قد يقول قائل أو يسأل سائل: هل نحن متخلفون حضاريا كي توضع لنا
الشروط من اجل النهوض؟ والجواب وبكل بساطة هو أن انظر أيها السائل من
حولك لترى ما ترى من عجائب وغرائب الحال العربي والإسلامي المأزوم.
فالواقع من إندونيسيا وبروناي شرقا الى مراكش وموريتانيا ومالي
والسنغال غربا يقول بأننا في عالم آخر غير عالمنا هذا. وهو الحال عينه
من كزاخاستان وقرغيزيا وطاجيكستان واوزباكستان وتركمنستان وأذربيجان
وتركيا شمالا الى جزر القمر ومدغشقر وحيث حطت أقدام العرب والمسلمين
جنوبا.
العرب والمسلمون اليوم، ومن على هذه البقعة الجغرافية حالهم يرثى
له. فهم بحكم واقعهم هذا وما يعتريه من أحوال وظروف ومجريات أحداث قد
صاروا محل أنظار الآخرين في العديد من الدول والبلدان، وكأنه لا ماض
تليد لهم ولا حاضر ولا مستقبل؟!
صحيح أننا أصحاب تاريخ وثقافة وحضارة، ونمتلك منظومة قيمية لا نظير
لها ولا مثيل في العالم، الا أن هذا الأمر وإن كان حقيقة مرصودة يبقى
شيء وما نحن فيه وعليه اليوم من واقع مرير شيء آخر. فالتاريخ يبقى مجرد
تاريخ لا فائدة منه سوى انه محل درس واعتبار لما سجل وحوى من مجريات
أحداث وأخبار، هذا لمن يريد حقا الاعتبار.
كما أن الثقافة العربية والإسلامية وما فيها من صور مشرقة تبقى
أمورا لا تنفع أصحابها ما بقيت في حدود الحس والوعي مجرد أفكار وتصورات
وأقوال وأفعال مجزأة لا صورة لها ولا قالب يجمعها ويجعل منها ثقافة
متماسكة ذات رصيد محسوس وملموس يدب على وجه الارض على هيئة وصورة نهج
منظم ومنتظم ينبض بالحياة والثبات والاستمرار في واقع الحياة. فما زلنا
ومنذ زمن بعيد نتغنى بثقافتنا دون أن نترجم بحق وحقيقة معنى ما نتغنى
به، ودونما أي شعور يصدق ما نحس به وما هو بالفعل محل إدراكنا ووعينا
مما هو مركوز بحكم "الميراث الجمعي" في البواطن والأعماق، في عوالم
العقل والوجدان والضمير.
لقد كنا في الماضي بحق وحقيقة أصحاب نهضة وحضارة، أما اليوم فلا
كيان لنا ولا كينونة، الى أن صار حالنا لا يسر عدوا ولا صديقا!!
ولا عجب أن نرى ما نرى من حولنا فقد أصاب عقولنا ونفوسنا ما أصابها
من عوارض الانهزام والازدواجية وبعض مظاهر الفصام، هذا بعد أن ضيعنا
مناط عزتنا وكرامتنا؛ ديننا الإسلامي الحنيف بكل ما فيه من مقومات
النهوض والشهود الحضاري.
ولكي لا يطول بنا الحديث، ونقع فيما لا نريده من محاذير قراءة
الواقع وشوارد التحليل والتأويل، علينا أن نعرج بقدر ما تسمح لنا حدود
المقام والمقال على مشهد من أهم مشاهد انحطاط العرب والمسلمين، والذي
يعد وبجد من أسباب تراجع نهضتنا الحضارية، وضياع مكامن عزتنا وكرامتنا،
ألا وهو مشهد العجز وغياب الفاعلية الايجابية في الواقع العربيّ
والإسلامي. وهو ما نرى ضرورة في إبرازه للتمكن من الاسهام في رصد
وتشخيص واقعنا الذي نحن عليه، فبالتشخيص تتحدد العلل، ويتكشف مكمن
الخلل، وتتضح الرؤيا، ويسهل بعد ذلك تحديد وصفة البلسم والعلاج.
القدرة على اتخاذ ما يلزم وما تقتضيه الضرورة من قرارات في ضوء
دراسة وتمحيص الواقع العربي والإسلامي بطريقة ممنهجة تحتكم الى إعمال
واستعمال ما هو مناسب من صيغ ووسائل وأساليب علميّة وعمليّة أمر لم يعد
يعرفه الفضاء العربي والإسلامي لا من بعيد ولا من قريب، وكأنه لا سعة
لنا ولا قدرة ولا طاقة!!
أصبحنا من حيث التعبير عن القدرة ومناط إعمالها عاجزين، بل
انهازميين وسلبيين الى أبعد الحدود. واخطر ما في الأمر وكما هو مشهود
أن هنالك العديد من القضايا المصيرية التي تتهدد شخصية وكينونة هذه
الأمة، إلا أنه لا فعل ولا حول، بل في معظم الأحايين لا تعليق ولا قول،
وكأنه الشلل المطبق!! والدليل على صحة ما نقول هو ما يحدث لنا منذ زمن
طويل شهدته وما زالت تشهده الأجيال المتعاقبة في تركستان الصينية، وفي
كل من جنوب الفلبين وفطامي وآراكان وكشمير وأفغانستان والشيشان
وأبخازيا والبوسنة وكوسوفو والعراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان
وغيرها من رقاع وبقاع الجغرافيا والديموغرافيا العربية والاسلامية
الممتدة على طول خطوط الطول والعرض من على وجه هذه الارض. فعلى الرغم
من انك تسمع عن مصادر القوة الهائلة التي يتمتع بها العرب والمسلمون،
البشرية منها وغير البشرية، المعنوية والمادية، الا انك ترى بأم عينيك،
وتسمع باذنيك عن أناس وقد أنهكتهم الدعة والضعة والسلبية، فصاروا
وكأنهم أجسام مترهلة متثاقلة، بل أعجاز نخل خاوية!!
كيف لا والعرب والمسلمون اليوم يأكلون مما لا يزرعون، ويلبسون مما
لا يصنعون، ويتغنون بذلك ويتبجحون؟! الى أن صارت بلادنا من المحيط الى
المحيط مجرد معارض وحوانيت، تغذيها وتديرها عجلة الزراعة والصناعة
والتجارة في مدن وعواصم بلاد الشرق والغرب، ابتداء من اليابان وكوريا
والصين في أقصى الشرق، مرورا بالهند وأوروبا، الى كندا فالولايات
المتحدة في أقصى الغرب. ومن الاتحاد الروسيّ والدول الاسكندنافيّة
شمالا الى كل من دولة جنوب إفريقيا فأستراليا ونيوزلندا في أقصى جنوب
الارض.
هذه السلبية المطلقة وهذا التعطيل المطلق للقدرة، أي غياب وتغييب
"الفاعلية الايجابية" كما يحلو لي أن أعبّر عن الأمر، يدل على أن لا
رغبة لدينا نحو تجسيد الاستقلال والانعتاق الحقيقي، والمتمثل عند غيرنا
بالاعتماد على الذات بقدر ما هو ممكن ومتاح، والعمل على تحقيق الاكتفاء
كما فعلت الهند والصين. أما وهذا الواقع العربي والإسلامي المخجل
المهين وقد تجاوزت هذه الأمة في عددها وتعدادها المليار وقرابة نصف
المليار نسمة(1)، ممن ينتشرون ويعيشون على أخصب وأغنى بقاع الارض، بل
وممن يشرفون على أهم المواقع الحيوية والاستراتيجية في هذا العالم، عدا
عما تتمتع به بواطن أرضهم من ثروات بترولية ومعدنية هائلة لا حياة ولا
مدنية ولا حضارة لأحد بدونها فهو إن دل على شيء فإنما يدل على أننا
أصبحنا وبامتياز مسلوبي المشيئة والإرادة، مجرد جمهور من العجزة؛ ممن
تعطلت قدرتهم وفاعليتهم في واقع النفس والحياة.
إذن علينا أن نحرك مكامن القوة والمقدرة فينا، وأن نبعث صور واشكال
الفاعلية في واقعنا جديد، هذا فيما إذا أردنا حقا النهوض.
لا يشك عاقل ما لدى العرب والمسلمين من مصادر ومكامن القوة والقدرة
والطاقة، فهنالك القوى البشرية الهائلة، حيث وكما سبقت الاشارة، اكثر
من مليار ونصف المليار إنسان عربي ومسلم في هذا العالم. هذا إضافة الى
وفرة قوى المصادر الطبيعة، حيث الارض العربية والإسلامية الغنية بما
رحبت وما حوت من الغاز الطبيعي والبترول والمعادن، وما الى غير ذلك من
مصادر الطاقة والقوة.
معروف ومشهود عن قوة شكيمة الإنسان في بلادنا كفرد. ومشهود أيضا عن
قوة الأسرة والعائلة العربية والإسلامية وتماسكها في واقع الحياة،
إضافة الى قوة كل من الجماعة والمجتمع والشعب والأمة عندما تتجلى فيها
المشيئة والإرادة. كما انه معروف عن قوة عاطفة الانتماء لهذه الأمة
والاستعداد التام للتضحية في سبيل رفعة ونصرة قضاياها المصيرية
والعادلة على اختلافها. هذا ناهيك عن قوة الإيمان المركوز في أعماق
النفوس، وقوة الانتساب الى الحق الأزلي الأصيل الكامن في الكون والوجود
والحياة، إضافة الى قوة المنطق والحجة والبرهان، وقوة الإرث الحضاريّ
الشاهد على عظمة وعراقة الأمة العربية والإسلامية.
كل هذه المظاهر للقوة موجودة لدينا كعرب ومسلمين، وبالتالي يمكن لنا
توظيفها واستثمارها أيّما توظيف وأيّما استثمار. ويمكن لنا فيما إذا
قصدنا بعثها في النفوس وإلى حيز الواقع والوجود من جديد. فالعصر لمن
أدرك ووعى كنه الأمر عصر القوة والمقدرة والفاعلية والأخذ بزمام
المبادرة للنهوض بالأمم ولبناء وتشييد الحضارات، لا عصر العجز والدعة
والضعة والذل والمسكنة والهوان(2).
صحيح أن بعث مكامن القوة والمقدرة وحديهما لا يكفي لتشييد وبناء
الحضارات التي تليق بانسانية الإنسان وكرامته في هذه الارض، فما اكثر
من دفعتهم قوتهم وقدرتهم الى التجبر في رقاب العباد واستعباد الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وما التجربة الاستعمارية البريطانية والفرنسية
والأسبانية والبرتغالية والإيطالية والهولندية وغيرها عنا ببعيد. هذا
ناهيك عن الفعل الأمريكي السلبيّ في واقع النفس والاجتماع والكون
والحياة، فهو بالأمر المشهود، فما فعلته أمريكا في الحرب العالمية
الثانية والمتمثل بالضربات الاستراتيجية ضد المدنيين الألمان في
أوروبا، وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان، وما فعلته في كل من الحرب
الكوريّة وحرب فيتنام، وما تفعله اليوم في إطار ما تسميه بالحرب على
الإرهاب في كل من أفغانستان والعراق ليندى له الجبين الإنساني الحر،
فهو عمل وان اختلفت ذرائعه ومسمياته سيبقى غرائزيّ بربري جبان، يعبر عن
استخدام رخيص، وتوظيف مشين للقوة.
القوة في المفهوم الايجابيّ يجب أن تكون لاستعمار وإعمار الارض
بالحق، لا لامتهان كرامة الإنسان واستعمار أرضه وقهره وتدنيس مقدساته
وشرفه وعرضه كما هو في لعبة العبث هنا وهناك. من هنا جاءت ضرورة
استخدام مصطلحيّ القوة والمقدرة وقرنهما بمصطلح الفاعلية الايجابية.
فما أكثر من أعجبتهم قوتهم وقدرتهم في الارض، فكان بأن أخذتهم العزة
بالإثم واستكبروا وعاثوا في الارض الفساد؟!
في الحالة الايجابية يكون بعث القوة والمقدرة من أجل البناء ورعاية
وحماية الحق الأزلي الأصيل المركوز في أعماق النفس الإنسانية بل في كنه
الوجود كله. قال تعالى: [وأعدوا لهم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم وآخرين لا تعلمونهم الله يعلمهم](3). أما في الحالة
السلبية والعبثية فلا عجب أن ترى القوي عندما يمكّن من رقاب الناس أو
يتمكّن في الارض من القيام بعمل كل ما فيه فساد وإفساد بل إهلاك للبلاد
والعباد. قال تعالى فيمن هذه هي حاله: [وإذا تولى سعى في الارض ليفسد
فيها ويهلك الحرث والنسل](4).
القوة والمقدرة ما لم تكن الغاية من إعمالها ذات مقصد ايجابي في
واقع النفس والاجتماع والكون والحياة تبقى لا حاجة لنا بها؛ لأنها تصير
عندئذ شرا مستطيرا، يهدم أصحابها ولا يبنون، ترعى الظلم والقمع والقهر
والاستبداد وكل ما هو عدوانيّ وظلاميّ. وهذا ما قد شهدته البشرية في
الأمس القريب قبيل وخلال وبعيد الحربين العالميتين، وهو ما زلنا نشهده
اليوم، خاصة في ظل ضعف الشعوب والأمم وغطرسة وجبروت قوى الشر والطغيان
ومن تدعمهم ويدعمونها في بقاع الارض. فمثل هذا الفعل اللاإنسانيّ
واللاحضاري هو الذي يتهدد الوجود البشريّ بصورة لم يسبق لها التاريخ
مثيلا.
مثل هذه القوة والمقدرة ومناط توظيفها هو ما ننأى بالعرب والمسلمين
عن التفكير بها والسعي من أجل بلوغها والوصول إليها. فلأن نكون
مستضعفين خير لنا من أن نكون ظالمين متجبرّين في الارض.
*قسم العلوم الصحيّة، كلية العلوم الطبية،
الجامعة العربية الامريكية.
E-mail: waelmustafa@aauj.edu
............................................
الهوامش والمراجـــــــع:
(1) تعداد المسلمين في العالم اليوم وحسب بعض المصادر الإحصائية
للعام 2006م، هو: 000, 941, 308, 1. أنظر بهذا الخصوص:
(2) Friedrich, Carl Joachim and Charles Blitzer: The Age
of Power: Development of Western Civilization. Ithaca, NY: Cornell
University Press, 1957.
(3) سورة الأنفال، 60.
(4) سورة البقرة، 205. |