يذكر أن الحركة الثقافية العريقة في فرنسا تتداول منذ قرن تقريبا
القصص التراثية التي تعكس صور العلاقة المتأزمة بين الصحافة الفرنسية
وحكوماتها، وكان أهمها تلك العلاقة المثيرة التي تصور طابع الطرفة
والحيلة. ويحكى في ذلك: أن صحيفة فرنسية مشهورة شكلت لجنة رقابة خاصة
لتتبع شأن مالي في إحدى حكومات فرنسا فاكتُشِف أن 50% من الوزراء
ضالعون في قضايا اختلاس وسرقة ورشوة وما إلى ذلك من الأمراض (الرسمية)
الملازمة للتطور الديمقراطي المديني الحداثي. فكتبت الصحيفة على صدر
صفحتها الأولى: " إن نصف مجلس الوزراء حرامية" !.
أصبح الصباح وإذا بباريس تضج لهول هذه الفضيحة بعد الانتشار الواسع
لعدد صحيفة ذلك اليوم، ونادى المنادي: هل من مغيث يغيثنا؟، أين فكر
التحرر والأنوار؟ أين فولتير وروسو؟ أين حق حداثة مدينة باريس، هل
استهلكت نفسها؟، هل انطفأت شعلة حداثة باريس لتسرق مدينة لندن الأضواء
كلها بلا منازع، هل يعود بريق مدينتي برلين وميونخ ليسقط العالم في
أتون حرب عالمية جديدة؟
دافعت الحكومة الفرنسية عن نفسها وقدمت بلاغا إلى النيابة العامة،
فصدر الحكم عن النيابة ضد الصحيفة وثبتت تهمة النيل من الحكومة بلا وجه
حق، فحق على الصحيفة نشر اعتذار وتكذيب لخبر (الحرامية).
في اليوم التالي لصدور الحكم كان أهل باريس على أحر من الجمر..
ينتظرون تفوق صدقية وشجاعة الصحيفة بعد أن وضعت على خط صراط رفيع..
وكانت المفاجأ:كتبت الصحيفة على صدر صفحتها الأولى:
" نشرنا بالأمس أن نصف مجلس الوزراء حرامية، واليوم نصحح ذلك الخبر
ونؤكد أن: نصف مجلس الوزراء غير حرامية"!.
قرأ الناس الخبر في ذلك اليوم وأنِسوا له وميزوا به الحقيقة وخبروها
بين وضعي الإثبات والنفي، فكان الخبر قضية صحفية جزئية سالبة صارمة
أكدت أن نصف الحكومة حرامية في جميع الأحوال.
وفي جميع الأحوال يجد أحد المرشحين البحرانيين نفسه بين مثل هذا
الإثبات والنفي فكيف المخرج وهل من سبيل إلى مفر؟
وجدناه في لحظة خاطفة من المتشددين ضد توظيف الحافلات لنقل العجائز
إلى المركز الانتخابي وضمان كسب أصواتهم، وفي ظنه إن هذه الخطوة تعد
وسيلة من وسائل العاجزين حين تفور أعصاب المرشحين ضد منافسيهم في آخر
لحظات الاقتراع. وحين يُسأل مرشحنا هذا عن العلة التامة في ذلك ؛ فهو
لا يتردد في الإفصاح عن سخطه وامتعاضه من هذه الوسيلة لأنها خذلته في
حملة سابقة..كيف؟
يذكر مقربوه: أن حافلتين محملتين بالعجائز جهزهما لضمان ترشيحه
كممثل بلدي في حملة الانتخابات السابقة. وبعد أن خلص إلى دفع الأجرة
أمر السائقين بالتوجه مباشرة إلى مركز الاقتراع على أمل كسب صوتيهما
إلى جانب أصوات العجائز.. وفي وسط الطريق.. تلقاهما عالم دين شاب
(حرحوش) مساند لحملة المرشح المنافس لمرشحنا ولا يعرف في ثقافة سلوك
الإنسان القائد إلا الاستفزازي منه، فما كان منه إلا أن اقتحم
الحافلتين لأنهما بلا (حراسة انتخابية)، ثم شرع في مخاطبة العجائز
بخطبة عصماء حولت جل الأصوات لصالح مرشحه المنافس، فكان المال من
مرشحنا والأصوات لغريمه ومنافسه عند مركز الاقتراع!.
أصيب مرشحنا هذا بالإحباط وبعقدة الأمس فلم يستطع التخلص من آثارهما
الجانبية اليوم.. ولا اشك أنه بذل كل ما في وسعه لمعالجة نفسه وليمحو
ما يشاء في صورة ذاك عالم الدين الشاب الاستفزازي (الحرحوش) المتسبب في
انتكاسته الانتخابية السابقة فتأمل خيرا وأحل القطع في قدرات الذات محل
الشك والظن. لكن عقدته هذه لم تنفك وتفاقمت وأخذت من نقسه مأخذا عظيما
خلال مجريات حملته الانتخابية البرلمانية الراهنة حينما اجتهد مرشحنا
هذا في إعداد الأجواء الانتخابية لصالحه في حسينية نسائية!.
وقبل أن يهم مرشحنا بدخول الحسينية بسلام ليقدم برنامجه الانتخابي
للنساء ؛ اقتحم عالم الدين الشاب نفسه - المؤيد لغريمه ومنافسه - بصورة
مفاجئة البوابة الأخرى للحسينية ثم خطب خطبته العصماء في النساء، فماجت
الحسينية وهاجت ضد مرشحنا المسكين فكفى المؤمنات شر التصويت لصالحه
وعاد خائبا محبطا منكفئا على عقدته من جديد!
كيف السبيل إلى حل العقدة والواقع لا يحتمل الظن والشك، وكل الوقائع
تثبت القطع، ولا تمحو صورة عالم الدين الشاب(الحرحوش) الذي كان له
بالمرصاد في كل حين وكان وراء رواج شائعة جديدة!.
أذيعت هذه الشائعة بعد حادثة حسينية النساء بأيام قلائل وأفادت: "أن
مرشحنا المسكين هذا لم يدخر جهدا إلا ووظفه ضد قاعدة العلماء ومعاقلهم"
وضد "الكتلة الإيمانية" التي ضمت مرشحا ليبراليا وشيوعيا فضلتهما على
عالم دين في الماحوز وسيدة جليلة في المحرق!. وعلى أساس من ذلك كان
عالم الدين الشاب - في تصور مرشحنا- يستحق الآن كل المناوئة والمناكقة
والمصارعة وحتى الحرب إن لزم الأمر.. فكيف الخروج من المأزق والحملة
الانتخابية لا تحتمل المناوشات الجانبية وتستحق كل صبر وتضحية.. وفي
الأخير هذا عالم دين يمثل قيادة علمائية وليس حزبية سياسية؟!.. إلى أن
راودته فكرة قَطع على نفسه فيها الفراق والخلاص من عقدة الظن والشك!
أصبح الصباح وإذا بلائحة إعلان كبيرة عُلّقت على باب داره وقيل عند
مدخل محطته الانتخابية، كتب عليها: (أنا ابن العلماء). فثارت ثائرة
منافسه وغريمه المرشح الذي لم يطق الصبر على المصيبة هذه فشكا الأمر
إلى المخلّص عالم الدين الشاب والمنقذ (الحرحوش).. ابتسم العالم الشاب
ابتسامة صفراء وفي داخله أوداج هائجة بإطباق، فإذا به يمارس مختلف
الضغوط من أجل إسقاط معاني هذا الإعلان أو إفراغه من مضامينه ومحتواه
خصوصا وان المرشح الغريم يعد أحد المرشحين البارزين لعَقْد "الكتلة
الإيمانية" وعضو رئيس في جمعية رئيسة.
تلقى مرشحنا المعقد تلك الضغوط بحزن وأسى وفي داخله يحدث النفس: أبى
وأجدادي علماء دين بالفعل، وهل أُحرم من التصريح بذلك لكون الإشارة
للعلماء محصورة في شكل ونمط وجهة واحدة لا تقبل التعدد؟!.. وإذا كانت
المسألة أنني ضد العلماء -كما يقولون- فإن رؤوسهم تمثل وكالات لمراجع
يكفر بعضهم بعضا فكيف يجتمعون ولا يضاد أحدهم الآخر أمام الناس وأمام
سلطة ملك الميثاق والدستور التي دارت بهم دوران حمار الطاحونة وهم لا
يفقهون؟!..وإذا تنزلنا وقلنا غير ذلك؛ فكم هي درجة الحساسية المفرطة
بين هؤلاء العلماء أنفسهم في حوزتي قم والنجف وهم بينهم يتصارعون
ويتناوشون إلى درجة التفسيق والتكفير، فهل ذلك محلل بينهم وحرام بيننا
أم أننا لا نعرف شيئا في آليات التشخيص والبيان والحكم ؟!..ولو أعدنا
الذاكرة إلى دوافع مناوشات علماء الدين سيتأكد لنا أن أول من ابتدع
سلبية إسقاط العلماء والنيل من مكانة المراجع هم علماؤنا أنفسهم منذ
مدخل عقد السبعينات حتى ساعة انطلاق الحملات الانتخابية هذه وبدوافع
سياسية بحتة، فهم أول من يذوق ويعاني اليوم تفاقم مأساة ما صنعت
أيديهم.. لقد حوكمْتُ بأشد من أحكام نيابة فرنسا في بلدي ومنطقتي،
ولابد لمعضلة كهذه أن تكون الصحافة الفرنسية لها !
سكت عن مرشحنا المحبط الغضب، إلى أن قفز من فراش نومه وهو يصرخ: لقد
وجدتها..وجدتها..وجدتها!.
ماذا وجد ؟
في مساء اليوم التالي انتُزِعتْ لائحة الإعلان انتزاعا (بحرانيا)
واستبدلت بلائحة (فرنسية) أخرى كتب عليها: (العلماء آبائي) عوضا عن
المقولة السابقة (أنا ابن العلماء)!، فناوشه العلماء الشباب وتكاثروا
عليه مرة اخرى، لكن حجته هذه المرة قوية حلت كل العقد وما تأخر منها
وما تقدم، وتمثل في هذه الحجة الخلاص كله..كيف ؟
توصل مرشحنا المحبط إلى مفتاح لغز لا يتداول إلا بين العلماء
الوكلاء المتناوشين في مرجعياتهم والذين يمثلون الدور الروحي لفئة
العلماء الشباب(الحراحيش).. اللغز يقول بين عامة الناس: فلان عالم ورع
له (دور الأبوة)، الأبوة هذه من مختصاته. فهو الداعي للمشاركة
الانتخابية ولكن أبويته هذه ستظل صمام الأمان إذا ما فشلت دعوته
للمشاركة لأنه أب الجميع والأب لا يقدم اعتذارا لأبنائه إذا ما اخطأ،
وله حسنة..وهل عرفنا أن أحدا من العلماء قدم اعتذاره للشعب بعد كل
هزيمة ؟!
كيف أصبح دور الوكلاء أبويا فجأة ومنذ متى؟.. وكم من خطبة لعالم دين
شاب أو شيخ (حرحوش) أذيعت بين الناس وكان حديثها عن السياسة
والانتخابات في دائرة (أبوية) خاصة قيل في بعضها: (أن فلانا عالما
كبيرا هو أب لهذه المنطقة وهو فوق الجميع وفوق كل الآراء والاجتهادات،
وإن الاختلافات والحوادث الواقعة لن تمس هذه الأبوة في شيء مطلقا شئنا
أم أبينا، وان اختلف صغار العلماء وشبابهم و(حراحيشهم) أو تكاثروا على
حق المواطن الانتخابي وانتزعوا منه إرادته في الاختيار الحر).
كيف أصبحنا فوجدنا هذه (الأبوة الخاصة) حاضنة لنا ؟! لا نعلم..لا
نعرف..لا نفقه..ولأننا محرومون من المعرفة والفقاهة والعلم مثلما حرمنا
من معرفة وعلم وفقه حقائق تقرير البندر ومركز حقوق الإنسان ؛ فنحن
نستحق بذلك الخضوع للوصاية بالقوة والفعل وان كان عن طريق رجال دين
شباب (حراحيش) لا يعرفون (كوعهم من بوعهم) في الدين ولا شريعته، وهم من
صرح مرارا وتكرارا، علنا وسرا، أن :(الكتلة الإيمانية هي ما ندعو الناس
إليه )، ( وان مرشحي جمعية (...) هم الواقع الذي تنطبق عليه هذه الكتلة
)، ثم أعادوا النظر في ذلك فجأة بعد أضيف لهذه الكتلة مرشحين: ليبرالي
وشيوعي للبركة. فصرحوا مرة أخرى: (إننا لم ندع لكتلة معينة خاصة بل
دعونا لكتلة إيمانية)، وأرجعوا الخطأ إلى سبب التشخيص الفج لبعض (
الحراحيش) لا إلى العلماء الوكلاء (الآباء)!.
وهكذا يأتي زعيم (أبوي) فيغلبه زعيم (أبوي) آخر ليحتل مكانه وهما في
تضاد وحرب يدفع ثمنها الناس قبل الأتْباع ونحن لا نعلم ولا نفقه ولا
نعرف، ثم نشك في هويتنا ولأي من الآباء ننتسب. وإذا ما رفعنا عقيرتنا
وتساءلنا جهارا وطالبنا بتوضيح وتبيان حقائق انتقال الزعامة والقيادة
بهذه الصورة الانقلابية، قالوا: (إنكم ضد العلماء آبائكم) اتركوا
لآبائكم ما هو من شانهم، وهم يعل مون أن
العلماء الحقيقيون المتشرعون المتقون هم الرؤوس من أجسادنا دون غيرهم.
فك مرشحنا هذا اللغز فظن أنه ملاقي حسابه عقب الإعلان الجديد:
(العلماء آبائي)، ولكنه نسي انتسابه لأبيه الأصل السيد زوج والدته
وأجداده السادة في العاصمة المنامة !.. ولن يصحو من النسيان هذا إلا
بعد أن تسفر نتائج الانتخابات عن (مجلس برلمان نصفه غير حرامية).!
K_almhroos@hotmail.com |