الديمقراطية في العراق.. إقحوانة في صحراء

الدكتور محمد مسلم الحسيني-بروكسل 

إن إختيارالمحكوم للحاكم هي سمة من سمات الحرية التي تميّزالعصر الحديث، وربما تعتبر أهم وأصعب وأدق سماتها. ورغم إننا نعيش يومنا هذا عالما متطورا بتقنيته وعلومه ووسائل عيشه، فهو عالم العولمة وأنتشار الكلمة، عالم الفضائيات والهواتف المحمولة، عالم الحضارة وحقوق الأنسان. رغم كل هذا التطور والنهوض، تبقى بلداننا العربية تحت خيمة الدكتاتورية والتسلط وإفتقاد الديمقراطية.

 لم تر عيون هذه البلدان البائسة نور الديمقراطية منذ أن نشأت الأنسانية والى حد يومنا هذا !. وإن جاء الأسلام بمبدأ (وأمرهم شورى بينهم)، فسرعان ما أندثر الأخذ بهذا المبدأ، وسرعان ما رجع حكم فرعون ووراثة التأج، وأستمر الحال الى يومنا هذا !. وهكذا أراد الأمريكيون أن يدخلوا صفحات التأريخ المعاصر ويكونوا أوّل من أدخل مبدأ الديمقراطية الى بلداننا الضعيفة، بعد إذ فهموا بأن الديمقراطية لابد لها أن تسود سواء شاء الحكام أم لم يشاؤوا !، وهذا طبقا لنظرية التطوروالنشوء  وخروج الأنسان من مرحلة الحيوانية الى مرحلة الأنسانية !.الدكتاتورية في ظل التغيير العالمي أصبحت محاصرة بل ومهددة وعمرها قصير.

 من هذا المنطلق بادر الأمريكيون في مشروعهم الذي أسموه (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، وأرادوا أن يبدأوا فيه بالأعداء قبل الأصدقاء في تطبيق خطوات هذا المشروع الطويلة !. كان العراق محطتهم الأولى بهذا الشأن، وهكذا فإنهم قد أخطأوا في هذا المسار بمنظورين !.

 المنظور الأول: هو إرتجالية الموقف وغموض المنهج والأخطاء الأدارية التي إرتكبوها في تفاصيل إدارة شؤون العراق والتي لايسع المجال لذكرها وتفصيلها، وربما هي واضحة ومعروفة لكثير من الناس والمتابعين للسياسة الأمريكية في العراق.

والمنظور الثاني: هو خطأ الأختيار، حيث أنهم قد بدأوا مشروعهم الجبار بإختيار أصعب وأعقد بلد في المنطقة في إطار تطبيق الديمقراطية. إذ أن العراق عبارة عن نسيج غير متجانس بشرائحه وأعراقه وطوائفه وأديانه ولغاته ومراجعه. وأن التباين والإختلاف في أمر واحد من هذه الأمور كفيل بأن يؤدي الى تقسيم وتفتيت بلدان لها حضارة وتأريخ ديمقراطي عريق ولها واقع متميّز بتطوره التقني والأجتماعي والسياسي والنفسي، فكيف في بلد متخلف وقد حكمه أعتى دكتاتور في التأريخ الحديث !؟. في بلد لم ينعم بمشارب التطور والمدنية، ولم يعرف شبابه إلاّ الحروب والعنف والقمع والتسلط والإضطهاد !. ان تباينا إجتماعيا واحدا في مجتمعات العالم المتقدم  كالتباين اللغوي مثلا، قد يكون كفيلا لدعوة الإنفصال والتقسيم. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ففي بلجيكا مثلا، وهي عاصمة البلدان الأوربية، يتصارع فيها السياسيون المتكلمون باللغة الفلمنكية والسياسيون المتكلمون باللغة الفرنسية، وهذا الصراع قائم منذ نشوء المملكة والى حد يومنا هذا !. لا بل قد تطورت الأمور الى إجراء تقسيمات إداريّة هامة اليوم، وربما الى إنفصال كامل يوم غد !، رغم انهم أوربيون غربيون يتعايشون معا على أرض واحدة ويختلفون فقط في هذا العامل الا وهو عامل اللغة !. وينطبق الحال تماما على كل من سويسرا وكندا. إذن حتى هذه الدول المتطورة ذات التأريخ الديمقراطي، يكون الإنفصال الإداري بين شعوبها حتميّا بسبب التباين اللغوي لا غير !، فكيف سيكون الحال في بلد ليس له تأريخ ديمقراطي وتتباين فيه اللغات والأعراق والطوائف والأديان ! ؟. وكيف ستصمد وحدة هذا البلد في ظلال الديمقراطية الوليدة ! ؟. 

 هذا شأن والشأن الآخر، هو ان هذه الديمقراطية قد دخلت العراق دفعة واحدة ومن دون تحضير وترتيب. ورغم أني أشبه الديمقراطية بالدواء الذي يشفي المريض !، وحيث أن أمراض مجتمعاتنا كثيرة والعقد النفسية كبيرة، والدكتاتورية والتسلط هي أبرز هذه الأمراض. إلاّ أن إعطاء الدواء لهذه الأمراض يجب أن يكون مقننا ومرتبا وحسب الأوقات وبجرع متتالية، حيث لا نستطيع أن نعطي الدواء جرعة واحدة لأن ذلك قد يقتل المريض وينهيه !. الحال ينطبق تماما على علاج الدكتاتورية بدواء الديمقراطية.

أن ديمقراطية العراق قد دخلت على عجل ومن دون تحضير أو تهذيب، على عكس ما يجب أن يحصل ويكون. أن التحضيرات الضرورية لتطبيق الديمقراطية في بلد ما، كبيرة وواسعة، خصوصا في بلد صعب ومعقد كالعراق. العراق كان يحكمه دكتاتور عنيد تسلّط على دفة الحكم لفترة تقارب الثلاثين عاما. فالذي فتح عينيه على نظام صدام، له من العمر اليوم ما يقارب الأربعين عاما، ولم ير أمام عينيه الاّ الحروب والفاقة والظلم والتهميش وكتابة التقاريرالحزبية والحياة المهددة في كل لحظة، وضرورة الإنسياق مع أهداف الحزب الواحد بل الشخص الواحد !. إذن هل يعلم هذا المواطن المتعب معنى التغيير وماذا تعني له الديمقراطية اليوم ! ؟. وهل تفهّم برنامج التغيير الديمقراطي حالة المواطن العراقي الخاصة ومعاناته وخبره الحياتية السابقة  قبل أن يقحم في المد الديمقراطي الجارف، فيغرق فيه ويضيع... !!؟. وهل أتخذت الإجراءات اللازمة لإصلاح الحالة النفسيّة المكبوتة للمواطن العراقي منذ عقود، قبل أن يطلق عنان الديمقراطية وتتفجر هذه النفسية وبطريقة مرضيّة وتنفث بإفرازاتها السامة،التي ربما تقتل هذه الديمقراطية عند ولادتها  !؟.

هل تضمن قاموس التغيير في العراق سبل وطرق إحتواء الذين فقدوا الحكم والسلطة قبل أن ينقلبوا أعداءا ويرفعوا السلاح ! ؟. وهل تفهم التغيير الجديد معاناة الأقلية التي كانت تنعم بالحكم ومنذ نشوء الدولة العراقية ! ؟. وهل عرفوا معنى وعواقب(صدمة التخلّي عن العادة)!؟. أليس من الأولى أن تثقف الأقلية على قبول الواقع واحترام حركة الزمن والحضارة والإنسانيّة وبشكل مكثّف بدلا عن التهميش والإقصاء !؟. فلماذا لم نحذ حذو الأمم الأخرى في هذا الطريق!؟. أن شعوب جنوب أفريقيا قد حضّرت للتغيير الديمقراطي قبل إعلان الديمقراطيّة، حيث ثقفت الأقلية البيضاء هناك على ضرورة قبول واقع العصر وأحكام الضرورة، وتقبلت بهدوء حكم الأكثرية. وقد كان ذلك ضمن خطوات وخطط مدروسة وترتيبات تدريجية ودراسات في ثقافة الديمقراطية كان من شأنها تطبيع الأقليّة نفسيّا على قبول حكم الأكثرية.

 ثقافة الديمقراطية هامة وضرورية للأكثرية كما هي هامة وضرورية للأقلية. أن الأكثرية المحرومة من الحكم بحاجة ماسة لمعرفة معنى الديمقراطية وأهدافها وأصولها وكيف تحسن إختيار ممثليها، وعلى أسس تقنية وأخلاقية وإنسانية وليس على أسس فئوية ومحلية أو طائفية. أن السواد الأعظم من الناس قد صوّتوا، أثناء الأنتخابات التي جرت في العراق، الى قوائم لا يؤمنون بشخصيات أفرادها !. إذ لو رشح أفراد القوائم أنفسهم بشكل مستقل عن قوائمهم لما فاز أحد منهم بمقعد واحد الاّ ما ندر !. أليس من ضروريات الديمقراطية إفهام الناخب خطورة وأهمية هذه العملية الجديدة وإرشاده وبالطرق القويمة الى ضرورة إنتخاب المرشح الصحيح وضمن توجهاته الشخصية وطموحاته، بدلا من زجّه غاطسا بمحنة الخيار!؟.  ثقافة الديمقراطية ليست معدومة أو على الأفل ناقصة عند الناخب العراقي فقط، بل أنها ناقصة عند الكثير من المرشحين أنفسهم !.

إذ أن المتابع لتصرفات (بعض) القادة ومن لهم الباع السياسي في شأن العراق، يتساءل مع نفسه عن قابلية هؤلاء الحقيقية في قيادة أمة تعصف بها رياح المحن من كل ركن وجانب !. فهل هؤلاء القادة حريصون حقا على مصلحة الوطن ومستقبله !؟. وما هي كفاءاتهم المهنية والفنيّة والتقنية والتي بمنظارها يستطيعون كشف الحالة  التي حملوا على عواتقهم  مسؤوليتها ! ؟ 

وهل هم حقا قادرون  على نكران الذات والتخلى عن مصالحهم الذاتية، سواء كانت الحزبية أوالشخصية، من أجل مصلحة البلد والمصلحة العامة ؟. وهل هم متعففون  حقا عن شراهة حب السلطة والكسب المالي والمصالح الذاتيه ؟.  الأجابة عن هكذا أسئلة باتت واضحة ومعروفة للمواطن العادي كما هي واضحة ومعروفة لأعضاء لجنة النزاهة العراقية !.   

 ثقافة الديمقراطية لايمكن أن تستوعب وتفهم دون أن تسبق بديمقراطية الثقافة(الثقافة العامة المتحضرة).  ثقافة الديمقراطية هي ثقافة متخصصة ومعقدة، ومن أجل فهمها وأستيعابها بالشكل الصحيح والسوي، فلابد أن تسبق بفصول من الثقافة العامة المستندة على أسس وقواعد المدنية والتحضر والتطور والأنفتاح، وليس التقوقع والبدائية والتخلف والإنكماش وتهميش الطبقة المثقفة من أبناء المجتمع وإقصائهم وإسدال ستار النسيان عليهم !.

  ضعف الحالة الثقافية العامة للناخب والمنتخب، على حد سواء، ستؤدي الى نتائج عكسية تضر بالديمقراطية ومساراتها، وتشكل خطرا كبيرا على المستقبل الديمقراطي جملة وتفصيلا. وأن أختلفت آراء فلاسفة الحياة حول من هو الأول البيضة أم الدجاجة !، فأن فلاسفة السياسة يتفقون فيما بينهم على أن ديمقراطية الثقافة أولا ثم ثقافة الديمقراطيّة، وذلك من أجل ممارسة ديمقراطية سليمة وصحيّة. على كلّ حال لا يلمس المرء على واقع الحال العراقي لا ثقافة الديمقراطية ولا ديمقراطية الثقافة، فكلاهما مغيّب عن الوجود ولله الحمد !. 

العامل الآخر الذي أضرّ ويضرّ في مستقبل الديمقراطية في العراق، هو أن راعي هذه العملية اليوم هو نفسه الذي رعى الدكتاتورية يوم أمس !. فلو دخلت الديمقراطية الى العراق على يد رجل مخلص وناكر لذاته من العراقيين أنفسهم، وكما حصل في السودان مثلا على يد السيد سوارالذهب قائد الحركة التصحيحية آنذاك، لكان رد الفعل الداخلي والخارجي مختلفا تماما !.  الديمقراطية الوافدة مع جنود المارينز الأمريكيين قد رفضتها كثير من القوى السياسية والشعبية، داخل وخارج العراق. فأمريكا إن لبست اليوم ثوبا جميلا وجذابا ستبقى مرفوضة بسبب تأريخ تعاملها السياسي في الشأن العراقي بشكل خاص وشأن المنطقة بشكل عام.

 كما أن مواقف الأمريكيين تجاه بعض دول الجوار، هي مواقف حادة ومتشنجة وقريبة من مرحلة الحرب !.  فكيف ستقبل هذه الدول أذن وتستأنس بالتجربة الديمقراطية في العراق وهي قائمة على أعمدة أمريكيّة، دون تفاعل أو رد !؟. كما أن الشعارات التي رفعتها الأدارة الأمريكية قبيل إجتياح العراق، والتي دللت على أن هذه الأدارة كانت تنظر لنفسها نظرة التباهي والقدرة الوهمية الخارقة، قد أخافت وأقلقت أصدقاء أمريكا قبل أعدائها.

 فالجميع كان يخشى من مصطلح (مشروع الشرق الأوسط الكبير) ومصطلح ( دول محور الشر)!. وكانت أمنية الجميع أن تفشل هذه التجربة، حتى لا تكون مثالا يمكن الأقتداء به. كما أن عملية التغيير هذه قد أغاضت كثير من دول العالم الأخرى. فالدول الإسلامية لا تريد التدخل الأمريكي في شؤونها، وخصوصا بسبب المواقف السياسية الأمريكية أمام الصراع العربي- الإسرائيلي، ودعمها الإستراتيجي والمستمر لإسرائيل. والدول الأوربية كفرنسا والمانيا وكذلك روسيا وغيرها قد كرهت هذا التغيير لأنها فقدت مصالحها في عراق صدام حسين، وأعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية الحوت الأكبر الذي أبتلع ما كانوا ينعمون به من خيرات ومصالح. فكيف لهذه الدول أن تصفق لحكومة ديمقراطية لا تمثل مصالحها !؟.     

هذه الأسباب وغيرها والتي لايسع المجال لذكرها في هذا المقال , تجعل مفهوم إرساء الديمقراطية في العراق أشبه مايكون بمن يحاول أن يزرع إقحوانة جميلة في صحراء قاحلة... !. أو من يبني دارا فارهة وجميلة دون أن يبني أساسها , فستكون عرضة للإنهيار والتصدع والسقوط.... !. كذلك أمر الديمقراطيّة، فإن لم تكن مبنية على أسس متينة ومحكمة فسوف لن يكتب لها البقاء والدوام وستنهار وتنقلب، وتتبدل منافعها أضرارا وفوائدها كوارثا وخيراتها شرورا.... عند ذلك سيلعن الشعب الديمقراطية وأربابها ويترحم على الدكتاتورية وأصحابها !، وسيرى نفسه بأنه كالمستجير من الرمضاء بالنار !. وهكذا هو شأن العراقيين.... فقد ضاق بهم كنف العيش بين آلام الدكتاتورية المريرة ونيران الديمقراطية الغزيرة !. وكثيرا ما يسأل المرء نفسه ويقول متى يجد العراقيون العيش الرغيد... وتنعم عيونهم بالنوم الهادىء والراحة... ! ؟. ولكن كيف تنعم عيونهم بالنوم الهادىء والراحة في سرير أسمه الديمقراطية، إن كان فراشه الإحتلال وغطاؤه الإرهاب وأركانه الجهل والتخلف  والطائفية والمصالح الذاتية !!!؟.    

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 23 كانون الثاني/2007 - 3 /محرم/1428