تاريخ مزيف لجيش زائف

مهند السماوي

مع الاسف الشديد، يتم تجاهل الكثير من الامور البديهية من قبل المتصدين للشأن العراقي، والتي جرى البحث فيها في العقود السابقة بحرية كبيرة ومهنية علمية لدى الكثير من الباحثين العراقيين وغير العراقيين، في دول المهجر وخاصة في دول الغرب مما لم يتيسر لهم في داخل العراق ، وخاصة في مجال التأريخ والذي يكون الاكثر تشويها على ايدي السلطة الحاكمة في أي بلد في العالم،فقد سقطت الكثير من الامور البديهية السابقة،وحلت محلها حقائق ناصعة ازاحتها من عرش التأريخ،ووضعت في مزابله،كالسيرة الذاتية للطواغيت واعوانهم والمدافعين عنهم مثلا.

ودائما الحقيقة الناصعة تظهر لكن مع الاسف الشديد بعد مرور وقت طويل على الاكاذيب المزيفة،وتراكم أجيال كثيرة مسلمة بثوابت تلك الاكاذيب والخرافات مما يجعل من الصعب جدا تغيير تلك النظرة لدى قطاعات واسعة من الشعوب،بل من الطبقات المحسوبة على الثقافة والفكر وما يترتب على ذلك من ألتزام بحرية البحث والفكر وتغيير النظرة والرأي أذا وجد خطأهما وأبتعادهما عن الحقيقة، وغالبا ما يتم تجاهل الحقيقة اذا تعارضت مع المصلحة الشخصية والتعصب الاعمى للعرق أو الدين أو المذهب،فتزداد الصعوبة في التغيير نحو الافضل لشعوب غير واعية منشغلة بالبحث عن لقمة العيش اليومية يقودها سياسيا طواغيت وجلادين وسراق منتفعين،وفكريا وثقافيا،تقودها شبكة من المزيفين والمنحرفين،يحصلون على المال والجاه والشهرة من السلطات الحاكمة وشبكاتها الاعلامية التي هي أقرب لحراس سجن وعملاء أمن،من اصحاب رسالة نبيلة أو سلطة رابعة كما يصفها البعض،أما اصحاب الفكر الحر والمبادئ الانسانية العظيمة،محاصرون ومهمشون ومنعزلون،هذا في أحسن الاحوال أذا لم يتم أقصائهم جسديا!.

ذكرى تأسيس الجيش العراقي السابق:

من الثوابت المزيفة التي جرى البحث  والكشف عنها وأصبحت من الاكاذيب القديمة المحشورة في مزبلة التأريخ،مسألة تأسيس الجيش العراقي السابق في يوم 6 كانون الثاني(يناير)عام 1921 أوبالاحرى أول فوج فيه والذي سمي ظلما وعدوانا فوج الامام موسى الكاظم(ع) والبرئ منهم ومن أعمالهم اللا انسانية.

والحقيقة انه لم يتأسس الجيش العراقي في هذا الـتأريخ،وأنما تأسس بعد أنعقاد مؤتمرالمستعمرات البريطانية في القاهرة في أذار1921  برئاسة وزير المستعمرات في الحكومة البريطانية ونستون تشرشل،والذي كان من مقرراته تأسيس جيوش محلية لمساعدة القوات البريطانية وأجهزتها الحاكمة في فرض الامن والاستقرار في بلدانهم وتخفيف الضغط عليها سواء ماديا،لأن تكاليف التشغيل والتجهيز للقوات المحلية أقل بكثير من تكاليف القوات البريطانية،وبشريا لتوفر أعداد كبيرة من الرجال القادرين على حمل السلاح في المستعمرات وتخفيض نسبة الخسائر البشرية في صفوف القوات البريطانية، وما يسببه ذلك من أحراج شديد للحكومة البريطانية أمام شعبها قد يتسبب في حدوث أنفلات أمني ومشاكل أجتماعية هي في غنى عنها قد تؤدي الى أسقاطها،هذا بالاضافة الى تشغيل أعداد كبيرة من الموالين للتاج البريطاني في الحكومات المحلية وأبعادهم عن المعارضين ففي حالة حدوث بطالة أو تدهور أقتصادي يتجه الموالون الى صف المعارضة أملا في تغيير واقعهم تحو الافضل،بالاضافة الى أسباب أخرى.

ومن البلدان التي تقرر تأسيس جيش محلي فيها، كان العراق نظرا للاضطرابات المستمرة فيه وخروجه للتو من ثورة جامحة فقد الجانبين فيه خسائر مادية وبشرية كبيرة،فجاء التأسيس في حزيران(يونيو)1921م وأستخدم اسم مقدس لدى الشيعة للتضليل،على أول فوج فيه في يوم 21\6\1921م وبما أن الحكومة البريطانية قد سلمت الحكم فيه للاقلية السنية التي لم يساهم في الثورة قبل عام،الا نسبة قليلة منهم،فقد جرى ابعاد بقية الطوائف الاخرى،وخاصة الشيعة والاكراد الذين كانوا بعيدين عن الحكم ايضا في الحكم العثماني الذي أستمر لحوالي خمسة قرون،فكان من البديهي عند تأسيس الجيش،أن يتم أستدعاء الضباط السابقون في الجيش العثماني  وهم تقريبا جميعا من السنة،غالبيتهم من العرب وتوجد نسبة ضئيلة للاكراد والتركمان،وتوجد بينهم نسبة كبيرة من أصول تركية ويستخدمون اللغة التركية ومصطلحاتها في طريقة كلامهم،ولذلك نرى نسبة كبيرة من العوائل المتنفذة  في بغداد والموصل خاصة،اسمائها ولهجتها تدل على تركيتها،وقد جرى منحهم الجنسية دون عناء يذكر أوتذكيرهم بأصولهم،بالمقارنة مع الاخرين من الدول المجاورة،بسبب عملهم ونفوذهم في الدولة العراقية التي ولدت مشوهة تعاني الكثير من الامراض المستعصية مما سبب موتها المتوقع غير المأسوف عليه!.

وللتضليل على أسباب التأسيس وتأريخه،جرى أستخدام ذلك التأريخ المزيف لابعاد الشبهات وأطلاق صفة الوطنية عليه!.وأستمرت نفس السياسات المتبعة في الدولة والجيش لمدة 83 عاما دون تغيير حقيقي،ماعدا الفترة القصيرة التي حكم فيها الزعيم عبد الكريم قاسم،والتي ارتدت الى أسوأ من الفترات السابقة من حكمه،وكأن التاريخ يعيد نفسه،فخلال الدولة الاموية،حكم عمر بن عبد العزيز بالعدل،فترة قصيرة أيضا،ارتدت الدولة بموته الى سابق عهدها!.

وكما كان متوقعا أستخدم الجيش العراقي السابق حسب الاهداف المتوخاة من التأسيس!فكان أداة طيعة للحاكمين في أخضاع الشعب وأذلاله،وأستخدامه في حروبهم الخارجية دون أخذ الاذن من الشعب،وكانت التقاليد والقوانين العسكرية العثمانية والانكليزية،والمتسمة بالانضباط العسكري الشديد والقسوة البالغة في التعامل مع المخالفين والخصوم.

بدأ الجيش العراقي السابق،عهده الدموي عام1933ضد الآشوريون،فكانت جريمة كبرى جرى التعتيم عليها مثل الجرائم الاخرى.ولم ينتظر طويلا حتى ناضل مرة أخرى!ولكن ضد قبائل الفرات الاوسط الشيعية المطالبة بالعدالة وحقوقها المسلوبة،فكانت حملات دموية بشعة شنها عام 1935 رئيس الوزراء الضابط التركي السابق ياسين حلمي والذي حمل لقب الهاشمي المزيف!للتعتيم على أصله التركي!،فكان أنتقام بشع نيابة عن الانكليز من القبائل الثائرة عليهم في ثورة1920،سقط خلاله عدد كبير من الضحايا الابرياء دون أن يعرف المعاصرون عنهم اي شئ!،هذه هي الدولة العراقية السابقة وجيشها المغوار للمتباكين عليها!.

ولم يكن الجيش أيضا أداة للقمع فقط،بل كان أداة لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة،فكان خير أداة للاستيلاء على السلطة وصاحب أول أنقلاب عسكري في العالم العربي عام1936م بقيادة الفريق بكر صدقي أحد ابطال القمع السابق،والذي قتل مع قائد القوة الجوية في العام التالي.

وبقي نفوذ قادة الجيش في أزدياد مستمر بواسطة العقداء الاربعة،حتى أستيلائهم على السلطة عام 1941م مع حليفهم رئيس الوزراء الكيلاني،وكانوا سببا لاندلاع المواجهة غير المتكافئة مع بريطانيا، التي هزمتهم في حرب قصيرة بالتعاون مع حلفائها في الاردن والعشائر الموالية لهم في الانبار!.

شارك الجيش السابق في الحروب الخارجية في فلسطين بعد ان وجدت الحكومات مشاركة الدول العربية الاخرى وكذلك نتيجة للضغط الشعبي والرسمي الهائل،رغم أن تلك المشاركات لم تؤدي الى نتائج حاسمة في الصراع مع أسرائيل،وكنتيجة أيضا لضعف التخطيط والتجهيز والاستعداد لتلك المعارك،فالهدف الرئيسي هو القمع الداخلي وليس الدفاع عن الوطن الذي تقلصت مساحته كثيرا أو تحرير الاوطان المغتصبة!.

قام الجيش السابق بالانقلاب عام1958م والذي اتبعه بعدة انقلابات فاشلة دموية حتى نجاح الانقلاب الاسود في 8 شباط1963م والذي أدخل البلد في دوامة رهيبة من الرعب والاجرام سقط خلالها الملايين من الضحايا في الحروب الداخلية والخارجية،انتهى عهدها في سقوط نظام البعث البائد في 9 نيسان 2003م فكانت اربعون عاما ذاق خلالها الشعب العراقي الويلات ومازال يعاني من تبعاتها المستمرة.

كان يعمل في الجيش السابق قلة من الوطنيين الذين حاولوا بأستمرار تغيير الوضع القائم لكن كانت محاولاتهم تفشل باستمرار نتيجة للوضع السائد في داخل المؤسسة العسكرية الرافض للتغييرالحقيقي وليس تغيير الوجوه البشعة،وكانت محاولاتهم تنتهي بصورة دموية بائسة.

العودة للجيش السابق هو كمثل اعطاء العفو للسجناء وتسليم السلطة لديهم!،ويمكن تخيل ما سوف يقومون به من أعمال،تكون بالنسبة للاوضاع الامنية المتدهورة الحالية مجرد نزهة قصيرة الامد!نتيجة للخبرة السابقة لديه والمتراكمة من قمع جميع القوميات والاقليات الموجودة.

لتأسيس جيش جديد بعيدا عن الطائفية والعنصرية والتحزب،يجب تأسيسه على مبادئ وقيم وطنية وأنسانية بحته،يبدأ من أختيار تأريخ صحيح للتأسيس يمكن الافتخار والاحتفال به وهناك عدة أقتراحات مثل أختيار يوم تأسيس أول الافواج أو الكتائب للجيش الجديد عام 2003م أو أختيار يوم تأسيس أحد التشكيلات العسكرية الوطنية التي ناضلت ضد الديكتاتورية السابقة مثل فيلق بدر أو البيشمركة وغيرها،والاصرار على التأريخ السابق كمثل الاصرار على الديكتاتورية السابقة ونظامها العسكري الدموي ومنح صفة الوطنية لمؤتمر المستعمرات في القاهرة عام 1921م ولتكن بداية جريئة يتبعها سلسلة طويلة من الاجراءات ضد التاريخ المزيف مثل تغيير اسماء الاماكن العامة القبيحة التي أرتبطت بالاستعمار والطواغيت على مر العصور،ومازال وجود تلك الاسماء دليل على ان أعادة الاعتبار للشهداء والوطنيين لم يحن بعد،رغم مرور4 سنوات على سقوط الديكتاتورية،وتلك روسيا نموذج مثالي لنا فبعد سقوط النظام الشيوعي مباشرة عام1991جرى أرجاع الاسم السابق لمدينة ليينغراد،المدينة الثانية في البلاد الى اسم بطرسبرغ، القيصرالمؤسس بدلا من لينين مؤسس الاتحاد السوفييتي السابق!رغم وجود الكثيرين من المؤيدين له،ونحن مازلنا نشاهد بألم أحد أشهر الشوارع في بغداد مازال بأسم السعدون ذلك الضابط العثماني الذي تولى رئاسة الوزارة العراقية مكافئة على دوره في تسفير الزعماء الدينيين والوطنيين للبلاد نتيجة رفضهم المشاركة في تزييف الحياة السياسية في البلاد عامي 1922-1923،والذي أنتحر غير مأسوف عليه عام1929م بعد أن ترك وصيته باللغة التركية لزوجته التركية!بدلا من أن يكون بأسم الزعيم الوطني والديني الخالد الشيخ مهدي الخالصي كبير المسفرين.

التغيير يبدأ من رموز الانظمة البائدة،والرجوع للحقائق الناصعة فضيلة كبرى،مهما عاند المعاندون وأحفاد المزيفون.

[email protected]  

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 7/كانون الثاني/2007 - 16 /ذي الحجة /1427