تعتبر الصحافة في مختلف دول العالم من وسائل الإعلام الأكثر أهمية
للتحكم في الأوضاع وتوجيهها لخدمة أغراض وأهداف وطنية أو لخدمة السلطة
أو الجهة المالكة للصحافة، ومع التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل
الاتصال، من أقمار صناعية وشبكات عنكبوتية باتت تغطي جهات المعمورة
الأربع وتصل إلى أقصى نقطة فيها، متيحة الفرصة للعاملين في مجال
الأخبار لنقل أدق تفاصيل الخبر وآخر تطوراته لحظة بلحظة، والتعليق عليه
وتحليله على الهواء مباشرة من موقع الحدث، بالتوازي مع أجهزة الهاتف
الجوال التي أضحت ناقلا مهما للأخبار الطارئة التي تأتينا عبر الرسائل
القصيرة، تمكنت الصحافة من الازدهار وأصبحت تستأثر باهتمامات مختلف
الأوساط، وتمثل مجال استقطاب للعديد من مراكز اتخاذ القرارات ومجموعات
المصالح.
غير أن هذا التطور المذهل في عالم الصحافة أدخل الجزائر منذ
الانفتاح الديمقراطي الذي أقره دستور 23 فبراير 1989 م في طوفان إعلامي
سببه قضية جوهرية، هو أن طبيعة النظام السياسي لا يقبل إلا بهامش يسير
من الحرية على ضيقه... وعندما نتكلم عن هامش الحرية في الجزائر اليوم،
يقودنا الحديث عن حرية التعبير التي تتميز بها الصحافة الخاصة المكتوبة
فقط، رغم أن معظمها ينتهج أسلوب اختلاق الخبر والانتقائية والكيل
بمكيالين..
قد يعطي حال الصحافة المكتوبة في الجزائر الانطباع بأنها مشرقة،
لكنها في الحقيقة بائسة، بل شديدة البؤس.. وعنوان بؤسها هو احتكار
المطابع ففي الجزائر ست مطابع كبيرة تسيطر الحكومة على خمسة منها تطبع
لجل الصحف التي تبقى رهينة التوقيت الذي تحدده لها لتسليم الصفحات حتى
يمكن سحب الصحيفة، وحتى حجم سحب كل صحيفة مرهون بطاقة هذه المطابع التي
تعاني الاكتظاظ، بغض النظر على قدرة كل عنوان على استقطاب القراء. فيما
يبقى مشروع مطبعة الجنوب متوقف والمطابع الخاصة بالشرق والغرب تنتظر
الفرج، علاوة على أنها بحاجة إلى ضمانات كبيرة..
وما يزيد بؤس الصحافة المكتوبة مشكل الورق المستعمل في الطباعة،
فالورق المستعمل مستورد ولا تتوفر فيه أدنى المعايير والشروط المعمول
بها عالميا، ناهيك عن تمسك الصحف بالشكل المتوارث من الحقب الماضية
واقتصارها على أربعة وعشرين صفحة أو ما يزيد بقليل، وسعيا منها لارتقاء
بمستوى الصحافة الإلكترونية من حيث المحتوى والشكل انتهجت طريقة "نسخ
لصق" باقتباس المواضيع، بل يزيد بسرقة ما ينشر في المواقع الإخبارية
ونسبها لبعض صحفييها...
ويتفاقم بؤسها باحتكار المال حيث أصبحت مداخيل الإشهار تضمنها
الوكالة الوطنية للنشر والإشهار للصحف المخنوقة بفضل تعليمة الحكومة
الصادرة في ماي 2004، والتي تجبر المؤسسات العمومية على تمرير
إعلاناتها على وكالة الإشهار العمومية قبل أن يتم توزيعها على الصحف.
وهو قرار يرهن تسليم الإشهار العمومي إلا للتلميذ النجيب الذي يحفظ
الدروس، فالكثير من الصحف اختفت لأسباب تجارية، وأخرى متعلقة بعقاب
السلطة لها على خطها الافتتاحي حتى باتت الصحف التي فلتت من احتواء
السلطة شديد الحرص على توازنها المالي أو ربحها، وتموقعها في بيئة
اقتصادية يميزها الفساد والصراع المستميت حول الريع.. وربما يتعدى
التغطية على الفساد وأحيانا المشاركة فيه والاغتراف منه..
البؤس يتسع ليشمل الصحافيين الجزائريين بسبب القوانين الزجرية في
حقهم، ونذكر في هذا الشأن مرسوم حالة الطوارئ، ثم قانون العقوبات
المعدل في جويلية 2001 م، حيث تم تشديد العقوبات على جنح الصحافة لا
سيما القذف في حق رئيس الجمهورية والمسئولين السامين في الدولة. ولا
زلنا إلى اليوم بقوانين تقر بسجن الصحافي عقابا له على كتاباته،
والصحافيون يفتقدون لأدنى حماية في ممارسة مهامهم، فهم أول من يكون محل
متابعة وتعنيف لما يكتبون عن الفساد، ويكفي في هذا الشأن ذكر عدد
الصحافيين الذين مثلوا أمام المحاكم، أو أدخلوا السجن وعانوا من
المضايقات وتلقيهم عشرات الاستدعاءات لأنهم أدانوا سوء التسيير
والتجاوزات بالإضافة لحالات حرمان مراسلين أجانب من الاعتماد.
معاناة الصحفي لا تتوقف في حدود الحصار الذي تفرضه الخطوط الحمراء،
بل تتعدى ليضيق به مكان عمله في التحرير والعمل، فكثير هي الصحف التي
لا تتوفر على مكاتب وحتى وإن وجدت فهي تضيق بأهلها كون ولليوم لم توفر
الدولة مكان يسع الجميع رغم الوعود... ويمضى الصحفي في العمل ليواجه
حصار أخر عن سابقه يتمثل في شبح الحياة الاجتماعي فالكثير منهم يعانون
الويل في حياتهم بحثا على لقمة العيش ويحلمون بالحصول على حاسوب محمول،
ناهيك عن معاناتهم في الحصول على سكن يأويهم، أو على الأقل رفع الأجور
التي لا يتعدى في أحسن الحالات 300 دولار... إلا أن كرامتهم لا تسمح
لهم بالتشهير بوضعيتهم المأساوية... فقد وصل الأمر إلى حد مطالبة أحد
الصحفيين بالتبرع بكليته مقابل الحصول على مبلغ مالي لشراء بيت لعائلته
التي تعيش في الشارع بعد طردها من مسكنها، والأدهى من ذلك أن المساعدة
التي تلقاها المعني جاءت من بلد العراق الذي يقبع تحت وطأة الاحتلال،
في وقت أدارت - فيه السلطة والنقابات وحتى مؤسسات عمل فيها من قبل
كصحفي - ظهرها ولم تكترث لوضعيته، وكثيرون هم أمثال هذا الصحفي...
الواقع المزري يدفعنا للحديث عن واقع التشغيل في هذا القطاع الذي
أصبح استغلاليا بقطاعه العام والخاص، فكثير هي الأقلام الشابة، بل
يتعدى حتى ليشمل مختلف شرائح رجال الإعلام الذين يواجهون البيروقراطية
والإقصاء في مختلف المؤسسات الإعلامية، زد على ذلك وجود ظاهرة التشغيل
بعقود ما قبل العمل لتقليل من النفقات ليجد الإعلامي نفسه بعد عام من
الاستغلال عاطل عن الشغل ويبحث عن مصير جديد ليبدأ حياته من جديد.. وما
يحمس المدراء والمسئولين هم أصحاب الوظائف المزدوجة ذوى الخبرة في جلب
الأموال بطرق إلتوائية، ويكون جزاءهم جزء من ذاك المال وقد يتجاوزه إلى
منصب عمل في تلك المؤسسات أو لأحد أقاربهم من لا علاقة له بالصحافة...
ورغم الحصار المضروب إلا أن المحيط القانوني في الجزائر ساعد على
وجود حرية إعلامية وتعددية عبر صفحات الصحف ارتبطت بالتعددية السياسية
التي عجلت الأحداث المأساوية في تشكلها، فكانت مضربا للمثل عربيا وحتى
دوليا، وجعل من الجزائر بلد له السبق في بناء صحافة حرة بلغت الجرأة ما
لم تبلغه حتى صحافة بعض الدول الديمقراطية وحرية لتعبير، إلا أن هذه
الصورة لم تعمر طويلا فتحول إلى بلد يتلذذ بسجن الصحفيين وملاحقتهم عند
كل منعرج وكأنهم مجرد مجرمين...
لقد سمحت تلك الحقبة إلى إصدار ستين يومية ونحو مائة أسبوعية، وفُرض
توازي بين الصحف المكتوبة باللغة العربية والمكتوبة باللغة الفرنسية
كون الساحة الجزائرية تتميز بثنائية الملكية، والسوق اليوم يضم ست صحف
حكومية والباقي خاصة، لأفراد وأحزاب، الخاصة تسعى للإثارة والانتشار'
والحكومية تعمل على التأكيد أن كل شيء على ما يرام..
الوضع الذي آلات له الصحافة الجزائرية يتطلب اتخاذ الإجراءات
والضوابط الملائمة لترشيد الصحافة لخدمة الثقافة والفكر بهدف تغيير
المجتمع نحو الأفضل، ومواجهة الإعلام الثقيل، والتصدي لهيمنته الدولة
التي تتضح جليا من خلال سيطرتها على وكالة الأنباء والتلفزيون
والإذاعة، وفرضها رقابة مشددة على مصدر الخبر، زد على ذلك إعلان السلطة
صراحة أنها لن تفتح مجال الإعلام السمعي بطري أمام التعددية إلى حين
تشاء..
وأمام هذا السد يلجأ المواطن إلى الفضائيات العالمية التي تلقى صدى
كبير أمام شح التلفزيون والإذاعة للأخبار والبرامج والأعمال الهادفة
كما ومضمونا حتى باتت هذه الوسائل يتيمة غائبة من قائمة القنوات
المفضلة لدى أفراد المجتمع، وما يزيد نفور الفرد لها اتباع هذه الوسائل
لغة إعلامية لا تزال أسيرة لغة فارغة ومطنبة بمفردات الثناء على كل ما
هو رسمي بغية التلميع الدائم للسراب.. والكل يعلم مدى التأثير الكبير
لهذه الوسائل الإعلامية في بلد بلغت نسبة الأمية فيه الـ 30 % من مجوع
السكان، ونفهم لماذا تصر السلطة على احتكارها، وتشجيعها للبرامج
الهزيلة وعديمة المنفعة والمصداقية ومثيرة السخرية، فالسبب يكمن في
مستوى ومدى وعي المسئولين المسيرين للتلفزيون بقنواته الثلاث والإذاعة
بقنواتها الوطنية ومحطاتها الجهوية...
من الترف الحديث عن صحافة حرة ومتطورة في الجزائر، في ظل انعدام
منظمات قوية لأهل المهنة ونواد وتقاليد نقابية، وفضاءات حرة لمناقشة
القضايا الأخلاقية والمهنية والاجتماعية. هذا الوضع غذته انقسامات
فكرية وولاءات سياسية ودوافع مصلحية، والقوى التي تخيفها حرية التعبير
لا تقبل بوجود هذه الفضاءات. لذلك لا عجب أن تصنف الجزائر في الرتبة
129 من بين 167 دولة تعاني من غياب حرية التعبير، في ترتيب منظمة
"محققون بلا حدود" غير الحكومية الصادر في العام المنصرم 2005، بمعنى
أن الجزائر فقدت 34 نقطة مقارنة بأول ترتيب أقامته نفس المنظمة سنة
2002 وهي عام بعد عام تتأخر في الترتيب ومن غير شك أن مرتبة العام 2006
لن يؤشر عليها بالأخضر، طالما أن هناك قوانين تجرّم الصحافيين بحجة
القذف والتشهير فالصحفي وإن انحرف بكتاباته أو تمادى ربما في الإساءة
لا يمكن أن يعامل معاملة المجرم لأن الرأي حتى وإن كان لم يعجب البعض
يبقى رأيا، إضافة للقائمة السوداء التي تتضمن أزيد من 60 صحيفة تم
تعليقها وتمنع من الصدور لعدة تبريرات، فضلا عن سياسة التضييق المتواصل
على مصادر الخبر والتوزيع غير المنصف للإشهار، والأهم لماذا تعجز
الحكومات المتوالية عن إنجاب قانون للإعلام يكون في مستوى طموحات كل
المهتمين بهذا القطاع الاستراتيجي ؟
لقد تلقى الوسط الإعلامي عدة دعوات من مختلف الوزراء المتعاقبين على
قطاع الإعلام من رحباني إلى هيشور مرورا بمحي الدين عميمور وخليدة تومي
ومحمد عبو، فكل هؤلاء جمعوا الصحفيين في لقاءات لإثراء مسودة مشروع
قانون للإعلام لم ير النور أبدا، شأنه شأن مجلس أخلاقيات المهنة...
واليوم الدور على الوزير الهاشمي جيار لتنشيط المشاريع المتأخرة خاصة
أنه أكد أنه هناك إرادة سياسية قوية لتأهيل قطاع الإعلام بمختلف
تشكيلاته.
والواقع اليوم ورغم الصورة المحتشمة للصحافة الجزائرية إلا أنها
سجلت حضورا في ميدان جديد قد يجهله الكثير هو الإعلام الإلكتروني من
خلال إطلالة مجموعة من المواقع الإعلامية المهتمة بالأخبار وتحاليل
الأحداث أو حتى الإطلالة الإلكترونية للصحف المطبوعة، فكان لهذه
المواقع إسهامات مهمة في استخدام الإنترنت كوسيلة صحفية، باعتبارها
وسيلة تكنولوجية مفتوحة المجال نحو العالمية للحريات عبر كل المجتمعات.
الظاهرة ورغم حداثتها وجدت صدى لدى الجزائريين في الداخل والخارج
أيضاً، رغم أنه من المبكر جداً الحكم عليها ومدى تأثيرها على مستقبل
الصحافة بالنظر إلى أن صحافة الورق لا تزال إلى اليوم سيدة الموقف، فإن
ذلك لا ينسينا ما نراه في جيل الشباب من افتتان بالمواقع الإلكترونية
متابعة لها واستفادة مما تضخه من معلومات بسرعة ومهنية عالية رغم
حداثتها". |