يأس الشباب في الجزائر يدفعهم
للموت غرقا في عرض البحار
تعتبر الهجرة غير الشرعية (أو السرية) ظاهرة عالمية موجودة في كثير
من دول العالم خاصة المتقدم، لكن الهجرة إلى أوروبا أصبحت إحدى القضايا
المزعجة، التي تحظى باهتمام كبير في السنوات الأخيرة، فبالرغم من تعدد
الأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة، إلا أن الدوافع الاقتصادية تأتي في
مقدمة هذه الأسباب. ويتضح ذلك من التباين الكبير في المستوى الاقتصادي
بين البلدان المصدرة للمهاجرين، والتي تشهد - غالبًا - افتقارًا إلى
عمليات التنمية، وقلة فرص العمل، وانخفاض الأجور ومستويات المعيشة، وما
يقابله من ارتفاع مستوى المعيشة، والحاجة إلى الأيدي العاملة في الدول
المستقبلة للمهاجرين.
ويلخص ذلك مقولة رئيس وزراء أسبانيا الأسبق الشهيرة: "لو كنت
مواطنًا من دول الجنوب، لغامرت أكثر من مرة حتى الوصول إلى أوروبا".
حجم الظاهرة في بعض دول شمال إفريقيا
يصعب تحديد حجم الهجرة غير الشرعية نظرًا للطبيعة غير الرسمية لهذه
الظاهرة، وغالبًا ما تتفاوت التقديرات التي تقدمها الجهات المختلفة
لأعداد المهاجرين، وتقدر منظمة العمل الدولية حجم الهجرة السرية ما بين
10 - 15% من عدد المهاجرين في العالم والبالغ عددهم - حسب التقديرات
الأخيرة للأمم المتحدة - حوالي 180 مليون شخص، وحسب منظمة الهجرة
الدولية فإن حجم الهجرة غير القانونية في دول الاتحاد الأوروبي يصل إلى
نحو 1.5 مليون فرد.
أما عن الهجرة الشرعية، فقد ذكرت جامعة الدول العربية - في تقرير
لها حول الهجرة المغاربية إلى أوروبا خلال الأربع أشهر الأولى من عام
2005 شهدت الجالية التونسية بالخارج زيادة بلغت 6.2%، مقارنة بعام
2002، ليصل عددهم إلى 701.660 ألف مهاجر.. 58% منهم في فرنسا وحدها،
وأعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية والتضامن التونسية، أن عدد العاطلين من
الجالية التونسية بأوروبا يبلغ حوالي 123 ألف فرد، بنسبة 28% في فرنسا،
45% في بلجيكا وتشير إحصائيات غير رسمية إلى أن الجالية المغربية في
إيطاليا تبلغ 300 ألف شخص، كما تحصل 35.700 ألف مهاجر مغربي على بطاقة
الإقامة في أسبانيا، منذ آخر تسوية لوضعية أكثر من 870 ألف مهاجر غير
شرعي متواجدين في الأراضي الإسبانية، من بينهم ما لا يقل عن 6000
جزائري.. هذا ويقدر عدد الجزائريين المقيمين بصفة شرعية بإسبانيا
بحوالب 17 ألف شخص وفقا للإحصائيات الرسمية. فيما تضم فرنسا وحدها نحو
90 % من المهاجرين الجزائريين، بينهم نحو 20 ألف شخص لا يملكون الوثائق
الرسمية، . هذا ويقر المراقبين أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير من
الإحصائيات الرسمية.
أوروبا وأمريكا أحلام كبيرة للشباب الجزائري
تبقى دول أوروبا وشمال أميركا حلم آلاف الشبان الجزائريين على
اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية... وإذا كان أبناء الأغنياء
وكبار المسئولين في الدولة يتمكنون من دون عناء أو تعب من تحقيق
أحلامهم بالاستقرار في كبريات العواصم الأوروبية، فإن أبناء الفقراء
والطبقات الدنيا تواجههم جبال من القوانين والعراقيل البيروقراطية التي
تقيد تحركاتهم نحو الخارج وتمنعهم من ملامسة أرض "الجنة الموعودة"،
الأمر الذي جعل غالبيتهم يتحولون إلى "حراقة" يغامرون بحياتهم في رحلات
الموت تلك! فطوال عقد من الزمن تواصلت رحلات "الحراقة" من دون انقطاع.
المرحلة الأولى من مغامرة "الحراقة" تبدأ من الأحياء الشعبية إلى المدن
الساحلية الكبرى، مثل أحياء "السكوار" و"حسين داي" و"باب الوادي" في
العاصمة، أو حي "قمبيطة" في وهران، أوحي ما قبل الميناء بعنابة وبالضبط
بجبل الخروبة أين تمضي مجموعات الحراقة وقتا طويلا في مراقبة السفن
الوافدة والخارجة لمحيط الميناء حيث يتفاوض شبان "الحراقة" مع أعوان
شبكات التهريب على قيمة السفر، كما يتفقون على أدق تفاصيله، وتسمى
رحلات "الحراقة" على متن الباخرة بـ"الكالة"... والمثير في هذه الرحلات
أن محطتها النهائية تكون دائماً في عرض البحر... ففي أحسن الحالات يقوم
الشاب المسافر قبل وصول الباخرة إلى الميناء بإلقاء نفسه في المياه
ليواصل رحلته سباحة إلى بر الأمان. وفي أسوأ الحالات لا يكون لديه
الاختيار بحيث أن مصيره يكون الغرق، لتنضم جثته إلى جثث آلاف الشبان
الحالمين التي تنام في قاع البحر الأبيض المتوسط.
يقول رفيق ع. (تاجر) إن كل الشبان الجزائريين يحلمون بالهجرة نحو
الشمال بحثاً عن حياة أفضل، وأكد أنه يسعى بكل الطرق إلى الاستقرار
نهائياً في بريطانيا، لأنها تضمن الأمن لمواطنيها، فضلاً عن أنها تحرص
على توفير كل الظروف الملائمة لعمالها، وتضمن لهم جميع حقوقهم مهما
كانت جنسياتهم، على عكس الدول المتخلفة التي تتعامل مع عمالها من دون
أدنى احترام. وأضاف: "في الحقيقة أنا أتأسف لرؤية شبان في مقتبل العمر
يغامرون بحياتهم من أجل العيش في أوروبا، والمؤسف أكثر هو أن غالبية
هؤلاء "الحراقة" تنتهي حياتهم قبل أن تنتهي الرحلة، وأنا أعرف الكثير
من أصدقائي - رحمهم الله - لا تزال جثثهم حتى اليوم في عرض البحر".
وبحسرة شديدة يروي أحد الشبان العاطلين من العمل رفض الكشف عن اسمه
قصة مؤلمة من بين آلاف القصص التي كان "الحراقة" أبطالها، فيقول: "في
نهاية العام الماضي، قرر أحد أصدقائي الهجرة إلى فرنسا بعد أن تمكن من
جمع 1500 يورو وهي القيمة الضرورية في مقابل السفر السري. اتصل بشخص
متخصص في تهريب الشبان نحو ميناء مرسيليا الفرنسي، فاتفق الجانبان على
أدق خطوات تلك الخدمة غير الشرعية. وفي يوم السفر احترم الشاب جميع
النصائح التي قدمها له ذلك الشخص، فتمكن من التسلل داخل الباخرة
بمساعدة أحد أفراد طاقمها... وعلى رغم أن شرطة الحدود لم تكتشف أمره
غير أن الظروف الصعبة التي عاشها داخل مخبأ لا يتعدى عرضه نصف المتر
جعلته يلفظ أنفاسه، حتى قبل أن تحط أقدامه في بلاد أحلامه".
وفي ذات السياق عبر بعض الشباب عن عزمهم الهجرة سرا وهم في أوج
تحضيرهم برصد السفن الداخلة لميناء عنابة، إذ يقول أحدهم : "نحن الشباب
ضائعون، الآن تجد شاب في عمره 30، أو 29، أو 26 سنة، لا مستقبل له
بمعنى لا يستطيع التقدم، الشاب يعاني المشاكل العائلية، الاجتماعية، في
محيطه، مما يجعله ينحرف فيدخن، ويشرب الخمر والأقراص المهلوسة، كل هذا
ناجم عن الضغط، وأعلم أن الضغط يولد الانفجار، وكل هذا يجعل الشاب يفكر
كثيرا وتضيق به النفس، لا يوجد عمل، كان الأجدر أن يكون شاب في 30 سنة
متزوج وله أولاد وعمل وبالتالي حياة مستقرة، لكن الواقع عكس ذلك، زد في
معلوماتك أغلب الشباب يعيشون حياة قاب قوسين أو أدنى – ربي الحافظ – يا
أخي أنظر هذه باخرة إن شاء الله يسهل ربي، سأتوجه إلى أوروبا للعمل،
وتبقى بلادي هي بلادي، المهم أضمن المستقبل (أنت الآن عند فكرة حرقة
لأوروبا ؟) نعم هذا هو الهدف الذي أصبو إليه، ولو أبقى هنا في الجزائر
مدة 50 سنة لا أستطيع أن أملك سيارة – بيجو 206 – لا يمكنني الزواج
ويصبح لي أولاد (في حالة لا تنجح لك هذه العملية – الحرقة – وبقيت في
الجزائر ماذا ستفعل ؟) سوف أعيش الواقع كما ترني الآن، ليكون في علمك
أنا غادرت البلاد في جويلية 2003 وبقيت شهر وستة أيام أو أكثر في عرض
البحر بدون أوراق، ذهبت بنا الباخرة إلى اليونان وتركيا، ثم مصر (كم
دفعتم للرجل الذي ساعدكم ؟) لا لم يساعدنا أحد، نحن نجرب قد تصح وقد
تخطئ، مثلا هناك باخرة نتفق في مجموعة تتكون من 3 أو 4 أفراد، نحمل
اللازم ونتكل على الله، وزد هذا صديقي، سافر مرتين – يبدأ الحوار
بينهما – متى ذهب، في 2003، ثم لحقت بكم، أتذكر ذهبت أنت ورضا ووليد،
بقي مدة 8 أشهر جمع فيها بعض النقود، ثم خطب شابة، أنظر لو بقي هنا لا
يمكن أن يجمع 20 مليون في عام ولكن في الغربة يمكنك أن تفعلها، المهم
أن تعمل فاليوم الواحد بـ 50 أورو ما يقارب 6 آلاف دينار، وصديقي هذا
ذهب وعاد مرتين وهو الآن يحاول العودة مرة أخرى".
ويقول صديقه : "عانيت كثيرا (من ماذا تعاني ؟) أعاني من البطالة
وبتالي لا يوجد شيء في هذه البلاد، لقد ضاقت بنا، أحمد الله أن العبد
لم يتبع طريق الخمر والمخدرات، وأمام الظروف اهتدينا للهجرة (أنت تعلم
أن هناك مخاطر ؟) نعم أعلم (ما هي المخاطر التي قد تواجهك ؟) متعددة،
قد تلقى في عرض البحر، لا يمكنني أن أتوقع ما قد يفعل بنا، الحقيقة أن
الباخرة التي ركبت فيها لم أعلم بمسارها (في أي جهة ركبت الباخرة ؟) في
جهة المحطة على 3 صباحا، الشرطة لم تكن في عين المكان ورجال البحرية
نائمون، وصعدت الباخرة ولم أعلم حتى أين تتجه (أين اختبأت ؟) اختبأت في
مكان ضيق وكان لدي القليل من الزاد، بعض 3 أيام أصبحت في حاجة للزاد
وبقيت كذلك حتى اليوم التاسع، وكان هناك روس وفليبيين، واكتشفت أن
الباخرة يونانية، وحسب علمي أنهم حاقدين يرمون الحراقة في البحر -
والحمد لله سترنا الله – ووصلت على خير وعافية واستمر بي المقام في
أوروبا مدة 7 أشهر (كيف عدت للوطن ؟) عدت عادي طلبت ورقة المرور وصرحت
بضياع أوراقي وقلت بأنني لا بد أن أرجع لبلادي لأن الظروف كانت صعبة،
وسمحوا لي بالعودة عبر الباخرة وفي جعبتي بعض النقود فخطبت شابة واليوم
هذه هي الحالة، والآن نحن نخطط للعودة".
وعن تصرف البحارة اليونانيين قادنا التحقيق إلى ميناء أرزيو الذي
شهد في سنة 2000 نهاية مأساوية لأحد الشبان الذي نجح في التسلل إلى
باخرة يونانية كانت راسية بميناء أرزيو ومتوجهة نحو أوروبا قبل أن
ينكشف أمره سويعات قليلة بعد إقلاع هذه الباخرة من طرف أحد البحارة
اليونانيين الذي قام برميه في عرض البحر بعد أن كبله بسلاسل حديدية
ثقيلة فعاد هذا الشاب جثة هامدة نحو شاطئ مرسى الحجاج. وهي نفسها
القضية التي أثارت ضجة كبيرة بعد أن أظهرت خبرة الطب الشرعي التي أجريت
على هذا الشاب الضحية أن أطرافه تعرضت فعلا إلى التكبيل، مع العلم أن
محكمة أرزيو كانت قد فتحت وقتها تحقيقا قضائيا في الحادثة المذكورة
بناء على الشهادات التي قدمها بعض رفقاء الضحية ونجوا من حتمية الموت
بأعجوبة قبل أن تصدر حكما بشأن الشركة البحرية اليونانية صاحبة الباخرة
التي ارتكب ربانها هذه الجريمة.
وبعيداً من القصص المؤلمة... لم يخف - ياسين بن مبروك - المهندس في
الإعلام الآلي رغبته الكبيرة في الهجرة إلى "عاصمة الجن والملائكة"
باريس، وقال بتفاؤل كبير: "لقد قمت بجميع الإجراءات لأسافر منذ بداية
عام 2006، لكنني حالياً أنتظر الرد الذي ستقدمه لي السفارة الفرنسية.
وعلى رغم أن طلبات الهجرة إلى هذا البلد كثيرة وتعد بالملايين، لكنني
متأكد من أنني سأتلقى الرد الإيجابي، بخاصة أنني احمل ديبلوماً جامعياً
وأملك رصيداً لا بأس به في حسابي المصرفي بالعملة الصعبة"... وعلى رغم
أن ياسين اعترف بأن الجزائر قدمت له ولجميع أبناء جيله الكثير من
الخدمات، مثل ضمان الدراسة المجانية في مختلف مراحل التعليم، غير أنه
يقول بحسرة: "لا أفهم لماذا تضمن الدولة الدراسة المجانية وتتحمل جميع
أعباء التعليم طوال سنوات عدة، لكنها في المقابل لا تهتم بحاملي
الشهادات العليا بعد تخرجهم بحيث أنها لا تضمن لهم مناصب تليق بالمستوى
الدراسي الذي وصلوا إليه".
ويتفق معظم المتخصصين في علم الاجتماع على أن الأسباب التي تقف وراء
ارتفاع عدد الجزائريين المهاجرين أو الراغبين في الهجرة إلى الشمال
تتمثل في تدني مستوى العيش وارتفاع تكاليف الحياة، ونقص فرص العمل.
ويرى سليمان رحال أستاذ علم الاجتماع بجامعة عنابة، "أن من الطبيعي
جداً أن يحلم أي شاب جزائري بالاستقرار في إحدى دول الشمال، لا سيما
بعد الانفتاح الإعلامي الذي شهدته البلاد بفضل انتشار الهوائيات، ما
سمح للشباب باكتشاف حياة أخرى في الضفة الشمالية للبحر المتوسط، وأوضح
أن تدني مستوى عيش الفرد، وارتفاع مستوى البطالة والفقر في المجتمع
الجزائري، دفعا الشباب إلى الوقوع في فخ اليأس، وأوجدا الرغبة في
التغيير نحو الأفضل مهما كانت الطرق".
تنامي مدهش للمهاجرين "الحراقة"
تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن الجهات القضائية بالجزائر عالجت في
بحر السنة الجارية حوالي 40 قضية من هذا القبيل تورط فيها 68 شخصا في
محاولة الهجرة السرية عبر ميناء أرزيو ووضعت من خلالها 62 شابا رهن
الحبس المؤقت، فيما استفاد شابان آخران من الإفراج المؤقت. وتعطي هذه
الأرقام صورة واضحة عن تصاعد مثل هذه العمليات مقارنة بالأعوام
الماضية، فقد كشفت مصادر أمنية أن عدد الحراقة في سواحل عين تموشنت بلغ
184 شخص، ما بين سنتي 2005 و2006، من خلال ثلاثين عملية إبحار.
وذكرت ذات المصادر أن 67 شخصا من هؤلاء نجحوا في الوصول إلى السواحل
الإسبانية، في حين فشلت المحاولات الأخرى. وبالموازاة كشف رئيس جمعية
مفقودي البحر "حراقة" السيد بلحاج بورعدة بوهران أن هذه الأخيرة أحصت
حوالي 700 حالة فقدان من جراء الهجرة السرية في ولايات الغرب الجزائري
منذ بداية سنة 2006، وذلك بناءا على شهادات التي تم تسجيلها من طرف
عائلات المفقودين في عدد من ولايات الغرب، والذي توجهوا في معظمهم نحو
إسبانيا والمغرب. واستنادا إلى مصادر رسمية كشف المتحدث أن عدد
المهاجرين السريين الجزائريين الموجودين في السجون المغربية بلغ لحد
الآن 1200 شخص، ورجح ارتفاع عددهم كون المغرب يعتبر الممر الرئيس
"للحراقة" الجزائريين.
وأمام تنامي الظاهرة يبدي عديد المتتبعين لملف الهجرة السرية تخوفا
كبيرا من تغلغل ثقافة "الحرقة" وسط شرائح واسعة من الشباب رغم المخاطر
الكبيرة التي عادة ما تصاحب مثل هذه المغامرات، في وقت لم تعد فيه
الظاهرة تخص فئة الشباب فقط بل اخترقت عقول الأطفال القصر الذين يسعى
بعضهم لتقفي آثار الفائزين بصفقة العيش في الأراضي الأوربية، وهي
الحقيقة التي باتت تكشفها بعض التجارب السابقة لا سيما بعدما تحدثت
الإحصائيات عن ضبط مصالح الأمن 7 قصر وهم يهمون بالهجرة غير الشرعية
عبر ميناء أرزيو في سنة 2004. كما تمكنت ذات المصالح من وضع حد
لمغامرات ثلاثة قصر سنة 2005 لا يتعدى عمرهم 15 سنة. ومقابل هذه
الأرقام فإن مصادر أخرى تتحدث عن أن الكم الهائل من محاولات الهجرة
السرية التي تتكلل بالنجاح قد تصل إلى ثلاثة أضعاف من العمليات التي
تفشلها مصالح الأمن بموانئ الجزائر، في وقت كثر فيه الحديث بشكل مستفيض
عن احتمال وجود شبكات يبقى أفرادها مجهولين إلى حد الساعة تقوم
بالتغطية على العديد من الشباب وهم يحاولون مقارعة غضب أمواج البحر
الأبيض المتوسط. ويؤكد أصحاب هذه الرؤية عن صحة أقوالهم بكثافة
الإجراءات الأمنية التي تلجأ إليها مصالح شرطة الحدود في اصطياد
المغامرين بأرواحهم.
البطالة وانعدام الدخل السبب الرئيس
في مطلع أكتوبر 2005، عقد وزراء داخلية دول "5+5" (ليبيا وتونس
والجزائر والمغرب وموريتانيا من الجانب المغاربي وفرنسا وأسبانيا
والبرتغال وإيطاليا ومالطا من الجانب الأوروبي)، مؤتمرًا في المغرب
لمناقشة تزايد الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا، ووضع خطة مشتركة
لمواجهة الظاهرة. وفي هذا الإطار أعلنت دول المغرب العربي، عن حاجتها
إلى مزيد من المساعدات الاقتصادية من الاتحاد الأوروبي؛ لوقف الهجرة
غير المشروعة إلى أوروبا. وقال وزير الداخلية المغربي "المصطفى
الساهل": إن الدول الإفريقية الواقعة جنوبي الصحراء - هي الأخرى -
تحتاج أيضًا لمساعدات تنموية لتوفير فرص العمل، حتى يفضل مواطنوها
البقاء في بلادهم عن محاولات الهجرة إلى أوروبا.
وتقول الإحصائيات إنه يوجد في الدول العربية أعلى معدلات البطالة في
العالم، كما إن 60% تقريبًا من سكانها هم دون سن الخامسة والعشرين.
وحسب تقرير لمجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية، صدر
عام 2004، قدّرت نسبة البطالة في الدول العربية بما بين 15 و20%،
وتتزايد سنويًّا بمعدل 3%، وتنبأ التقرير بأن يصل عدد العاطلين في
البلاد العربية عام 2010 إلى 25 مليون عاطل.
ووصفت منظمة العمل العربية، في تقرير نشر في شهر مارس 2005، الوضع
الحالي للبطالة في الدول العربية بـ"الأسوأ بين جميع مناطق العالم دون
منازع"؛ ففي ليبيا تفيد التقديرات الرسمية بأن 17.5% من الليبيين
عاطلون عن العمل، كما تأتي البطالة في صدارة المشكلات الاقتصادية
والاجتماعية التي تعاني منها الجزائر، والتي تتفاقم عامًا بعد عام،
وبلغ معدل البطالة في الجزائر نسبة 29.9%، ويقول مراقبون: إن أزمة
البطالة مرشحة للتصاعد بحدة في الجزائر في السنوات القادمة، بعد
المشكلات الناجمة عن تراجع النمو الاقتصادي بحيث لم يتجاوز حدود 03%
خارج المحروقات في هذه الأثناء، قلة الاستثمار الداخلي والخارجية،
تراجع مناصب الشغل منذ سنة 1986، حيث تم إنشاء 40 ألف منصب خلال 1994،
1998 مقابل 140 ألف خلال 1980-1984 ومليون وما بين ألف خلال 1999-2004،
تزايد اليد العاملة سنويا بمعدل 250 إلى 300، فقدان أكثر من 360 ألف
منصب خلال الإصلاحات 1994 1998, ( فترة التعديل الهيكلي)، تقلص الوظائف
الدائمة التي كانت تمثل 49 بالمائة عام 2000 مقابل 38 بالمائة فقط سنة
2005، حيث انخفض عدد العمال الدائمين بنسبة 11 بالمائة، وزيادة على
ظاهرة التسربات المدرسية التي تقدر بـ 600 ألف تلميذ سنويا . وتقدر
نسبة البطالة في المغرب بنحو 14.2% وتقدر بنسبة 13.9% في تونس. ويجمع
الخبراء أن دول المغرب العربي الثلاث تحتاج إلى خلق حوالي مليون فرصة
عمل سنويًّا من أجل الحد من ظاهرة الهجرة.
تردّي مستوى المعيشة محرك للهروب من شبح
الحاجة نحو مغامرة الموت
من إحدى نتائج ظاهرة البطالة تردّي مستوى المعيشة، الذي تعتبر -
أيضًا - من العوامل المشجعة على الهجرة. وعلى سبيل المثال ويفيد آخر
تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية أن الجزائر توجد في رتبة متدنية
في مؤشر الفقر، حيث هناك أكثر من 2 بالمائة يعيشون بأقل من دولار أو
أقل من 80 دينارا يوميا، بينما هناك أكثر من 1,15 بالمائة من
الجزائريين يعيشون بأقل من دولارين يوميا.
في المقابل يشير التقرير إلى أن 6 بالمائة من عدد السكان يعانون من
سوء التغذية، فيما تشير إحصائيات أخرى إلى بقاء ما يعرف بجيوب الفقر.
فالرخاء المالي لم يتجسد ميدانيا في عديد القطاعات، ولم تلمس فئات
المجتمع الجزائري مثل هذا التحسن على مستوى الجبهة الاجتماعية. ويؤكد
التقرير أن 13 بالمائة من السكان محرومون من الوصول إلى نقاط مياه
صالحة للشرب.
من جانب آخر، يكشف التقرير عن استمرار تردّي مستوى المعيشة، وتسجيل
اختلالات اجتماعية، على الرغم من التحسّن المسجل في المداخيل العامة
للجزائر. وإذا كان التقرير يشير إلى بروز ظاهرة نقص التغذية والأمراض
الناتجة عنها، فإنه أيضا يركّز على الفوارق الاجتماعية المتزايدة في
المجتمع الجزائري، على الرغم من أن الجزائر سجلت خلال السنوات الأربع
الماضية أعلى مداخيل لها، حيث تراوحت ما بين 18 و31 مليار دولار، وأن
نسبة زيادة السكان ونسبة الخصوبة عرفت تراجعا كبيرا خلال الخمس سنوات
الماضية، إذ لا تتجاوز حاليا 1,5 بالمائة، مقابل أكثر من 3 بالمائة
منتصف التسعينيات.
الخطة الأوروبية لمحاربة الهجرة
معاهدة برشلونة، برنامج ميدا، فرق للتدخل السريع ومشروع الهجرة
المنتقاة
تبذل الدول المصدرة والمستقبلة للمهاجرين جهودًا كبيرة للتنسيق
والتعاون الأمني ومراقبة الحدود وتحسين الظروف السياسية والاجتماعية،
لكن هذه الخطوات حسبما يرى مراقبون تبقى محدودة وغير كافية لتنظيم
الهجرة، وفي هذا الإطار يعتبر إعلان برشلونة، نموذجًا جيدًا لهذه
الاستراتيجية، حيث بدأ التعاون الاقتصادي الأوروبي المتوسطي بمعاهدة
برشلونة في عام 1995، عندما وقعت 12 دولة متوسطية - أغلبها دول عربية
من بينها الجزائر - مع دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة - في ذلك الوقت
- معاهدة تهدف في النهاية لإنشاء منطقة تجارة حرة بين تلك الدول بحلول
عام 2010، ورفع المستوى الاقتصادي لدول جنوب المتوسط.
ونتيجة لمعاهدة برشلونة طرح الاتحاد الأوروبي برنامجه الأول للمعونة
والتعاون، المعروف اختصارًا باسم "ميدا لتطوير الوضع الاقتصادي في دول
جنوب المتوسط، ودفع عمليات التنمية الاقتصادية، ودعم الروابط
الاقتصادية بين دول الاتحاد والدول المتوسطية".
كما بدأ الاتحاد الأوروبي العمل بخطة محاربة الهجرة غير الشرعية
باستخدام "فرق للتدخل السريع" في جوان 2006، في الوقت الذي أفادت
إحصاءات فرنسية صدرت أخيرا بان 19 ألفا و841 أجنبيا، كانوا يقيمون
بطريقة غير قانونية، ابعدوا من فرنسا عام 2005، أي بارتفاع قدره 26.7%
عن عام 2004. وكشفت وزارة الداخلية أن إبعاد 1916 شخصا في ديسمبر 2005
شكل أعلى حصيلة شهرية حتى الآن وتتناسب مع وتيرة إبعاد 23 ألف شخص
سنويا. ومع نشر هذه الإحصاءات، أعلن وزير الداخلية نيكولا ساركوزي عن
مشروع قانون يشجع على الهجرة «المنتقاة»، معتبراً أن هذه الفكرة ستتصدى
للهجرة غير النظامية باعتبارها عنصر عدم استقرار.
هذا وتحظى خطة إنشاء "فرق للتدخل السريع" بتأييد كبير من قبل وزراء
العدل والداخلية التابعون لدول الاتحاد الأوروبي بقصد مساعدة الدول
الأعضاء في التصدي لموجات التدفق المفاجئة للمهاجرين غير الشرعيين أو
طالبي اللجوء السياسي.
شباب ما زال يحلم بالهجرة ؟
بلقاسم ن.، في السابعة والثلاثين من العمر يقول بأن حلول السنة
الميلادية الجديدة لم يغير شيئا من مشاريعه المتمثلة في مغادرة الجزائر
بأية طريقة فأحب الكلمات إلى قلبه هو وأصدقائه من أبناء الحي هي التي
تشكل عبارة (الله يعطينا نفية من هذا البلاد)، التي تتواتر على ألسنتهم
جميعا ويضيف بداية العام الجديد لا يشعرني بالسعادة بل بمزيد من الضغط،
فأنا أدرك بأن سنة أخرى مضت من عمري وأنا ما أزال بلا مستقبل أو بعبارة
أصح لا دار لا دوار لا فيزا لا أورو.
بلقاسم ورفاقه وأمثاله الكثيرون، لا تعنيهم الاحتفالات برأس السنة
في شيء وهم لا يهنئون بعضهم بحلولها ولو بالكلمات لأن برأيهم لا شيء
يستدعي السعادة إلا الوصول إلى الضفة الأخرى، مهما كان ولا تهم
الطريقة، في مدخنة سفينة في صندوق السلع عبر تسلق الجبال، المهم
الهربة.
المشاكل المتراكمة والظروف الصعبة التي دفعت بالكثير من الجزائريين
إلى الجنون جعلت الهجرة تأخذ عقل آخرين فيما سلمت باقي الشباب لقمة
سائغة بين مخالب المخدرات، أثرت حتى على المتفوقين في البكالوريا الذين
اذرفوا الدمع خلال حفل تكريمهم، جراء خيبة الأمل الكبيرة التي أصابتهم
لدى معرفتهم بأن دراساتهم العليا ستتم بالجزائر، في الجامعة الجزائرية
التي تستقبل سنتها السادسة بعد الألفين في ظروف مزرية تميزها
الاضطرابات والاحتجاجات وكثرة المشاكل الاجتماعية والبيداغوجية التي
يصعب حصرها بين إقامة، نقل ومطاعم، ومكتبات...إلخ |