وعقدان وثلاثة حروب قبل ان تفضي قرية الدجيل الى نهاية صدام

(كونا)  يتذكر العراقيون اليوم وهم يبتسمون لحكمة القدر التي اطالت عمر صدام حسين ليقف في قفص الاتهام للاستماع الى ادانته في قضية الدجيل أولى القضايا التي يحاكم عليها من مجموع اكثر من 12 قضية تتعلق بالتصفية الجسدية والقتل الجماعي وغزو الكويت والحرب على ايران.

وفيما تاهبت بغداد لتشهد مصير حكم الاعدام شنقا الذي لقيه صدام بعد عمر لطخ بالدماء وصار مسلسلا من الموت المستمر تذكرت لحظة اعتقاله قبل عامين في جحر الفئران.

لقد أسقطت الدبابات والرافعات والجرافات والجماهير المختلفة بغضب جميع التماثيل الشخصية لصدام وكان سقوطها كناية نفسية عن سقوط الرمز الأعظم للطغيان.

ولم يكن مصادفة أن تكشف الصحافة بعدما وضعت يدها على وثائق الأجهزة الأمنية والمخابراتية العراقية التي انهارت بعد دخول جيوش التحالف أن عبارة (أقطعوا رؤوسهم) هي الأثيرة لدى صدام في أوامر الاعدام التي يصدرها.

كان صدام مفتونا بأمر واحد أنهى حياته السياسية ولم يذق طعمه وهو النصر وكان على العراقيين أن يقتنعوا بالنصر الذي يتحدث عنه وقد علت محياه تلك الابتسامة التي توهم بثقة المطمئن والتي ظل يكررها حتى باتت مصدر سخرية عندما تجرأ صحفي أمريكي وسأله عن معنى النصر الذي يتحدث عنه في انسحابه المهين من الكويت.

وبالتأكيد يستطيع علماء النفس أن يتوفروا على مادة خصبة للبحث في ما خلفه صدام من وثائق وتصريحات شاء من خلالها أن يقدم عن نفسه صورة المرء الباحث عن بطولة تميزه عن الاخرين من خلال القوة والسلاح منذ طفولته الأولى.

لقد ظلت هذه الطفولة تتكرر في حياة صدام عبر تكديس الأسلحة والاستخدام الأهوج للقوة.

عقدان وثلاثة حروب هي عمر صدام حسين غير أن هذه الحروب الثلاثة أخفت تحتها الكثير من الحروب الأخرى التي تفنن فيها.

ولم تكن حربه الأولى مع ايران في الثمانينات وحربه الثانية لدى غزو الكويت وحربه الثالثة في بغداد سوى النار التي التهمت نيران حروب صغيرة وكبيرة مسلحة وغير مسلحة وهي مبرر وجود صدام في السلطة طيلة عقدين.

ان التاريخ السياسي لصدام ابتدأ بأول محاولة اغتيال في تاريخ العراق حين تصدى لسيارة رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم عام 1959 وولى هاربا غير أن صدام ظل يستعيد الحادثة كلما حانت مناسبة بوصفها تعبيرا عن " جرأة الحسم الثوري ".

هذا النزوع المبكر للقتل هو دافع صدام حسين في العمل السياسي الذي جاء به الى موقع قيادي في السلطة بعد انقلاب عام 1968 حيث بدأ حربا استغرقت طيلة عقد السبعينات من موقعه كنائب لرئيس مجلس قيادة الثورة وذلك بالتصفية الجسدية لأبرز كوادر الرعيل الأول من رفاقه البعثيين في العراق بعدما صفى أولا حلفاءهم الذين جاؤوا بهم الى السلطة.

ولم يكن خافيا أن هذه الحرب التي كان صدام يقودها كانت تهيء له الفرصة للانقضاض على الموقع الأول للسلطة في ظل انتهاج وسائل لا أخلاقية تعتمد القوة والتآمر في التنفيذ.

وكان لهذه الحرب أن تترافق مع حروب أخرى في السبعينات تركزت على ثلاث جبهات هي جبهة الكرد وجبهة الشيوعين وجبهة الشيعة ولم يسلم السنة كذلك منه.

ونجح صدام في السبعينات في اقناع أشد الخصوم من الكرد والشيوعيين بالصورة التي أراد أن يسوقها عن شخصيته السياسية بوصفه الفتى الراديكالي اليساري الذي سيصفي التركة اليمينية التي أثقل بها جناح حزبه مما يوجب على أطراف الحركة الوطنية مساعدته في المهمة وابداء قدر من التساهل.

كان مستعدا لابداء أكبر قدر من التنازلات التي يعبر عنها بالمرونة السياسية التفاوضية للظفر بموقف اني يرتب لمستقبل دموي.

في السبعينات كان صدام يسعى للحصول على القبول السياسي في الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية (المصادر الاساسية لتسلح الجيش العراقي) وهو ما توفر عليه من خلال انتهاج سياسة داخلية زكته ومنحته الشرعية لدى تلك الدول ومن خلال معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي والتحرك على سطح انفجار اقتصادي ومالي عصف بصدام ورماه الى حروبه الثلاث اعتمدت حروب صدام الداخلية في هذه السنوات أساليب الاغتيال السياسي التي طالت بعثيين يشك بخطرهم المحتمل على انفراد صدام حسين بالقرار السياسي كما طالت شيوعيين واكراد وسياسيين مستقلين واعتمدت نفي الالاف من الشيعة الى إيران بدعاوى (التبعية).

هذه الحملة التهجيرية المبكرة تبعتها حملة أخرى من التهجيرات الكبيرة للشيعة العراقيين باتجاه ايران بعد سلبهم أملاكهم وأموالهم وتصفية الكثيرين منهم وذلك بعد دعوة التجار العراقيين الى اجتماع مفاجيء في غرفة تجارة بغداد تم خلاله عزل التجار الشيعة وشحنهم من هناك بعربات خاصة رمت بهم على الحدود الايرانية من غير أن يتاح لهم الالتقاء بعائلاتهم.

في هذه الظروف أخذت جماعات كثيرة من العراقيين والمسيحيين خصوصا تفكر بالرحيل ومغادرة البلد باتجاه مناف كثيرة.

لقد نجح النظام في تعويض التعددية داخل هذه الأجهزة من جهاز الأمن الى المخابرات الى الأمن الخاص الى الاستخبارات الى الشرطة وفوق كل هذه الأجهزة يجثم الجهاز الحزبي الذي بات عين السلطة المفتوحة في كل مكان.

في هذه الظروف بدأت الحرب على قطاع الطلبة والشباب حيث كان يحجز الدراسة في الكثير من الكليات للبعثيين فقط كما حدث في كليات التربية واعداد المعلمين وكليات الفنون ومعاهدها والكليات العسكرية وكلية الشرطة.

كما منع القبول في الدراسات العليا لغير البعثيين وقصر الزمالات الدراسية على عناصر الامن والمخابرات بشكل خاص والبعثيين بشكل عام.

وشن صدام حربه على المثقفين والاعلاميين بتصفية وجود غير البعثيين منهم من المؤسسات الثقافية والاعلامية من بعدها أنجز تأميم الصحف والمجلات والاستيلاء عليها.

وفي هذا الاطار المحموم لسياسة التبعيث القسرية التي طالت حتى صفوف المنتخب الوطني لكرة القدم بعد اقدام السلطة على اعدام عدد من أبرز عناصره من الشيوعيين ولم يسلم منها الفنانون من مطربين وموسيقيين ومسرحيين ايضا.

وكانت المؤشرات جميعها تذهب الى أن رأس السلطة أحمد حسن البكر والحزب ذاته مهددان بالخطر الذي يعبر عنه صدام حسين بلغة الحزب ذاتها وبالأيديولوجية ذاتها والأدوات ذاتها.

فباسم الحزب جرت تصفية حلفاء الحزب وباسمه جرت أبشع انتهاكات لحقوق الانسان في التعليم والاعتقاد والتدين والوظيفة والمواطنة والكرامة.

وانتهى الحكم الذاتي لكردستان الى حرب عشواء امتدت منذ انتصاف السبعينات وحتى 1991 وقد توجت بمأساة الأنفال وحلبجة وانتهت الجبهة الوطنية الى أضخم عملية تصفية سياسية وجسدية لقواعد الحزب الشيوعي العراقي امتدت لتطول اليسار العراقي كله حتى المثقفين الوجوديين والعدميين وغير العابئين بالعمل السياسي.

لم يكن لصدام من شعار سوى أن كل من ليس معي فهو ضدي حيث تفرغ لأخطر الخصوم على الأرض الى الشيعة الذين لم يستدرجوا الى لعبة التفاوض و(الشراكة) مع صدام فكانت سلسلة الابادات الجماعية التي امتدت حتى لحظة سقوطه والتي أودت بحياة الملايين من المنظمين سياسيا ومن غير المنظمين من أبناء الطائفة الشيعية بل شملت كل من يصلي.

كما طبق العزل لمن ظلوا أحياء منهم وذلك في أقذر عملية فصل مذهبي عرفها التاريخ العربي الاسلامي وتاريخ العالم على حد سواء.

في هذه السنوات وفي مستهل الثمانينات شرعت موجة الهجرة العظيمة الثانية من العراق باتجاه المنافي هجرة الشيوعيين والاسلاميين الشيعة والمستقليين المعارضين ومعهم العدميون والكوزمبوليتيون وغيرهم.

 الحرب مع إيران التي امتدت الى ثمان سنوات التهمت معها حقوق الانسان العراقي واقتصاده وحياته.

ونبرة التهديد التي تتخفى في ثنايا الكلمات جرت عسكرة كل شيء من رياض الأطفال الى المعامل وحتى سيارات الأجرة الخاصة والمستشفيات الأهلية وبساتين النخيل.

كما جرت عسكرة المناهج الدراسية والأعمال النحتية والرسم والسينما والرواية والشعر والمهرجانات والصحافة وحتى خطب الجمعة في المساجد والجوامع التي باتت تدار حكوميا.

وحتى نشاهد كل ما شاهدناه كان على كل بيت عراقي أن يضع يده على قلبه حين يسمع طرقات على الباب في اخرة الليل فليس في الأمر سوى أحد احتمالين اما مسؤول حزبي باحث عن (متطوع) يجرجر لاكمال نصاب فوج من الجيش الشعبي يساق الى الجبهات أو سيارة تحمل تابوت فتى من العائلة شهيد.

كما ان عشرات الآلاف من طلبة المراحل الثانوية والجامعية اجبروا أن يقضوا العطلة الصيفية في معسكرات للتدريب.

كان من المألوف منظر ملايين الأطفال وقد انتظموا في معسكرات لتعدهم أبطالا ببزات عسكرية من أجل هذه الحرب وحروب أخرى تأتي.

الان يكتشف العراقيون أنهم لا يقفون على بحر من البترول وحسب فثمة أيضا بحر اخر من المقابر الجماعية التي أفضى اليها ارهاب صدام طيلة عمره السياسي.

لم ترتفع في العراق يافطات تحيي سقوط صدام لقد أكتفى العراقيون من هذا الكابوس باستمرارهم تعليق الاف اليافطات السود تنعى شهدائهم.

ربما هو قدر العراقيين أن يحزنوا حتى في أشد لحظات فرحهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- 54 الاحد/تشرين الثاني  /2006 -13 /شوال /1427