مثلما شهد الناس وقائع الإعدام من قبل ؛ فهم أنفسهم يشهدون اليوم
حجم الآلة الدعائية ومحافل نشوئها، ووقائع اصطفاف كل مريد لصدام من
حولها وما يهم به من مفاهيم عنصرية وطائفية بغيضة يرددها بلا حدود
أخلاقية أو حضارية.
وكم تأسف هذه الأمة المقهورة لمنهج هذه الآلة الدعائية وما كانت
ترمي إليه منذ ولادتها في بغداد، ونصيبها من ملايين الدولارات التي شدت
من عضدها وزادت في بنيتها بسطة وامتدادا.
لقد أعدم صدام فريدا وحيدا، وقامت قيامته وحيدا فريدا في عالم كفر
به ولم يؤمن برواياته فلا عقيدة له به ولا رجعة له بعد الإعدام إلا في
عوالم الحساب والقصاص حيث لا حزب ولا منظمة مخابرات ولا جهاز أمن
وحماية ولا فدائيون يجودون بأنفسهم دونه.
ولو قضي لهذه الأحزاب والمنظمات ومنتسبيها أن تؤمن بعالم ما وراء
الطبيعة على خلاف فكر صدام لما توانت لحظة في الجهاد من أجل تهريب
السلاح ومئات الملايين من الدولارات إلى هذا العالم لتشن بها فيه حملات
العنف والدعاية على طريق إعلاء رمزية صدام القائد وتبرئته من دماء
مليون عراقي ذبّحوا وصلبّوا وشنقوا وأبيدوا بالغازات السامة واستبيحت
أعراضهم وقطّعت أطفالهم أشلاء. فالحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل
ما يشاء غيره.
سقط صدام متدليا بحبل مشنقة سجن بناه نظامه بـ 100 مليون دولار
فقامت قيامته في عالم اتباعه، ففي كل يوم له منهم مجالس عزاء، ولقاءات
تأبين، وندوات تعظم وتجل صموده أمام حبل المشنقة.ويقابلها من مناهضيه
وضحاياه مجالس ولقاءات وندوات فرح وسرور وبهجة وأمل بصبح جديد يخلو منه
صدام الشخص، والفكر، والنظام، والحزب، الذي لم يكن بحاجة إلى التظاهر
بهذه البطولة المتأخرة أمام المشنقة، فالمكان في فكره لا اعتبار عقائدي
له، والواقعة لن تفضي إلى حقيقة مخيفة في ظنه، وذلك لكون صدام كافرا
بعالم ما بعد الموت ولم يؤمن به لحظة. وأما شهادته المتأخرة أيضا فهي
في هذا الاعتبار مظهر من مظاهر استكمال البطولة في جر العراق إلى حكم
الطائفة الواحدة عوضا عن حكم حزب البعث الذي قُبرت منظمته يوم انقلاب
صدام على الرفاق واستلامه رئاسة الدولة.
سقط صدام أمام مرأى ومسمع من الناس جميعا في يوم الجدل الأكبر
فاضطرب فيه فقهاء البلاط في منطقتنا العربية وعجزت حصيلتهم العلمية عن
التمييز بين فتاوى الحرب والقصاص في الأشهر الحرم وهم الذين يتراءون
لنا فقهاء عصر تشريعي لفرط حرصهم على سيادة حكم الخلافة بحكم
الانقلابيين!
أسقط صدام بيد عناصر منظمته الجديدة بعد الانقلاب على حزب البعث من
قبل يوم الجدل الأكبر هذا اكثر من مليون عراقي خلف مرأى ومسمع من الناس
جميعا فلا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان رسم المشهد العربي من بعد
إعدامه: اطلاع الناس بتفاصيل عملية الإعدام بالصوت والصورة إلى جانب
الجهل بشكل مطبق بوقائع تصفية صدام لمليون عراقي غصت بهم قبور صحارى
العراق المقفرة. فكان الحاكم في هذا المشهد: قصور الإعلام العراقي
المعارض من قبل ومن بعد في إظهار حقائق قمع وإرهاب دولة صدام بالوثائق
والصور والأرقام أمام الرأي العام العربي والدولي، وتكامل الآلة
الدعائية لنظام جمهورية صدام في إظهار بطولات القائد الضرورة وعدالته
المزعومة قبل إعدامه ومن بعده.
راح صدام إلى عالم الغيب حيث الحساب الأعظم الذي لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة إلا أحصاها، ولن يحسب ذووا ضحايا مقاصله ذويهم أمواتا بل أحياء
عند بهم يرزقون، ولكن الظلم لم يبرح رؤوس ذوي الضحايا وهم يشهدون في كل
يوم مجالس ولقاءات وندوات التعزية الدعائية لـبطولات صدام. ولكن عزائهم
الأكبر أن عالم اليوم بات يميز بحق الفرق والفاصل بين الدعاية والأعلام
برغم الهجمة الدعائية الشرسة، والتداول المخيف لمئات الملايين من
الدولار المهربة من العراق في الترويج الدعائي.
فما الفرق ببن الدعاية والإعلام في يوم الجدل الأكبر… يوم أعدم صدام
وشخصه وفكره وحزبه وما تلاه من مظاهر الوحدة الحرام بين رواد الطائفية
والعنصرية بأشكالهم وانتماءاتهم الحزبية والطائفية في عالم امتنا
العربية المهزومة؟!. فهذا مما لا يستحق الشرح أو البحث أو الدراسة بقصد
الإظهار والتبيان والإطالة والاستفاضة، وكان الفرق بين الدعاية
والإعلام في عالم اليوم نارا على علم من فرط شهرته وجلائه ووضوحه. ولكن
العنصر الأكثر إثارة وجذبا؛ انتساب طائفة عربية عظمى من المحسوبين على
الطبقة الوسطى المثقفة والمتدينة وما فوقها لنادي الدعاية الحرام،
وانثيالهم على ما تبقى من مليارات الدولارات المهربة من العراق،
وتبنيهم لفكرة التأجيج الطائفي والعنصري على قواعد مفاهيم أشاعها صدام
في حملته الإيمانية التي هدف من ورائها بناء نظام الطائفة الدكتاتورية
الواحدة بعد حرج العزلة التي صنعتها حروبه الداخلية والخارجية.
لن نبحث في الفرق بين الدعاية والإعلام، لأن تطرف الأجهزة الإعلامية
العربية في رصد الدعاية الطائفية والعنصرية وترويجها لمصلحة صدام بلا
موازين أخلاقية حضارية ؛ ساهمت إلى حد كبير في كشف معايير الحقيقة
الإعلامية وزيف الدعاية أمام الناس في ربوع عالمنا الإسلامي، كما ساهمت
في فرز رواد الدجل والنفاق والكذب الدعائي عن رواد الحقيقة الإعلامية.
وبذلك ستسقط منذ اليوم نظم ومنظمات سياسية وشخصيات وأحزاب وهيئات ورموز
اجتماعية وثقافية ودينية من اعتبار الحقيقة عند شعوب عالمنا العربي
والإسلامي.
فلا تستغرب اليوم إن وجدت أسماء لامعة في عالم الإعلام والدعوة كانت
تظهر وحدويتها وقوميتها وتدينها وإنسانيتها أمام ملأ من الناس ثم ينكشف
معدنها وما كان يخفيه من ميول طائفية وعنصرية متطرفة. وإذا بتلك
المفاهيم المثالية تقطر عسلا تترنح أمام ألفاظ سادية حين تتجلى الحقيقة
أمام وسائل القصاص والعدل.
لا تعجب منذ اليوم ليوم تسفر فيه مؤسسة إعلامية عن دعاية طائفية
وعنصرية سمجة يتلفظ بها ذاك الداعية ذو اللحية الطويلة وسيماء المتقين
الزاهدين ومنشد الوحدة وسيادة الدين… ولا تعجب لدعاية سمجة يتلفظ بها
قومي أو يرددها داعية إسلامي مثقف، حزبي أو مدني مستقل… فكلاهما يتعاطى
الحرام بألفاظ لم تألفها من مثلهم من قبل، من مثل : الصفويين،
الباطنيين الحاقدين، عباد الأضرحة، شاتمي الصحابة، عملاء الأمريكان،
أعداء الأمة العربية، قاتلي السنة في العراق، عملاء إيران، عملاء
هولاكو، وما إلى ذلك من ألفاظ باتت معروفة ومميزة بتميز أصحابها
القدامى في دوائر بغداد الضيقة الخاصة.
إذا ما صادف ووجدت نفسك أمام مشهد دعائي من مثل هذا كله فلا يأخذنك
الحد فيه على صاحبه، وتبسم تبسم الشامتين لفرط عناد عواطفه الجاهلية
ومصالحه الدنيوية، واعطف على فقره الذهني أو ظنه أو ثقته في استجابة
الناس من حوله لما يروم إليه من مسح لفطرة الناس وعقولها. فإنك بكل
يقين ستشارك بذلك مليار ونصف منصف من المسلمين السنة والشيعة وممن لهم
نصيب وافر من العلم أو التقوى أو كلاهما معا، أو ممن لهم نصيب جلي من
الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولن تأخذك في الله لومة لائم ولا
تأبه لعبدة الدعاية الشيطانية أو غيرهم …وثق تماما أن عالم اليوم لا
تحكمه مهازل الدعاية التي جبل عليها عشاق الطائفية والعنصرية
والشوفينية الذين فشلوا قوميا في استنهاض الأمة العربية بمنأى عن دينها
وقيمها، وفرقوا بينها ونصوص الشريعة، وحرفوا التاريخ وحكّموا سيرة
العباسيين والأمويين، وباعدوا بين فقهاء الأمة وحقهم في الزعامة
والريادة واختلقوا للرعية بدائل برموز شيطانية نصّبت نفسها زعامة قومية
مرة وزعامة قطرية مرة أخرى.
وهم إذ يفشلون اليوم في كل ذلك ؛ فهم الساعون بدعاياتهم بعد إعدام
صدام إلى استنهاض الأمة العربية على جرف عنصري وطائفي هار، وأنى لهم
هذا والسماء السابعة أقرب لهم من ذلك ! |