بيكر - هاملتون.. خطة فرار أميركية

درويش محمى

  رداً على تصريحات الرئيس العراقي جلال الطالباني ، التي ندد فيها بالتقرير المعروف  (بيكر ـ هاملتون) ، قال  لي هاملتون السناتور الديمقراطي السابق وأحد معدي التقرير المذكور المثير للجدل اتفهم موقف الرئيس العراقي الراضي والمرتاح للدعم الاميركي السخي).

يبدو ان ذاكرة هاملتون قد اصابها الصدأ نظراً ( لكبر سنه)، حتى وصل به الامر الى نسيان حقائق ثابتة لا تقبل الجدل، كحقيقة كون حكومة بلاده  تتحمل بنفس القدر وجنباً الى جنب مع الحكومة العراقية المنتخبة، تبعات ما يحصل اليوم في العراق، ويتحمل الطرفان معاً المسؤولية الكاملة في استتباب الامن واعادة الحياة السياسية الى طبيعتها وبناء الدولة العراقية، وقد أكون مخطئاً(وجل من لا يخطئ) والرجل ربما ما يزال نشطاً، ولكن أيضاً ونظراً (لكبر سنه) ينتمي هو وشريكه في اعداد التقرير المذكور جيمس بيكر الى العهد الكيسنجري، وهم بالتأكيد يتحسرون على ايام السبعينيات والثمانينيات، ويسيرون على هدي مقولة لورنس العرب (الاخلال بالوعد أفضل من الهزيمة).

مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة الاميركية محقة بالبحث في اسباب المشكلة العراقية المتفاقمة، بعد أكثر من ثلاث سنوات صعبة وقاسية لوجود قواتها في خضم المعارك داخل العراق، دون أن تتمكن من حسم الامر لصالحها ولصالح الحكومة العراقية، ومن حق الساسة الاميركان مراجعة السياسات المتبعة لبلدهم، والبحث عن حلول ناجعة للازمة العراقية المكلفة، والزام الحكومة العراقية بالقيام بواجباتها ومحاسبتها على ادائها السيئ، كالتخلص من الفساد، وحل الميليشيات، وبناء جيش عراقي وطني قوي، قادر على القيام بمهامه في استتباب الامن ومحاربة الخارجين على القانون وفلول الارهابيين.

 ومن حق الحكومة الاميركية مطالبة نظيرتها العراقية، بالتعجيل في تحقيق الكثير من الاستحقاقات المؤجلة، بحكم ان مايجري في العراق اليوم قد خرج عن طورالتحمل، سواء بالنسبة للشعب العراقي اوالطرف الاميركي، ومن حق الاميركان التفكير جدياً بالانسحاب من العراق بعد اكمال المهمة او جزء من المهمة على الاقل، ولكن ان يصل الامر الى الهرولة والخروج من العراق على طريقة (بيكرـ هاملتون)، وتحويل القضية العراقية الى قضية يحسم امرها من قبل دول الجوار العراقي، وبصورة خاصة كلاً من ايران وسوريا، التي عملت منذ اليوم الاول من اسقاط حكم البعث، على زعزعة استقرار العراق ودعم فلول البعثيين والسلفيين، وبث الفرقة الطائفية وتشجيعها، بهدف افشال التجربة الديمقراطية الوليدة والفريدة من نوعها في الشرق الاوسط، جعل الازمة العراقية ازمة اقليمية يتم حلها من قبل دول الجوار العراقي محاولة محكومة بالفشل من قبل معدي التقرير، وعبارة عن مؤشر واضح وخطير لمدى الجهل المدقع للساسة الاميركان لواقع وطبيعة الاشياء وحقيقتها في العراق ومنطقة الشرق الاوسط.

 كذلك الميل الواضح لواضعي التقرير، في ارضاء الاقلية الرافضة للعملية السياسية والتي تشكل 20 بالمئة على حساب الاغلبية المشاركة بالعملية السياسية والتي تشكل 80 بالمئة، خطة ومحاولة يائسة  للأنقاذ والخروج من الازمة، والغريب جداً ان معدي التقرير وهم يبحثون عن الحلول للأزمة العراقية، قد اغفلوا عن امر في غاية الاهمية، وهو كيف ستكون توصياتهم مجدية في حال رفض الغالبية العراقية لها، وهم يعانون اليوم الصعوبات الجمة من مشكلة رفض الاقلية وليس بأمكانهم التغلب عليها.

 الخطأ الفاحش الاخر الذي وقع فيه واضعو توصيات بيكر ـ هاملتون، لا يكمن في دعوة دول الجوار العراقي للتدخل في الشأن العراقي من اجل استقرار العراق، بل في الحوافز المخصصة لتلك الدول على حساب الشعب العراقي، وجاءت بعض تلك الحوافز علنية كالتوصية رقم 30 الخاصة بمسألة كركوك والمناقضة للمادة 140 من الدستور العراقي، وهو حافز دسم لتركيا، بالاضافة الى كونه تفضيل طرف عراقي يشكل اقلية معارضة على طرف عراقي اخر يشكل اكثرية مؤيدة، والتوصية 27 التي تقول بأشراك البعثيين واعادة (رموز نظام صدام حسين) الى الحكومة، هو حافز علني مغر للنظام السوري، كما جاءت بعض الحوافز في تقرير بيكر ـ هاملتون ضمنية غير علنية وأيضاً ارضاء لدول الجوار العراقي، والتوصيات التي تقر باعادة النظر في الدستور العراقي، تدخل بالتأكيد ضمن هذا الاطار، الى جانب كونها تشكل ارضاء وتفضيلاً لطرف طائفي عراقي يشكل أقلية معارضة رفضت الدستور العراقي الجديد، على حساب طرف طائفي عراقي اخر، يشكل اغلبية مؤيدة للعملية السياسية وصوتت للدستور وشاركت بفعالية في مشروع العراق الجديد.

ما تم طرحه من توصيات في تقرير (بيكر ـ هاملتون) بشأن معالجة الازمة العراقية، لا تتعدى عن كونها خطة انسحاب اميركية عاجلة من العراق، ومحاولة صريحة لمساعدة الولايات المتحدة في التهرب من مسؤولياتها القانونية والاخلاقية، ولم تأخذ بالحسبان كل ما تم انجازه خلال الفترة التي اعقبت التحرير او (الاحتلال) من انتخابات ودستور وبرلمان، ويضرب التقرير بعرض الحائط ارادة 80 بالمئة من الشعب العراقي، الذي شارك في العملية السياسية القائمة اليوم، ولتنفيذ تلك الخطة وانقاذ ما يمكن انقاذه وقع معدو التقرير في اشكال قانوني واخلاقي كبير، وتناقض مع الاهداف المعلنة للولايات المتحدة الاميركية بعد احداث 11 سبتمبر 2001 وكذلك وقع معدو التقرير في تناقض صريح مع الاهداف المعلنة لتحرير العراق، ببناء دولة  ديمقراطية  حرة ذات سيادة.

  يبدو جلياً من توصيات معدي التقرير الاميركيين بيكر وهاملتون، ان هاجسهم الاعظم هو سحب القوات الاميركية باسرع وقت ممكن، والصيغة اللغوية للتوصيات التالية توضح  مدى تأثير هذا الهاجس على التقرير:

 4- يجب تشكيل المجموعة الدولية لدعم العراق فور بدء الهجمة الدبلوماسية الجديدة....

 6- الدبلوماسية الجديدة وعمل المجموعة الدولية ينبغي أن يتم بسرعة....

9 - يجب على الولايات المتحدة أن تنخرط مباشرة مع إيران وسورية...

(فورا، بسرعة، مباشرة) كلمات وردت في التقرير لتعكس مدى الهلع والرغبة في انهاء معاناة قوات التحالف، والتي قياساً الى معاناة العراقيين لا تساوي أكثر من 1% استناداً الى الاحصاءات التي تناولت عدد ضحايا الحرب القائمة حالياً.

بالرغم من الصفة اللا الزامية والصبغة الاستشارية  لتقرير (بيكر ـ هاملتون)، وبغض النظر عن تفعيل هذا التقرير من عدمه في المستقبل،  يشكل هذا التقرير بحد ذاته هزيمة معنوية ساحقة للولايات المتحدة امام فلول القاعدة والسلفيين والبعثيين، والنظامين السوري والايراني، ويشكل صدمة قوية لقوى التغيير والديمقراطية في الشرق الاوسط، ومصدر قلق وتشكيك بالمصداقية الاميركية، وقد يكون للتقرير المذكور حسنة وحيدة فقط لا غير، وهي وضع الحكومة العراقية والقوى المشاركة في العملية السياسية امام الامر الواقع والحقيقة الصارخة، بانهم هم وحدهم المعنيون في وضع حد للازمة العراقية، وعليهم العمل باخلاص من اجل عراق لكل العراقيين، وان الوقت ليس في صالحهم، والتحالف الدولي حالة مؤقتة وغير مضمونة وليس ابدياً كما يظن البعض.

لجنة دراسة العراق التي اعدت تقرير (بيكر ـ هاملتون)، اعتمدت على مقابلات واستشارات العديد من الشخصيات والسفراء والوزراء والمستشارين والنواب والمدراء، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، وليد المعلم وزير الخارجية السوري، وعماد مصطفى السفير السوري في واشنطن، وجواد الظريفي المندوب الايراني لدى الامم المتحدة، ونابي سنسوي السفير التركي في واشنطن، وحقيقة لم اكن لاستغرب لو انهم استشاروا وزير الخارجية العراقي السابق طارق عزيز، فهو اكثر خبرة من نظيره السوري بالاضافة الى كونه بعثياً عراقياً مخضرماً وله باع طويل في الشأن العراقي، وينتمي هو ايضاً للحقبة الكيسنجرية شأنه في ذلك شأن معدي التقرير، والغريب حقاً ان (بيكرـ هاملتون) لم يستشيروا الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ليعتمدوا على افكاره (البناءة) في وضع الحلول الحاسمة والسريعة الخاطفة، وليفحمونا بالكثير من الوصفات والتوصيات والحلول الغريبة والانهزامية.

[email protected]  

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 29/كانون الأول  /2006 - 7 /ذي الحجة /1427