واضح طبعاً أنَّ الموضوع الّذي أسوّقه لكم هذا المساء هو من نوع
غير معتاد في حوارات هذا العصر الّذي تستحوذ فيه على جلّ اهتمامات
النّاس قضايا متفاعلة بقوّة داخل مجتمعاتهم كما هي متفاعلة بقوّة بين
ما ينتمون لها من إيديولوجيّات وأديان وأعراق وأمم ودول... قضايا
سياسيّة، ثقافيّة، اقتصاديّة، أمنيّة، وسواها، لا تبرح تثير الخلافات
حولها اضطراباً منهكاً ومعيقاً في العلائق الإنسانيّة.... هذا بالرغم
من تحقق يُسرٍ اقتصادي وسُهولة تعارف وتواصل إبّان العقود الأخيرة
عالميّاً على نحو غير مسبوق.
ولأنَّ فهم المرء لنفسه يشكّل عاملاً جذريّاً في صياغة تعامله مع
مختلف الأمور، وتحديداً مع القضايا مثار الخلاف والخصام، فقد توخّيتُ
شيئاً من الفائدة من طرق هذا الموضوع من وجهة فلسفيّة، تحديداً من باب
استذكار ما أكّد عليه أهل الحكمة في مختلف الحضارات في مختلف العصور
أنَّ المعرفة والاستقامة ، ومن ترافدهما تتولّد الحكمة، هما أهم عاملين
في تهذيب الخبرة الإنسانيّة وتطويرها للأمثل.
الحديث هو بعنوان:
فهم الإنسان لنفسه – منظور فلسفي
لفهم الإنسان لنفسه علاقة صميمة بنَسَق نظره للوجود ونمط مسلكه في
الحياة. فإذا فهم المرء نفسه على أنّه جرمٌ صغير محدود منفصل، تصرّف
كجرمٍ صغير محدود منفصل. عندها ينحصر جلّ همّه في نفسه، فإن تعرّض همّه
من بعد ذلك فإنّه يبقى ضمن خصوصيّته، مُنشدّاً، مراراً ما بقدرٍ من
تعصّب، إلى قبيلة أو قوم أو دولة أو دين. أمّا إذا فهم المرء نفسه أنّه
ذات موصولة بمطلق الوجود، أنّه فيض من معين منه فيض الوجود بأسره،
تصرّف من عُرض نظر يعتبر الكون كلّه مجاله، الأرض كلّها موطنه، الحيوان
جميعه رفقة الحياة، والبشر عامّة إخوة في الإنسانيّة، أو كما عبّر
الإمام عليّ بن أبي طالب في عهد كتبه لوالٍ ولاّه على مصر.... اعتبر
النّاس عامّةً نظراء في الخلق، أي سواسية في الإنسانيّة الأم، لذا
متساوين أصالة في الكرامة والحرمة والحقوق.
بصدد إيقاظ هذا الوعي الكوني الأعرض في الإنسان تُنسب للإمام عليّ
أيضاً أبيات طالما ردّدها أهل العرفان في منتدياتهم، لكنّها، كعديد من
المأثورات الفكريّة الّتي استُودِعت أدق وألطف مُدركات الحضارة
العربيّة الإسلاميّة، ما استوعِبت في الثقافة العامّة بعمق، بل كثيراً
ما رُوّج عكسها من مقولات تذهب إلى تضييق الأفق الفكري، ومنها ما يذهب
تحديداً إلى تكريس محدوديّة الإنسان والحكم عليه أنّه كائن ناقص
الكينونة قاصر القابليّة للتّطور للأحسن.
الأبيات الثلاثة المنسوبة للإمام عليّ بهذا الصّدد، هي:
دواؤك فيك وما
تُبصر وداؤك منك وما تشعر
وأنت الكتاب المنير
الّذي بآياته يظهر المُضمر
أتحسبُ أنّك جُرمٌ
صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
كيف يكون انطواء العالم الأكبر في الإنسان؟ كيف بالإنسان يظهر
المضمر من أسرار وألطاف هذا الكون؟ يكون ذلك باستيعاب الإنسان العالم
معرفيّاً ووجدانيّاً، أي بإحاطةٍ في الذهن لواقع ما العالم عليه
وباستشعار بديع صنعه. بتعبير آخر، كلّما اتّسع علم الإنسان بالكون
وارتهف حسُّه في استشعار جماله وجلاله، كلّما اتّسع عقله بعمليّة ما
يتدرّج في علمه، وازداد استئناسُهُ بالعالم واطمئنانه فيه. بهذا المعنى
الكون ينطوي فينا بقدر ما نحتويه معرفيّاً ونأنس به وجدانيّاً.
بهذا المعنى أيضاً، عالم إنسان اليوم أكبر وأدقّ تفصيلاً وأونس من
عالم إنسان الأمس، وعالم إنسان الغدّ سيكون أكبر وأدقّ تفصيلاً وأونس
من عالم إنسان اليوم.
في مجال المعرفة، الكون، كما نعلم بتحقيق علمي، واسعٌ سعةً لم تكن
الأجيال السّالفة تدرك مداها، ولا كنّا نحن ندرك مداها حتّى عهد قريب.
اليوم نعلم عن وجود مليارات من المجرّات سابحةً في الكون: ممّا
اكتشفنا منها أمكن تقدير بُعد أقصاها عن مجرّتنا ب 13.6 مليار سنة
ضوئيّة، وهو مدىً يستعصي تصوّره خارج الحساب الرّياضي. أمّا مجرّتنا ،
المجرّة اللّبانية، فعلمنا بمشخّصاتها أكثر تفصيلاً وأدق: نعلم، مثلاً،
أنَّ بها حوالي مئتا مليار نجماً، أنَّ قطرها حوالي مئة ألف سنة
ضوئيّة، أنَّ سمكها حوالي عشرة آلاف سنة ضوئيّة، وأنَّها لولبيّة
الشّكل. نعلم أيضاً أنَّ الكون بتشكّله الحالي عمره 13.7مليار عاماً،
أنَّه لا يزال يتمدّد منذ الانفجار الأعظم، وأنَّ المنظومة الشّمسيّة
السّابحة وسط المجرّة اللّبانيّة، والّتي أرضنا أحد كواكبها، مضى على
تكوينها 4.5 مليار عاماً.
نعلم اليوم أيضاً أنَّ الحياة نشأت على كوكبنا في طورها البدائي
الأوّل، طور البكتيريا، قبل حوالي ملياري عاماً، أنَّ الإنسان المنتصب
ظهر متأخّراً جدّاً قبل حوالي 1.8 مليون عاماً، أنَّ الإنسان العاقل
ظهر متأخّراً جدّاً جدّاً قبل حوالي مئة وخمسة وتسعين ألف عاماً. وقد
نتساءل: أين كان الإنسان عبر الزّمن السّحيق منذ نشأة الكائنات الحيّة
الأولى على الأرض حتّى ظهوره مؤخّراً بين الأجناس؟ ولعلّنا نقرأ
التساؤل ذاته في القرآن الكريم، بعثاً لتفكيرنا في الأمر"هل أتى على
الإنسان حينٌ من الدّهر لم يكن شيئاً مذكورا" أي، في صيغة تساؤل
العارف، هل مرّ عليه زمن مديد كان مستبطناً في الطّبيعة لم يستظهره
المساق التّطوري الحياتي الموصول بمشيئة الله، بعد؟
إجمالاً، بما صرنا نعلم عن سعة العالم الأكبر، وبما صرنا نستكشف
مداه أكثر فأكثر، عالم المجرّات والنّجوم والفضاء الخارجي اللامتناهي -
من جهة، وبما صرنا نعلم عن دقّة العالم الأصغر ونلامس من أسراره
وألطافه الأدقّ والأغزر- عالم الذّرّة والخليّة وما في جوفهما- من
الجهة المقابلة، بهذا الفهم المتمدّد والمتعمّق مدفوعاً دأباً بغريزة
الاستطلاع المؤصّلة فينا بالفطرة، ينطوي الكون فينا، فكأنَّ عقولنا
أوعية تتّسع وتتطوّر بقدر توسّع وتطوّر ما ندرك ونشعر، وبذلك نطوي
الكون طيّاً في مُدركنا وحِسّنا بقدر ما نستوعبه علماً ونستشعره
وجدانيّاً في عمليّة تطوريّة تتقدّم وفقها البشريّة جيلاً إثر جيل.
أستخلص، إذن، أنَّ الإنسان إذا أدرك ، ثمّ استقرّ في إدراكه، أنّه
كائن عاقل موصول عضويّاً ووجدانيّاً بمطلق الوجود، ببعديْه الأكبر
والأصغر، فإنَّ من سعة هذا الإدراك وغور هذا الإحساس لا يعود المرء
جُرماً صغيراً محدود الوعي والنّظر، بل يتجاوز محدوديّته إلى آفاق خبرة
إنسانيّة عَرضها السّموات والأرض، إذ ليس لرُقيّ الإنسان، وقد خلقه
الله في أحسن تقويم، حدٌّ أو سقف إذا سلك الصّراط المستقيم. بذلك
تخبرنا شواهد نَيّرة من السّيرة البشريّة، فحيثما نظرنا إلى تجلّيات
العظمة والحكمة والفضيلة مجتمعة في الإنسان ألفيناها أبداً تقترن بوجود
وعي كوني عريض عميق، وباستقرار حال نفسي لطيف نبيل.
أمّا في مجال الاستقامة، فإنّنا نلاحظ في نَسق فهم الإنسان لنفسه
صعيدين من النّظر: صعيد عام شامل، وصعيد خاص محدّد. الاتّساق بين
الصّعيدين شرط لازم لتحقيق الارتقاء للأسمى.
لِنُسَمِّ الصّعيد الأول من النظر: الرؤيا ، بالألف الممدودة،
والصّعيد الآخر من النّظر: الرؤية، بالألف المربوطة.
الرّؤيا ترتسم من عموم الفهم الفلسفي لطبيعة الوجود، أي من فهم
المرء لمُشخّصات الكون، لظاهرة الحياة، ولوحدة حال البشر وتنوّع فكرهم
في آنٍ واحد. بذلك، الرّؤيا تقترن بمبادئٍ وقيمٍ مشتركة إنسانيّاً،
نستهدي بها ونحتكم إليها في عموم ما نتعاطى فيه ما بيننا كأفراد وأمم.
أمّا الرّؤية فتتشكّل من نظر مباشر في قضايا فرعيّة محدّدة. على عكس
ما نبتغيه في الرّؤيا الكلّية من الارتكاز في المبادئ والقيم المشتركة
إنسانيّاً بغية تحقيق الصّالح المشترك، في الرؤية الجزئيّة ترانا نجنحُ
للتّعامل مع الأمور حسب ما يُولي أحدنا من اعتبار خاص لكل أمر ابتغاء
مأرب ٍ خاص.
على أنَّ الأمثل في حال الإنسان أن تتّسق رُؤاه الفرعيّة مع رؤياه
الكليّة في كافّة الأمور بحيث لا تتناقض الاثنتان ولا تتصادمان.
الارتباك الفكري، مصحوباً أحياناً باضطراب أو تأزّم نفسي، ينتج في
المعتاد عمّا يقع من تناقض بين ما يراه المرء كأمر مبدئي يُملي الوفاء
باستحقاق الصّالح الإنساني المشترك، وبين ما يسلك المرء عمليّاً إزاء
مسألة متفرّعة عن ذلك الأمر الكلّي وفق هوىً في نفسه أو إثرة أو عن
مسايرة لمقتضى ظرفي.
مثلاً، إذا كان المرء على صعيد الرؤيا الكليّة مؤمناً بالمساواة بين
النّاس، ثمّ خلاف ذلك، على صعيد الرّؤية الجزئيّة يمارس أو يجيز أو
يتغاضى عن التمييز بين النّاس على أساس حسب أو نسب أو جنس أو طائفة أو
دين، فإنَّه بذلك يُحدث فصماً في ذاته يظلّ يعكّر صفوه ويحدُّ نماءه.
بمثل ذلك، إذا كان المرء مؤمناً بالديمقراطيّة، أي بمرجعيّة الجماعة في
تقرير الشأن الجماعي، ثمّ خلاف ذلك يرتضي أعراف وممارسات حكم فردي،
فإنّه يربك نفسه جرّاء إيقاع الفصم بين ما يؤمن به وما يقبل به أو
يسايره عمليّاً دون اعتراض. أيضاً، إذا كان المرء مؤمناً بالمواطنة
كإطار عام جامع للنّاس ومساوٍ بينهم في الحقوق والواجبات، ثمّ خلاف ذلك
يُحكِّمُ نزوعاً طائفيّاً في خطابه ومسلكه، فإنّه يقع في تناقض. ولأنَّ
التناقض بين المبدأ والأداء، أو إن شئت بين الرّؤيا الكلّية والرؤية
الجزئيّة مُربك ومُضنٍ للنّفس، ترانا نحاول تفادي أو تخفيف ربكه وضناه
باللّجوء للتبرير والتّعذير.
لكن الإشكاليّة لا تنتهي بذلك، فقد أُودِعنا ضمائر لا تنفكّ تُسائِل
وتحاسب حتّى نتّسق. عن هذه الإشكالية في سريرة الإنسان يُخبر القرآن
الكريم ببليغ قوله: " بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره"
(75:14). وأخال أنَّ الرّبك يعتري المرء أيضاً عندما معرفيّاً يكون
مقتنعاً بشيء على وجه معيّن، ثمّ لعلّةٍ ما يجاهر بخلاف ما يعرف، أو في
أدهى من ذلك، عندما يتحايل، أو يخادع، أو يغشّ، أو يغدر، أو يعتدي، أو
يظلم.
خلاصةً، إذن، من حيث أنظر، وبقدر ما نظرت، الأمثل في حال الإنسان أن
تتّسق رؤاه الفرعيّة مع رؤياه الكليّة، أن توائم أهدافُهُ ووسائل تحقيق
أهدافه مبادئه. ولأنَّ التّلازم لا يأتي عفويّاً أو تلقائيّاً بين
تحقيق الأهداف الخاصّة والتّثبّت عند المبادئ العامّة، لذا الأجدر
بالإنسان أن يُعنى بإيجاد هذا التّلازم بمجاهدةٍ دائبةً واعية، مجاهدة
عُرِّفت في التهذيب الإسلامي بالجهاد الأكبر، وأُشير إليها في العهد
القديم بالقول: إنَّ من يحكم نفسه لهو أقوى ممّن يستولي على مدينة
بالقوّة.
من وراء ذلك، جدير بالمرء أن يطّرد في تعريض رؤياه الكلّيّة
معرفيّاً ووجدانيّاً فيفتح كامل وعيه وكامل حسّه على الوجود وما يعتمر
به الوجود. ذلك أنَّ باتّساع المنظور المعرفي، مقترناً بالاتّساق في
الحال الذّاتي تنمو قابليّة المرء في التّعامل ببصيرة وعدل وإحسان مع
القضايا المشتركة بينه وبين بني جنسه، القريب منهم والغريب بسواء. بذلك
تخفّ وتيرة الخصام والصّدام، يعمّ الوئام، ينمو التّعاون، ومن ذلك،
كاستتباع منطقي، ينشط الاستباق للخيرات، على صعيد الأمم والأفراد، لأجل
دفع الخبرة الإنسانيّة المشتركة طرداً للأحسن والأمتع.
هنالك، إذن، على نهج الاتّساع المعرفي والاتّساق الذّاتي، على نهج
العلم والاستقامة، تكمن، بفضل الله، فرص ارتقاء الإنسان، أفراداً
وجماعات، إلى حيث حياة أوفر وأشرح وأغنى وأطيب بامتياز.
*ندوة في مركز الحوار العربي – واشنطن |