجتمعات العربية؟

10 ـ من المفجع حقاً أن ينزلق البعض في لعبة الفتنة الطائفية متناسين أهداف ومصالح من يغذيها ممن لم ترَ الأمة منهم خيراً بل كل همّهم المحافظة على عروشهم التي ورثوها من غير استحقاق واستغلّوها لممارسة أبشع الجرائم في حق الأمة، وفي تخلّفها عن ركب الحضارة والتطور رغم الإمكانات الهائلة التي حباها بها الله تعالى.

وقد كان واضحاً من سياسة الإعلام العربي ومن يقف خلفه تأجيج الفتنة الطائفية في قضية إعدام صدام. ومن معالمه أنهم اغفلوا ابتهاج الكويتيين ـ شعباً وحكومةً ـ وكذلك ابتهاج الأكراد العراقيين وأفراحهم، لئلا يعكسوا احتفالات هؤلاء الضحايا، وليصوّروا أن ضحايا الطاغية من طائفة واحدة.

ومن المضحك المبكي أن الجماعات السلفية المتطرفة تندب الطاغية اليوم متناسين فتاوى التكفير الصريحة الصادرة من الشيخ ابن باز في حق صدام حيث حكم بكفره صريحاً (وإن قال لا إله إلاّ الله وصام وصلى)، وشبّهه بعبد الله بن اُبي المنافق المعروف. كما كفره الزرقاوي قبل مقتله. وكذلك تحوّل هذا البعثي الذي يرفع شعار الاشتراكية إلى مؤمن عند هؤلاء، وهم يكفّرون جلّ الأمة لمخالفتهم لبعض متبنّياتهم؟! ما عشت أراك الدهر عجباً!

11 ـ من الغريب أن تشوّه الحقائق والواقع المعاش إلى هذه الحد غير المعقول، فتتحدثون عن إبادة السنة العرب في العراق.

وأني أتساءل أولاً: أين كان هذا القلق وهذا الصوت عندما مارس الطاغية صدام أبشع أنواع الجرائم وأوسعها بحق أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من العرب وغيرهم، ومارس عمليات الإبادة الجماعية بأبشع صورها حتى ملأ بأجسادهم مئات المقابر الجماعية وغيرها في سهول العراق وبواديه، وقتل آلاف المراجع والعلماء والمفكرين وطلبة العلوم الإسلامية (يرجى مراجعة ما وثقه الدكتور صاحب الحكيم رئيس منظمة حقوق الإنسان في العراق حيث جمع وثائق لآلاف المعتقلين والشهداء من العلماء من ضحايا الطاغية في ثلاث مجلدات ضخمة، وهي لا تمثل إلاّ جانباً من هذه الانتهاكات والإبادة الجماعية).

ثانياً: ألم يسمع الشيخ القرضاوي وغيره بالأعداد الهائلة من ضحايا نظام الطاغية من الشعب الكردي فلماذا لم ترتفع أصواتكم آنذاك لمنع وقوع هذه الإبادة الجماعة واستنكارها؟!

ثالثاً: ألم يشاهد الشيخ القرضاوي وغيره المجازر اليومية البشعة والإبادة الجماعية المستمرة التي يرتكبها الصداميون والتكفيريون المجرمون بحق شيعة آل البيت (عليهم السلام) في العراق منذ سقوط النظام والى الآن؟! رغم انهم كانوا هم المظلوم والمضطهد الأكبر في العراق أبان الطاغية ولم يقوموا بعمليات ثأر من جلاديهم وداسوا على مشاعرهم التزاماً بتوجيهات المرجعية الدينية.

هل السيارات المفخخة التي انفجر إلى الآن حوالي ألفي سيارة مفخخة في المساجد والأسواق والمدارس وأماكن تجمع الفقراء تستهدف الشيعة أو غيرهم؟

هل عمليات الزرقاوي المقبور وأعوانه وأمثاله من وحوش التنظيمات الإرهابية تستهدف الشيعة أو غيرهم؟!

ألم يعلن الزرقاوي في رسالته لابن لادن أنه عازم على قتل شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وإثارة حرب طائفية في العراق وأنه لولا مواقف علماء الشيعة وقادتهم لنجح في ذلك؟ فلماذا لم يستنكر عليه المشايخ وغيرهم؟

هل يعلم الشيخ القرضاوي ان هناك أكثر من (55.000) عائلة شيعية مهجرة في العراق كانوا يقطنون في مناطق مشتركة عاشوا في بغداد وغيرها فيها لمئات من السنين؟ وقد قتل الإرهابيون الكثير من ذويهم قبل تهجير عوائلهم؟

ألم يسمع الجميع بقتل الحجاج الشيعة العائدين من حج بيت الله الحرام في منطقة النخيب؟ بعد أن تمّ التمهيد لذلك بإثارة طائفية ساهم فيها ملك الاردن وطارق الهاشمي وغيرهما.

هل القتل الطائفي على الهوية في مناطق (اللطيفية) و(أبي غريب) و(العامرية) و(الدورة) و(ديالى) و(المدائن) و(المنطقة الغربية) وغيرها يستهدف شيعة آل البيتD أو غيرهم؟

أليست المدارس الدينية والمساجد التي تم فيها اكتشاف السيارات المفخّخة وغرف التعذيب وأجساد الضحايا وأماكن الاغتصاب كانت لغير الشيعة؟

حبذا لو ترسل جناب الشيخ ـ مبعوثين إلى المنطقة الغربية ونحوها لتجد هل يوجد فيها مسجد شيعي أو عائلة شيعية؟ وبالمقابل ترسل مبعوثين إلى المحافظات الوسطى والجنوبية ليروا مساجد أتباع المذاهب الأخرى وحريتهم في ممارسة عباداتهم، رغم اكتشاف العديد من السيارات المفخخة والأسلحة والإرهابيين في العديد من هذه المساجد؟

ألا يعرف الشيخ القرضاوي وغيره أن جُلّ من يتباكى عليهم  أتباع الطاغية والتكفيريون هم ثلة من الإرهابيين المجرمين الذي قُتلوا في مواجهات مع القوى الأمنية أو المواطنين، ولم يُقَتلوا لمجرد انتمائهم المذهبي، كما ان الكثير من العرب السنة ومشايخهم قد قتلوا في مواجهات وعمليات اغتيال قام بها الإرهابيون أنفسهم في بعض مناطق (بغداد) و(سامراء) و(الفلوجة) و(المنطقة الغربية) وغيرها، لكونهم من المعتدلين، وينسبون قتلهم للشيعة زوراً وبهتاناً، خاصة ان الكثير منهم قتل في المنطقة الغربية ونحوها مما لا وجود فيها لشيعة أهل البيت. والأنكى من كل ذلك أنهم يأخذون صور الضحايا الشيعة ممن قتلهم أو ذبحهم الإرهابيون والتكفيريون ويصوّرونهم كأنهم من السنّة العرب!

لماذا اذن هذه الغشاوة وهذا التشويه للحقيقة؟!

ألم تقف المرجعية الدينية في العراق موقف الصابر المتحمل اقتداءاً بأهل البيت (عليهم السلام) رغم التقتيل الطائفي وبيان التحريض والتكفير لبعض مشايخ السوء في العراق وبعض الدول العربية بمرأىً ومسمع من تلك الحكومات وبتشجيع أحياناً!

ألا يفترض بالعقلاء أن يتحملوا مسوؤلياتهم ويجنبّوا المنطقة العربية فتنة طائفية عمياء لا يتبقي ولا تذر في وقت تواجه الأمة ظروفاً لا تحسد عليها.

12 ـ أما آن الوقت للعالم العربي أن يتساءل عن السرّ الكامن وراء العمليات الإجرامية واسعة النطاق من تفخيخ السيارات في مدارس الأطفال والأسواق المكتظة والمصلين في المساجد وغيرها إلى قطع الرؤوس وهتك الأعراض بالجملة وغير ذلك. وكذلك عن السرّ الخفي وراء تخفي من يطلقون على أنفسهم اسم (المقاومة) في العراق، خلافاً لكل الأعراف وطبيعة الجماعات المسلحة المعارضة في العالم، حيث يكشف الجميع عن هوّيتهم لإقناع جمهورهم مع تقديم برنامج سياسي واضح، أما آن الوقت للعرب أن يربطوا بين تلك الجرائم المروّعة وهذا الإخفاء للهوية طيلة هذه السنين؟

نحن العراقيون نعرف جيّداً هوية هؤلاء ونواياهم وأهدافهم، فهم نفس الجلاّدين والقتلة، وهم لا يفكرون إلاّ باسترجاع سلطة القمع التي فقدوها بعد أن استغنى عنهم أسيادهم، وما عملياتهم إلاّ رسائل للأمريكان بأن هذا البلد لا يحكم إلاّ من خلالهم، وبمجرّد موافقة الأمريكان على ذلك سوف يغيّرون مواقفهم بلمحة بصر، كما عبّر عن ذلك مندوبهم إلى الأمريكيين (أيهم السامرائي) حيث قال للأمريكيين: (إني أحمل إليكم رسالة (المقاومة العراقية) اننا لا نعاديكم، ولذلك لم تبدأ عملياتنا بدخول قواتكم للعراق، وإنما بعد قراري حلّ حزب البعث، وحلّ الأجهزة الأمنية والعسكرية).

ومن التناقض الواضح أن قناة عربية معروفة تشن حملات إعلامية مكثفة ضد السياسة الأمريكية والكل يعرف أن هذه القناة مملوكة لدولة تستضيف القاعدة العسكرية الأمريكية العليا في المنطقة، وتقيم علاقات متميزة مع إسرائيل، حتى ان زوجة حاكمها وجهت دعوة للرئيس الإسرائيلي ـ في بادرة مثيرة! ـ ولم نسمع استنكاراً لا من الشيخ القرضاوي ولا من غيره فماذا يراد من كل ذلك؟!

وأوّد أن أتساءل لماذا تشنّ حملة إعلامية عربية مكثفة ضد الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي الذين استثمروا شعارات المحتل لتثبيت حقوقهم، وفرض ارادتهم ومصلحة الوطن بالطرق السلمية والحضور الجماهيري على غرار موقف المهاتما غاندي، بينما تغفل هذه القنوات الإعلامية وأصحابها الانسجام الكامل بين مواقف السّنة العرب في لبنان والإدارة الأمريكية بل الغرب عموماً؟ فلماذا هذا الكيل بمكيالين؟!

ويتساءل العراقيون: إذا كانت الدول والشخصيات العربية حريصة حقاً على مصالح الشعب العراقي فلماذا بادرت بأخذ غرامات باهضة من العراق جراء سياسات نظام الطاغية فهم ينهبون أموال الشعب العراقي بذريعة التعويض عن سياسات النظام في حقهم ثم يندبون الطاغية ويباركون له مواقفه وسياساته المدمرّة للشعب العراقي؟! ويكفي أن تعرف أن الدول العربية وشركاتها هي الوحيدة التي لم تشطب ولم تخفف (الديون القذرة) عن العراق التي بددها الطاغية لتكريس أساليب قمعه ولحروبه العابثة. ما هذا التناقض الغريب؟!

13 ـ من الضروري أن ينتبه العرب والمسلمون ويحذروا الجماعات الإرهابية والجهات الداعمة للإرهاب التي شوّهت صورة الإسلام الناصعة ورموزه الشامخة، كما نحذرّهم من أتباع الطاغية المعروفين بالكذب والدجل ـ بمسمّياتهم الجديدة المختلفة ـ الذين يعتاشون على فتات الموائد العربية بعد أن فقدوا فتات مائدة الطاغية ونبت أجسادهم على السحت والمال الحرام فقست قلوبهم، وتزيى بعضهم عمائم مزيفة وانتحلوا مسميات دينية جوفاء ـ تنفيذاً لتوجيهات مديرية مخابرات النظام البائد ـ بعد أن كانوا قد انتظموا في تشكيلات حزب البعث الذي لوّع العراقيين أبان حكم الطاغية.

14 ـ على جميع المسلمين وعلمائهم أن يقفوا بوجه المحاولات المستميتة لتشويه مدارس الصحابة الفكرية وتوجيهها بمزيج من ثقافة الخوارج والثقافة الأموية ـ بأبشع مراحلها ـ والتي من أهم معالمها:

 أ ــ العداء الصارخ لمدرسة آل البيت (عليهم السلام) والنهج الاعتدالي في المدارس الأخرى.

ب ـ العنصرية ضد الأقليات غير العربية.

ج ـ انتهاج سياسية القمع والتكفير والعنف ضد الآخرين.

يكفي أن نفكر ملياً ونقارن بين وضع المسلمين وانفتاحهم على بعضهم وعلى غيرهم أبان ازدهار مدرسة الصحابة والتابعين ممثلة بمصر وثقافة الأزهر العريق والقيروان في تونس وغيرها من المدارس الفكرية في البقاع الإسلامية.

بينما انقلبت الأمور رأساً على عقب بعد أفول تلك المدرسة وامتداداتها، وسيطرة مدرسة فكرية متطرفة لا تحتمل الرأي الآخر، وتعتمد العنف والسيف منطقاً لإسكات الآخرين.

لقد كان نموّ هذه المدرسة إفرازاً للموارد النفطية الهائلة التي تحكّمت في الإنسان العربي وهويته الثقافية والفكرية، فتحوّلت منتديات الحوار ومساجلات العلماء إلى مقامع بالحديد والنار والسيف، لتفجر وتذبح من لا يروق لها،فارتكبت فأقامت بذلك مجازر بشعة يندى لها جبين الإنسانية في باكستان وأفغانستان والجزائر والعراق وغيرها، لتمزق شمل الأمة وتشوّه الإسلام وأهله بما عجز عنه أعداؤه الصريحون حتى باتت صورة الإسلام المشرقة باهتة ومريبة عند شعوب المعمورة، مما يستدعي وقفة حقيقية من علماء الأمة ومثقفيها وإعلاميها وشخصّياتها المخلصة المؤثرة ليتحمّلوا مسؤولياتهم ويعيدوا رسم استراتجية جديدة تنتشل الأمة من هذا الوحل وهذه الكبوة، وتوصلها إلى برّ الأمان والسلام والازدهار والرقي. والله سبحانه من وراء القصد.

(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105). 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 6 شباط/2007 - 18 /محرم/1428