في وصف المجتمع ما بعد الحداثي

الكتاب: الطريق إلى القرن الواحد والعشرين – التيه

المؤلف: جورج بالاندييه

ترجمة: محمد حسن إبراهيم

الناشر: وزارة الثقافة – دمشق

حاول الكثير من الباحثين قراءة ظاهرة ما بعد الحداثة وفقاً لعلاقتها بالمجتمع الغربي، فعالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين ربط بين بروز ما سماه بالمجتمع ما بعد الصناعي وبين الفكر ما بعد الحداثي معتبراً أن الأسس الحديثة لاقتصاد السوق وآلياتها التي تتعزز دولياً كانت بمثابة الحاضن الاجتماعي لبروز أفكار ما بعد الحداثيين في ما يتعلق برفضهم لأسس الحداثة القائمة على العقلانية والتنوير والعلمية وحديثهم المستمر عن السلطات والنهايات، بدءاً من نهاية السرديات الكبرى حسب ليوتار أو موت الإنسان حسب فوكو والكلام حول موت المؤلف حسب بارت ونهاية الجغرافية حسب فيريليو، أما فردريك جيمسون فقد ربط بين المجتمع الاستهلاكي والفكر ما بعد الحداثة بل هي ثقافتها بالذات، لذلك بدأ علماء الاجتماع بقراءة الظاهرة وفقاً لأصولها الاجتماعية كما نجد مع جورج بالاندييه في كتابه (في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين – التيه) والصادر عن وزارة الثقافة بدمشق حديثاً، ومن ترجمة محمد حسن إبراهيم، إذ يمكن اعتبار هذا الكتاب بأنه وصف لمظاهر وتجليات المجتمع ما بعد الحداثي في حقوله العلمية والفكرية والصناعية والاقتصادي. إذ يرى أن ما بعد الحداثة أتت بعد مرحلة انتقالية فصلت بين الحداثة وما بعدها، أطلق عليها أسم حداثة التخيلات، فهي حداثة أشياء عارضة وانتقالية، وما يحددها هو الترهل والنسيان والفرض والإهمال وسريع الزوال، فالمرحلة مرحلة تخل ورفض كل شيء بدءاً من الإيديولوجيات وانتهاء بالإنسان. إنها باختصار مرحلة انتصار المستجد والمستحدث، لكن بالمقابل لا يبدو هذا جديداً يدعو الى التفاؤل بقدر ما يمكن تشبيهها بأنها عبارة عن ركام من الانهيارات.

ورغم توصيفه لها وفق منشئها الغربي إلا أنه يرى أنها تركت آثارها على العالم الثالث الذي لم يتمكن من الدخول إلى عصر الحداثة فحسب، بل فقد هذا العالم حركات تحرره الوطنية مما أفقده قدرته الجاذبة، إذ كان هذا العالم الثالث على حد تعبيره بمثابة عقيدة مولدة لتضامنات جماهيرية ضخمة ولحماس الشباب ولآمال فيها الكثير من الجسارة التي خدمت قضية الحرية وربما استطاعت أن تخلق الثورة الحقيقية حتى داخل التخوم الأوروبية.

يبدو إذاً بالاندييه لا يقرأ في ظاهرة ما بعد الحداثة إلا وفقاً لعلاقتها بمضمون الحداثة وإرثها التحريري والتنويري، الذي قضت عليه ما بعد الحداثة، وتهكمت من الذين ما زالوا يتحدثون باسم هذا التراث أو يدعي امتلاكه، لذلك فبالاندييه يصف هذا الفكر بداية وفقاً لعلاقته مع الآخر في المجتمعات المغايرة له، هذه العلاقة التي تحدد مسألة الهويات وتطرحها بوصفها هاجس العصر الحديث بدءاً من هويات الأشخاص والجماعات حتى هويات الدول والقوميات، ويرى أن ذلك لم يكن ليطرح بهذه الحدة لولا اللايقين الهوياتي الذي تطرحه ما بعد الحداثة، وتتحدث فيه باستمرار مقدسة النزعة الفردية ومرسخة مبدأ التحول بوصفه سمة العصر وروحه. وهذه النزعة الفردية تتعزز مع ثقافة البضاعة والأشياء، والدعاية كلية الحضور، والمشاهد التجارية التي تبدل بشكل من الأشكال هيئة المستهلك من أجل أن تجعل منه زبوناً ذا شهوة شراء دائمة التأجج، وهذه هي مظاهر المجتمع الاتصالي، بوسائطه الإعلامية التي تمنح الجبروت للسماع والصورة اللذين يحافظان على الانطباع بأننا قد بلغنا توصلنا إلى تنوع العالم وإلى رؤية التاريخ وهو يتكون ويتشكل. وبفضل هذه الوسائل الاتصالية التي تدخلنا ما بعد الحداثة فيها، فإنها تخلق لنا توتراً شديداً بين خيبة الأمل وكثير من التعقيد والمسائل غير المحلولة ومن الاعتقادات والأوهام الضائعة والحوادث المأساوية أو غير المتيقن فيها في ما يتعلق بعاقبتها. إنها تضعنا بين عدم الاستقرار الذي يبدو أبدياً وبين عودة الافتتان بالاستعانة بكل الوسائل من أجل تحقيق الممتنع. فزمانية ما بعد الحداثة إذا تدل على الدخول في عهد ثقافي جديد، بمقدار ما تدل على اضطراب العلاقات المقاومة مع المكان. فالأزمنة الاجتماعية، تنقسم وتتنوع حسب الأوضاع المتحركة التي تعمل فيها، وتتكون في حالة من الميوعة، إذ لا زمان من بينها يفرض هيمنته ويجلب استمراراً نسبياً، فما نعيشه هو زمن اللاستقرار، الأمر الذي يسهم في تقوية وبلورة وعي يتأسس على الفوري واللحظي رافضاً الأزمنة الماضية، وهازئاً بأزمنة المستقبل. أما بالنسبة لعلاقة ما بعد الحداثة بالمكان، فيجب أن ينظر إليها من أوجه ثلاثة في ما يخص آثارها الأكثر دلالة: إزالة التوصيف وإزالة التحقيق وتحويره إلى وجود ضمني افتراضي، وخلق التبعثر، وبذلك يتحقق المجتمع ما بعد الحداثي باعتباره مجتمع كل مكان، فالفوري يحل محل الدوام أو المرجأ، وتصبح أماكن البشر بما تحتويه من محسوس، من حياة مشتركة مندمجة، تغدو تافهة ببلوغها الواقع الشاشاتي (شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر) أما الاتصال اللفظي فإنه يصاب في عالم ما بعد الحداثة، بما بشبه فقر الدم من تشوه وتحوير، فالآلات تنقل الكلمات أو بالأحرى تتلفظ بها، ويضربها الاتصال التجاري في معظم الأحيان كي ينتج المفاعيل الإعلانية، ويمحي النطق الصحيح أو الحق. إنها أزمة الكلام بفعل واقع مفارق من حيث الظاهر، واقع يراوح بين أن يكون أكثر مما ينبغي أو يكون دون الكفاية، وهذه الأزمة ستنتج لدينا إفقار الذاكرة وإعادة تكييف زماننا ومكاننا وفقاً لما تبتغي هي وترغب لا وفقاً لما نطلب نحن.

ولكن، كيف سيصبح موقع العقل في هذا العالم الجديد؟ سيما وأن ما بعد الحداثة لا يكف عن الاستخفاف به والتهكم من وظائفه، هنا يرى بالاندييه أن العقل لن يجد نفسه داخل مجابهة بسيطة وواضحة، بل سيدخل معركة تبحث دون مواربة عن استبعاد الأسطورة واستئصال الأشياء الغامضة، وهو لذلك يفقد وحدته في الوقت نفسه الذي يفقد فيه ثقته، ولا يمنحه ملجأه المفضل (العلم) شاغلاً تاماً واستثنائياً، إذ لم يعد يوجد حصانة سياسية علمية، فالعلم أصبح هو ذاته أسطورة مكتومة، ومنطوياً على أشكال منطق هجينة، كما لاحظ ذلك كاسيرر سابقاً بأن الفكر الأسطوري والفكر العقلي يتناميان على مستويين مختلفين، إلا أن الفكر الأسطوري يستمر في أن يتواجد داخل الفكر العقلي ويحدد فيه، لذلك ستنشأ رغبات وانفعالات وغرائز واستيهامات من نوع جديد لا تقوم على ثنائية الجسد والروح بقدر ما تتبع للتوسطات الأدواتية والرواميز والخيال الاتصالي.

ولذلك سيفقد الموت ألقه وسطوته، إذ لن يعود ذلك التحدي المجهول، أو ذلك السقوط المطلق الذي يحدد نهاية الموجود البشري الأخيرة، أو ذلك المحرض الأعظم والأول لتخيلي استمدت منه المعتقدات والتقاليد قوتها، فالموت في مجتمع بعد الحداثة أشبه بحضور غائب محير، إذ أن هذا المجتمع ينكره، عن طريق تأكيده على القدرة المطردة القادرة على دفعه من أجل الغاء الموت أو مواراته وإبعاده، عن طريق العزل السريري للأشخاص الأكثر قرباً منه، أو معالجات الجثة التي تتيح محاكاة هجعة الحياة، وهذا الإمحاء التدريجي ينال تظاهرات الموت الاجتماعية والأوجه العامة لحلول الموت والمأتم، إذ يجب أن تقلص قدر المستطاع آثار الموت عن طريق إبعاده ونفيه المستمر وجعله باستمرار موتاً للآخرين.

ويبقى الجنس صلة الرجل والمرأة في المجتمع ما بعد الحداثي، إذ لا تقوم بينهما علاقة أخرى كالزواج أو ما شابهه، فالجنسوية تميل إلى تحقيق ما يمكن وصفه (جنس دون عمر، دون عنف، دون معايير) وما كان يسمى خطيئة شهوة الجسد سيصبح الهدف من أجل التوصل إلى الشبقية، وتحضر هذه في كل الوسائل بدءاً من دعاية العلاقات الغرامية التي تزيح حدود الحياة الصميمية وانتهاء بإنجاز خدمة الجنس التي ستصبح مطلب الجميع وصفة الوسائل الاتصالية القادمة التي ستنزع منا حقنا بالرد، ولن تتركنا سوى أسارى التخييل والتلقي الوهمي.

وإذا كان بالاندييه أقرب إلى وصف مجتمع ما بعد الحداثة على أنه مجتمع أقل انسانية وأكثر بعداً عنها، فإن ذلك ما دعاه في الخاتمة إلى التوصل إلى أن هذا المجتمع هو نهاية القيم، التي لن يكون لها أي صفة معيارية أو حتى اعتبارية، إنه مجتمع يؤسس لقيمه التي ينتجها ويتعامل معها وفقاً لظرفها القابل للتحول باستمرار، وبالتالي فإن هذه القيم أيضاً – إذا ما بقيت هذه التسمية منطبقة – عليها ستظل عرضة للتغيير والإمحاء.

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا