توماس فريدمان: ان الخطر الذي ينافس أوروبا على المدى المتوسط هو الصعود السريع للصين والهند

 

توماس فريدمان هو الكاتب الأمريكي وصاحب الافتتاحيات الشهيرة على صفحات نيويورك تايمز، وقد صدر كتابه الأخير في الولايات المتحدة وأغلب بلدان أوروبا بعنوان: ( الأرض بساط )، ولو قدر لي أن أكون أنا مترجمه ذات يوم للغة العربية لأطلقت على الكتاب عنوانا قرآنيا هو ( وجعلنا الأرض بساطا). ولقي الكتاب اقبالا واسعا من الجمهور بالنظر للأفكار الثورية التي يحتويها، تماما مثل كتبه السابقة وأهمها: سيارة اللكزس وغصن الزيتون، وهو الفائز ثلاث مرات بجائزة بوليتزر الثقافية، رغم أن الرجل له لدى شريحة من العرب صورة المنحاز للطروحات الاسرائيلية، وهو في الواقع ينتمي للطائفة اليهودية لكنه يقرأ أحداث العالم بعيون ذكية لا نخسر اذا ما استفدنا منها دون خلفيات بل بالعكس نحن نربح من عرضها ومناقشتها. والافتتاحية اخترناها من اراء هذا الرجل حول الاتحاد الأوروبي المتخلف عن معركة المصير كما يسميها فريدمان الا وهي معركة العولمة الجديدة أي تلك التي جعلت الأرض بساطا بدون حدود .

مرت الحضارة الانسانية بثلاث مراحل أساسية وهي:

1- مرحلة الدول التي شهدت الغزوات والاحتلال والتبادل التجاري والهيمنة التي بدأت من عام 1492 باكتشاف القارة الأمريكية وتواصلت بالحروب والمبادلات واقرار الاستعمار إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير الشعوب من الاستعمار.

2- مرحلة الشركات العابرة للقارات التي عوضت الدول في امتلاك أسباب القوة وصنع القرار، وهي المرحلة التي انطلقت من انتصار الغرب الراسمالي في الحرب الكونية الثانية وامتدت إلى نهاية القرن العشرين.

3- مرحلة اليوم وهي مرحلة سيادة الانسان الشخص وقدرته على أن يكون فاعلا في مسيرة التاريخ الحديث بشرط أن يكون لديه جهاز كمبيوتر وهاتف جوال ومعلومات عن التكنولوجيا وقدرة على التعاطي مع الآخرين.

هذه المراحل الكبرى من حياة البشرية هي التي جعلت في عام 2006 بلادا كالهند تؤسس أكبر شبكة اتصال دولية من خلال الانترنت وتخرج أضخم عدد من المهندسين يفوق ما تخرجه الجامعات الغربية جميعا، وهي التي حققت العلاقات عن بعد ما بين المنتج والمستهلك والوسيط دون أن يحتاج مصنع في أمستردام مثلا أن ينتقل إلى شانغهاي لترويج بضاعته لأن الوسيط الألكتروني في بومباي يقوم بالمهمة على أفضل الوجوه! وهذا ما تقوم به بعض الشركات الأوروبية العملاقة لكنها تظل نادرة وقليلة. من ذلك التجربة الناجحة التي تقوم بها شركة ( زارا ) للملابس الجاهزة وهي معروفة في بلدان الخليج كما في بلدان العالم، وهذه الشركة الأسبانية لها في العالم أكثر من 1000 وكالة اقليمية للبيع، لكنها متصلة كلها بمركز الكتروني واحد يقع في مدريد ويتلقى بشكل آني سريع جميع الميول والرغبات والطلبيات التي تنقلها الوكالات للمركز فتلبي الشركة في زمن قياسي هذه الرغبات وتظل شركة ( زارا ) رائدة في مجالها. ولكن النجاح الذي شهدته هذه الشركة الأوروبية لا يؤثر على الواقع المرير المتمثل في تأخر القارة الأوروبية عن ثورة العولمة الثانية، بعد توفيقها النسبي في اغتنام ثورة العولمة الأولى، حين اقتحمت مجال الفضاء ببرنامجها لاطلاق مركبات ( أريان ) عام 1979 تحت قيادة فرنسا ،ثم حين نجحت في منافسة العملاق الأمريكي بوينغ في مجال تصنيع وترويج الطائرات المدنية من نوع ( ايرباص ). لكن الاتحاد الأوروبي يبدو لي اليوم مترددا وخائفا أمام تحديات العولمة الجديدة أي العولمة التي تعطي للفرد قوة التأثير والابتكار.

نقلت صحيفة لوباريزيان الباريسية تعليق الكاتب توماس فريدمان عن قدرة أوروبا على رفع التحديات، يقول:

لا أعتقد بأن أوروبا باستطاعتها تحقيق قفزة نوعية في مجال امتلاك ناصية العولمة، لأنني حين أزور هضبة السيليكون في ولاية كاليفورنيا، ألتقي بمئات الكوادر والمهندسين المهاجرين من بلدان الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة للعمل هنا، وحين أسألهم عن أسباب هجرتهم يقولون لي: نحن هاجرنا لأن دولنا لم تستوعب بعد أبعاد التحولات العميقة التي غيرت الاقتصاد والمجتمعات لأن الشعوب الأوروبية تعودت على المحافظة على مكتسباتها الاجتماعية حتى لو كان ذلك على حساب قدرتها التنافسية. ويرى توماس فريدمان أن بلادا كالهند يمكن أن تتفوق على الاتحاد الأوروبي في غضون سنوات قليلة. فالصين اليوم هي أكبر منتج للملابس والهند أكبر منتج لبرامجيات ميكروسوفت، وأمريكا أول منتج زراعي للمواد الغذائية ولا تزال أوروبا تتساءل إلى اليوم هل تفتح أبواب الاتحاد لتركيا أم لا؟ أي ان المعوقات المؤسساتية والدستورية ما تزال هي المتحكمة في تحديد المصير الأوروبي.

أوروبا تخشى من ماذا؟

البلدان الأربعة التي تعتبر نفسها عن جدارة قلب الاتحاد الأوروبي وقوته الاقتصادية وعموده الفقري هي فرنسا والمملكة البريطانية وايطاليا وألمانيا، بالنظر إلى سبقها في البناء الأوروبي وكذلك إلى دخلها الفردي الخام السنوي، ويصنف الخبراء هذه الدول الأربع، إلى جانب الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات الروسية والصين من بين أكبر العمالقة الاقتصاديين. وحين نسأل عن تحديات العولمة القادمة ومن ماذا تخاف هذه الدول يأتي الجواب من خبير أمريكي هوالسيد جيم أونيل مسؤول الدراسات المستقبلية في بنك غولدمان ساش الذي يقول:

"ان الخطر الذي ينافس أوروبا على المدى المتوسط هو الصعود السريع والمدوخ للقوى الاقتصادية الجديدة وهي الصين والهند وروسيا والبرازيل، لكن العنصر الذي يخيف أوروبا هو التكامل الممكن بين هذه القوى الأربعة لأن روسيا والبرازيل غنيتان بالمواد الأولية والطاقة ويمكن أن تزودا بها كلا من الهند والصين أي ان الانغلاق الذي يتوقع أن تمارسه هذه البلدان الأربعة غير ممكن لأوروبا. ثم اننا نتوقع أن يرتفع الدخل الفردي السنوي الخام لهذه القوى الاقتصادية الصاعدة إلى درجة تجاوز معدل الدخل الأوروبي بعد عقد ونصف العقد. أي ان المعادلة سوف تنقلب لتكون العولمة لمصلحة هذه القوى الصاعدة على حساب أوروبا.

واليوم عام 2006 تحظى البلدان الأوروبية بمستوى دخل فردي مرتفع: الحساب بالدولار: مثل فرنسا(24.257) وبريطانيا (27.920) وايطاليا (21.277) وألمانيا (24.402) أمام دخول هزيلة هي اليوم كالتالي: روسيا (3.718) والصين (1.324) والهند (559) والبرازيل (2.512) ولكن الخبير الأمريكي يؤكد أن هذه الدخول للبلدان الأربعة سوف تطير إلى العلالي بعد عقدين لتصبح كالتالي:

روسيا: (49.646) والبرازيل: (26.592) والهند: (17.366) والصين: (31.357) أي ان القفزة ستكون مذهلة بل سيحول هذا التغيير قلب العولمة الاقتصادية والتكنولوجية إلى محور جديد غير الغرب الطاغي اليوم!

و يذهب الخبير جيم أونايل إلى أبعد من هذه التوقعات ليعلن أن أوروبا ستصبح عام 2050 في ذيل البلدان من حيث الدخل الخام ( ما يطلق عليه الخبرا ء الناتج الداخلي الصافي) ليكون كالتالي بمليارات الدولارات حسب الترتيب والأهمية:

الصين: 44.453 -الولايات المتحدة: 35.165 -اليابان: 6.673 -البرازيل: 6.074 -روسيا: 5.870 -بريطانيا: 3.782 -ألمانيا: 3.603 -فرنسا: 3.148 -ايطاليا: 2.065

أي بالعربي الفصيح فان أوروبا ستكون في ذيل القائمة أمام العمالقة الجدد ولن تصمد بدرجات متفاوتة سوى أمريكا واليابان!

أوروبا بين مطرقة شرقها وسنديان جنوبها

في القمة التي عقدها الاتحاد الأوروبي خلال شهر أكتوبر الحالي في بروكسل استضاف فيها الرئيس الروسي بوتين كان الهاجس الأول للدول الأوروبية هو التزود بالغاز الروسي، وكان بعض القادة الأمريكان يهمسون للقادة الأوروبيين بضرورة التنديد أمام بوتين بمصرع الصحفية الروسية المدافعة عن شعب الشيشان، وطرح قضية حقوق الانسان ودورها في تحديد العلاقات بين أوروبا وروسيا، ولكن هذا المطلب ظل مطلبا شاعريا ورومنطيقيا أمام تحدي الحاجة الحيوية للغاز الروسي، ثم ان الدول الأوروبية الغنية تعاني من معضلة بلدان أوروبا الشرقية التي حتى بعد انفراط عقد المعسكر الشيوعي وسقوط جدار برلين ما تزال مهددة بالحركات الماركسية التي لها إلى اليوم جذور في موسكو. وستظل دول أوروبا الغربية الغنية تحت رحمة المزاج الروسي، كما كانت بالأمس القريب لكن بوسائل مختلفة. وتشهد هذه الأيام فرسوفيا عاصمة المجر أحداثا سياسية خطيرة وهي تحيي الذكرى الخمسين لسحق الثورة المجرية في أكتوبر 1956 تشير إلى أن نار الصراعات الايديولوجية لم تنطفئ بل هي حية تحت الرماد. ومهما يكن من أمر فان شعوب أوروبا الشرقية تطمح إلى الالتحاق بالاتحاد الأوروبي أفواجا لتتمتع بخيرات الشريك الأوروبي الغني والرأسمالي بينما تشكل اقتصاداتها المتخلفة أعباء اضافية لأوروبا.

أما سنديان الجنوب فيتمثل في ملف المهاجرين غير الشرعيين من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وهم يتوافدون سنويا بمئات الالف من منافذ سهلة كالحدود الأسبانية القريبة من افريقيا أو الحدود الايطالية اللصيقة بالحدود البحرية التونسية والليبية. وعجزت أوروبا إلى اليوم من تنسيق سياساتها الهجرية حين تكون أسبانيا أكثر ميلا للتسامح وترسيم المهاجرين اليها بينما تتشدد فرنسا وتسعى إلى مراجعة اتفاقية شنغن التي ألغت الحدود منذ عقد من الزمن.

شبكة النبأ المعلوماتية--الاربعاء 1/تشرين الثاني  /2006 -9/شوال /1427