الفلسطينيون.. فلسفة التوحد والخلاف

نهاد عبد الاله خنفر-بريطانيا

كمن في صحراء خلفتها رياح التاريخ في غابر متعب من الازمان، صحراء مقفرة حتى من الرمال او اثارها القليلة الدالة على كونها صحراء، تلك التي اعتدنا كثبانها في كل بقاع الصحاري، صحراء خالية حتى من السراب الذي يمثل الامل للمحبطين اليائسين من شربة ماء او رفقة مؤنسة في بعض الاحيان، صحراء خلت الا من عواء الذئاب ونباح الكلاب الضالة، صحراء اختلطت فيها جذور الحياة وقابليتها مع اعماق الموت المتدثر في وحشة الليل الذي اعتكف القمر عن الظهور فيه، او لاقل انه أنِفَ عن وضع نفسه في مواجهة الموت الفقير العابس في صحراء زادته عبوسا واغدقت عليه من الاحزان والكآبة ما لم يكن في حسبان التاريخ ذاته، ولا في حسبان رزنامته وجداوله المتبدلة في كل يوم وفي كل اسبوع وفي كل شهر وفي كل عام. ومن عام الى عام حاصر الفلسطينيون انفسهم في دوامة الموت الرحيم البطيء، فصارعوه وصارعهم، فصرعهم حينا وصرعوه احيانا، ليس تمردا على ارادة الله واقداره النافذة، وانما امتثالا لحكمة الله في خلقه التي تنزع الحياة من انياب الموت، لكانهم شملوا انفسهم بعناية الهية مباركة احاطتهم من كل جانب، وما ادل على ذلك من حتمية وجودهم النابض وقضيتهم الحية التي استمدت مشتقات حياتها من شعب لم يمت حتى الان في اطار وجوده العام، مصرا على البقاء بالرغم من انحسار كل عوامل هذا البقاء على طريق ممتد من صحراء النسيان الى وديان الطمر والطمس والاندثار، الى بوتقة التوحد والانصهار في جسد استمر دفئه مستمدا من ابنائه الذين اثبتوا ان فلسطين للفلسطينيين اينما كانوا، اينما حلوا وارتحلوا، اينما اقاموا كياناتهم المؤقته او الممزقة، فبقى الفلسطينيون وبقيت فلسطين، علامة على التوحد، وعنوانا لبادرة الامل المتجدد في كل لحظة من لحظات التاريغ المقهور على مذابح الموت الفلسطيني.

كان هذا شعارهم، كان هذا ديدنهم، كان هذا لحمهم ولحنهم، قلبهم وروحهم، انشودتهم وكلماتهم، موسيقاهم وزغاريدهم، اعراسهم وافراحهم، كان هذا شعارهم، حلمهم، خيالهم، وحيهم، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وردهم وصبَّارهم، حلوهم وعلقمهم، رسالة صبرهم ودمهم، اقلامهم ودواتهم. هو شعارهم.. فلسطين لكل الفلسطينيين، موحدين مترفعين عن الامهم لاجل وحدتهم، فاتسقت فلسفة الدماء مع فلسفة الاشلاء، وكان ما كان، فتعالوا على جراحهم، وتساموا على شخوصهم مهما علا شأنها، ونسجوا فلسفة الوحدة نسجا متينا من خيوط الحديد المطواع في ايديهم، ليتحرك حسب اهواء الوحدة وفلسفة التوحد، لا ليصدا في عقول التفرق والتشتت، فتنقلب فلسفة التوحد الى فلسفة خائنة مخيبة لوطنها الحلم، ومراهنة على مصير ابنائه الذين رسموا على لوحة نسيجهم الجماعي والاجتماعي اغنية صدحت بها السنة الملايين من الفلسطينيين في كل ارجاء المعمورة تقريبا، تلكم هي" وحدة وحدة وطنية".

نعم لقد اختلطت فلسفة الوحدة مع ورود التوحد، والحقيقة فانها ازهرت في البساتين الفلسطينية بكل الاشكال والالوان، حتى اصبح الفلسطينيون محط تحاسد وتداع لكل من عرفهم، وما اقصر الطريق واوهن الخيط بين فلسفة التوحد وفلسفة الخلاف، فعبر سنين قليلة عابرة من بساتين الوحدة الى صحراء الخيبة والاقفار، الى الحديد الذي صديء فتحول هما على قلوب الفلسطينيين، حيث مواطن الفلاسفة الجدد الذين جبلوا انفسهم مع فلسفة التصحر وجاؤوا ليرسخوا فلسفة الخلاف، ليقلبوا الصورة الفلسطينية رأسا على عقب، في الحقيقة ومن منطق امانة النقل والتاريخ، فقد تميز هؤلاء عن غيرهم، فكانوا فلاسفة ابداعيين خلاقين لكل عناصر الفلسفة الخلافية المترسبة في قيعان قلوبهم النابضة بدم اسود لا يشبه الدم الفلسطيني الاحمر القاني والموحد، ويبدو ان فلسفتهم على وشك النجاح، وعلى وشك ان يدثروا فلسفة الوحدة وحصاتها وصخورها تحت سنابك فلسفتهم المحذوة بطعم الصحراء التي غاب عنها القمر ورحلت منها الرمال.

ما اقذعها من عبارات تلك التي ينبو بها قادة الشعب الفلسطيني، وما اسلطها من السنة تلك التي انبرت للاتهام والاتهام المضاد، وما العنها من لحظة تلك التي تفوق بها فلاسفة الخلاف على فلاسفة الوحدة، وما امقتها من ساعة تلك التي جعلت الفلسطينيين يركنون الى فلسفة ما كانت ابدا في مقدمات اولوياتهم على امتداد الزمن الماضي، وما اهزلها من اسباب ودوافع ومبررات تلك التي تبنى عليها فلسفة الخلاف، تلك التي يلعن فيها وعلى اساسها الماقبليون والمابعديون بعضهم تزاحما منهم على فتات، واي فتات، فتات غير موجود، وان وجد فهو صعب المنال، بل ومغموس بالعلقم والذل، فلا ارض ليتنازعوها، ولا سيادة ليملكوا زمام مبادرتها والتحكم فيها، ولا سلطة ليقودوها، ولا جيوش ليأمروها، ولا غنيمة ليتسالبوها او يقتسموها، ولا سلطان لهم على كل ذلك، ولنا الحق الان ان نسأل، اذا اين هي اركان فلسفتهم في الخلاف؟؟ واين هي تراجم مبرراتهم لهذه الفلسفة؟؟ انها كالريح المشرعة المنثورة التائهة في صحراء اللارمال، حتى لو عوت هذه الريح، فانه لن يكون الا عواء اشبه ما يكون بجعجعة الطواحين التي تدور وتدور ولا تغني الناس نقير طحين يقتاتون به.

يبدو اننا في طريقنا الى الحرمان من لذة التخيل والتمتع بالاحلام التي تملأ علينا الزمن الفلسطيني بكل شواغره وشواغله، ذلك ان فلاسفة الخلاف من كل الاطياف سيموتون غمدا وكمدا اذ ما عشنا نتدارس احلامنا في مجالس الشباب والامهات، بل وفي حلقات الدرس، في مدارسنا وجامعاتنا، في حاراتنا وازقتنا، وكأنهم دأبوا على اثبات فلسفتهم بكل الوسائل التي تجعل من حاضر فلسفتهم حاضرا وحيدا متفردا لا نقاش في ابجدياته ولا خلاف على اجنداته، وهكذا هو حال فلاسفة الشر في كل زمان ومكان.

المأمول الان، ان لا زال للامل اي مكان او سعة، هو ان يتقدم فلاسفة التوحد، ان يشقوا الصفوف المتطلعة اليهم، المتلهفة الى عودتهم، المتبحرة في اعمدة فلسفتهم المؤمنة باهدافهم وتطلعاتهم

انها ليست لغة الخبز او كلماتها هي التي تملي علينا ان نقول كلماتنا التي باتت في ضائقة من نفسها لكثرة الترداد المؤلم والمثلوم على اطراف الشفاه، بل ولعلها ليست لغة الاجساد النحيلة هي التي تمقت فينا صبرنا الطويل على الجوع والامه وتبعاته الى ما لا نهاية، ولكنها لغة الدماء  الفلسطينية التي تلوك نفسها في طواحين اللحم البشري الذي لطالما تشابك مع جنازير الدبابات الاسرائيلية التي لا زالت تجثم بكل اثقالها على صدورنا التي لم يعد لها مجال لالتقاط الانفاس، فالانفاس اللاهثة الباحثة عن الاسترخاء من رمضاء الاحتلال وقسوته تفر الى نار الاخوة الفلسطينية التي ذاب بريقها واختفى لمعانها او كاد تحت وطأة تصفيات داخلية لا تبيح لنا الان ان نحتج على الاحتلال الذي حان وقت متعته المسرحية على وقع من تراجيديا فلسطينية منسوجة ومستنسخة من فصول التاريخ الذي يمعن في اللحم الفلسطيني تقطيعا بانصال السكاكين المغموسة بالملح والمعتقة بالعفن، حتى لم يعد من الوقت متسع ولو على هامش الزمان ليلتئم الجرح ويشفى من بعض الاثار الجانبية، ليشفى من غليل الالتهابات التي لا ترحم.

في فلسطين، تزداد الحكاية تعقيدا في كل لحظة عندما نكتشف ان ما عرفناه عن تاريخنا كان عبارة عن نوع من الزيف القاتل الذي نتجرعه الان كالسم الزعاف الذي يسري في الاوصال الفلسطينية دونما شفقة او رحمة، سم زعاف نتجرعه بايدينا لنثبت ان الانتحار الذاتي بات وسيلة ناجعة للتخلص من الحياة المجيدة، ولكن باقسى الصور وابشع الاساليب. نعم، وكأني بالاسف ذاته يلملم جراحه ليتاسف علينا، ولكنه لا يجد فسحة من زمان او مكان، او كأني به لا يقوى على البوح لنا بانه ملّ تأسف الناس علينا، بل وبدأ يمل هو ذاته من كثرة الاحداث المؤسفة التي لم يعد لها لغة قاموسية معتمدة او موحدة لتيسير الرجوع اليها في حال فقدنا البوصلة، تخيلوا ان الاسف رحل عنا وتركنا في غياهب كهوفنا المظلمة التي وضعنا انفسنا فيها، ونشبنا اظافرنا في اجسادنا حتى نفتك فيها، تخيلوا ان اللحم والعظم الذي لم يفت في عضده فولاذ الدبابات واوزانها الاسطورية بدأ يُطحن ويتحلل على ما هو اشد فتكا واكثر قدرة على تحطيم الذات، انه التسوس الداخلي الذي ضرب اشجارنا التي صمدت ووقفت في وجه الرياح العواصف.

ان مأساتي التي احيا هي انني اعيش في جو مرعب ومخيف من القريب الآت، الذي لم يعد يفصلنا عنه بضع خطوات، حيث انني كنت كما هم الكثيرون غيري نتوقع ان ارياش الطائر(فلسطين) قد بدأت تنبت على جناحيه ( حماس وفتح )، ولكن ويا لهول المفاجأة، اكتشفت ان الجناحين قد فقدا معظم ريشهما فلا يقويان على الطيران الان، بل ولا يقويان حتى على التفكير في الاقلاع، عسى ان يغرد الطائر الفلسطيني من جديد، ذلك ان الجناحان يتقاطبان على نفسيهما فيمزق احدهما الاخر دون رحمة، ودونما ارادة من الطائر ( فلسطين ) التي ظلمت على يد جناحيها، فتحولت الى طائر كسير الجنحان.

وكأني ايضا بصورة تمثيلية او تشبيهية اخرى، تتسابق مع نفسها في الزمن المتحلل منا نحن الفلسطينيين، وفي الجغرافيا التائهة في الانفاق والدهاليز والانقلابات الارضية التي تعقبها الهزات تلو الهزات، جناحي الجغرافيا الفلسطينية المقضومة والممزقة اربا اربا لا تكاد ترى بالعين المجردة، فغزة وما ادراك ما غزة، نار وجحيم، وقتل ودمار، ارواح تصعد ودماء تسيل، امهات تذرف الدموع، واخريات ينتظرن حتمية الانتقام، لقد كان مجرد التنبؤ بذلك قبل عدة سنوات بمثابة حلم مزعج، او كابوس يؤجج فينا كل مشاعر الغيرة والغضب وادعاءات حرصنا التي تقوَّس ظهرها فاصبحت عاجزة عن تقديم الجديد، اللهم الا اذا كان جديدها، اغتيال من هنا، حرق من هناك، تشنيع بهذا، اصابة ذاك، تهديد ووعيد وزمجرة وعربدة، وكان الكل وقع في شرك عميق له اول ولكن ليس في قادم الايام قرار.

اتتخيلون معي ذاك الطائر الكسير الرازح تحت ثقله وتحت امواج اناته الحائرة والمشفقة من الحياة، اترون معي ذلك الطائر الذي حلق في السماء عددا كبيرا من السنين، فاذا بجناحية تخونانه فيأبيان حمله او احتماله؟، لمجرد ان اتصور شكل ذلك الطائر فان قلبي يتشقق من دواخله، فلست بتلك الشجاعة التي تمنحني حق استلاب الحياة من طائر مسكين وقع ضحية جناحيه اللذان حسبناهما قوة متدفقة ستطوف بطائرنا العالم، فاذا بها وبلمح بصري يلتمع امام اعيننا كأنه سحر او يكاد، اجنحة منتوفة الريش لطائر هزيل إعْتَقَدَ واهما – مثلنا تماما – بانه في ايد امينة قوية شامخة عظيمة لتكون الصعقة بانه بين جناحين ضعيفين اغراهما التحليق منفردين دون ان يعلما بان ذلك من سابع المستحيلات، فضعفا، ثم اضعفا الطائر وحماسته في  تطواف الاعلان عن الذات الحية الصامدة المرابطة التي ستبقى ما دام الطير وافر الجناحين والريش.

حكاية قد يبدو فيها قليلا من التفلسف، وكثيرا من العقد، ولكن صدقوني بانها حكاية واضحة وضوح شمس في رابعة النهار، ولكن اجنحتنا لا تريد ان يبرد الدم الفلسطيني بين نفسه وفي مواجهة ذاته، كحل للازمات العاصفة التي تحتم علينا محاكمة الذات، مساءلتها عن الدماء النازفة، والنفوس القلقلة التي لم يعد لها مكان تحت شمس الايام، لم يعد لها مكان الا في قلب سماء ملبدة بالغيوم، ومليئة بكثبان الضباب. لا اخفيكم بانني بت اخاف كثيرا من تصفح المواقع الاخبارية او الصحف، وخصوصا الفلسطينية منها، حتى لكأنني بدأت اراجع نفسي في شطب اللون الاحمر من مخيلتي، لانه يذكرني بلون الدم الذي يسيل ليل نهار في شوارع غزة والضفة، او لكانني به دائم الجريان بفعل بندقيتين، الاولى وقد اعتدنا غدرها وعدوانيتها وبغضها للروح الفلسطينية الطامحة الى الحرية، وهي الاحتلال، واما الثانية فانها البندقية الفلسطينية المنحرفة التي تحاكي نماذج الاجرام المنظم الذي طالما فاخرنا كل العالم بشرفية نقائنا منه ومن مناهجه لانه يحاكي العصابات الاجرامية التي تشتهر بها بعض الدول ومنها دولة الاحتلال.

ان الخطورة التي لا نستطيع ان نغمض اعيننا عنها، او نتجاوز عناصرها هي تلك المتمثلة بالاعتياد على الاجرام الداخلي وكأنه بات وحدة واحدة مع التاريخ اليومي والزمني للفلسطينيين، وكانهم وبحكم المصادفات قرروا ان يحولوا الجغرافيا الفلسطينية الى غابات سوداء تمتليء بمحترفي الاجرام السياسي، وكأننا تناسينا الاية الكريمة التي تقول ( فمن عفى واصلح فهو خير له)، او لكأننا بدانا نثور على انفسنا انتقاما من التاريخ الانساني الذي الزمنا بحتمية البقاء في ظل الاحتلال الذي يزداد ظلما وجورا وزورا وبهتانا في كل لحظة. لكن الميزة الاساسية في هذا العام بان الهدايا القاتمة السوداء التي اعتدناها من القوات المحتلة تزايدت بشكل مضطرد على يد الفلسطينيين انفسهم. وفي النهاية هل سيسطر الانتقام السياسي على جداول اعمالنا الى ما لا نهاية، الى حيث عدم الاكتراث بمستقبل الطائر الذي اذكركم انه يتمنى الموت الف مرة ومرة على ان تخونه جناحاه، ولكنه وعلى وجه يقيني يفضل التحليق من جديد، يرقب الاعلان عن نفسه وعن جناحيه جناحين قويين يكسوهما الريش الذي يدفعه الى الطيران والاحتماء من زمهرير الشتاء وغلواء الصيف، فهل ستقرر حماس وفتح ان يعودا جناحين وارفين بالريش ومتدفقان بالدماء الفلسطينية المصونة، ام انهما سيقرران ابقاء الطائر رابضا في محطة الموت الاخيرة عنوانا للضحايا التي تسقط كل يوم، او عنوانا للفشل الفلسطيني في ادارة الذات وتوطينها على الصمود الاسطوري الذي بدأ ينقلب الى شبه انهيار  محتم وقريب الى التابيد، من العسير علينا ان نحكم متى سيأتي الوقت الذي نرى به الطائر الفلسطيني وقد حلق فوق رؤوسنا مندفعا نحو سماء فلسطينية زاخرة بالخير والعطاء والبذل فيما سيدل على قوة الجناحين وشفاءهما من الاوهام المريضة التي جعلتاهما يموتان قبل ان يعلن الموت عن قرب موعده.      

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 26/كانون الأول  /2006 - 4 /ذي الحجة /1427