إذ كان مجلس النواب قد أقر قانون تشكيل الاقاليم والمحافظات
ضمن العراق الفيدرالي يوم الاربعاء(11تشرين الأول2006)فان هذا القرار
المهم والعظيم لم يكن وليد مصادفة أو نتيجة لآلية سيرورة العملية
السياسية الاعتيادية، بل هو قرار ثوري بكل معنى الكلمة..والثوري هنا لا
تعني الانقلابي، بل تعني ان القرار كان قرار تحدي لمعوقات لا حصر لها،
بل ولمؤامرات خطيرة، فضلاً عن ذلك فأن ضغوطاً اقليمية ودولية قد اشتدت
على الأطراف التي تقف وراء اصدار هذا القانون اضافة الى تهديدات محلية
تمحورت بخيارين: اما تعطيل أو تأخير تشريع القانون وإما توقف العملية
السياسية برمتها، مع اشارات الى أن أطرافا معينة قد ربطت بقاءها او
عدمه ضمن التشكيلة الوزارية أو في البرلمان في حالة عرض القانون
للتصويت عليه مهما كانت النتيجة.
لكن هذه الضغوط المحلية والاقليمية والدولية قد تم مواجهتها
بالاصرار على تشريع القانون، ولم تكن الأطراف التي تمسكت بتشكيل
الاقاليم والمحافظات وعلاقاتها بالمركز على غير علم بخطورة الضغوط وشدة
التهديدات وجديتها..بل بالعكس من ذلك فهي تدرك بأن هناك من يريد أن
يخرب العملية السياسية برمتها مستغلاً طرح مشروع تشكيل قانون الأقاليم
والمحافظات. إذن، فالعملية كانت محسوبة والنتيجة كانت متوقعة وحساب
المفاجآت كان موضوعاً ضمن التصورات..لكن مع كل هذا كان هناك اصرار على
إمرين: الأول هو الاستحقاق الدستوري الذي لا تراجع عنه مهما كانت
النتائج، والثاني هو أن تشريع قانون الأقاليم والمحافظات يزيح عن كاهل
الأغلبية عبئاً ثقيلاً ظلت تعاني من وطئته اكثر من خمسين عاماً منها
خمسة وثلاثون عاماً كانت هي الأقسى والأشد ظلماً وجوراً على الاغلبية.
بالطبع لم يأخذ أحد من المتمسكين بالفيدرالية ومن ثم قانون تنظيم
العلاقات بين المراكز والأقاليم منحى الأغلبية وممثليها على أنه انقلاب
ضد فئة أو مكوّن سياسي عراقي، بل على خلاف ذلك المنحى العام الذي تمثل
باسترداد حق ظل مغتصباً لقرون طويلة..ولم يكن هذا لوحده كافٍ للتمسك
بالفيدرالية وآليات تطبيقها، فما مضى قد مضى، والمهم ما هو آتٍ، وما هو
حاضر أيضاً..فالحاضر لكي يضمن مستقبلاً عادلاً للعراقيين جميعاً ينبغي
أن يمنح الجميع أيا كانوا حق التساوي في الحقوق والواجبات، واسقاط
المعادلة الظالمة التي تفرض واجبات فقط ولا تعطي حقوقاً إلا لفئة أو
مكوّن صغير..
ولعل النظر الى المستقبل هو المحفز للاصرار على تشريع قانون ينظم
العلاقة بين الاقاليم والمحافظات وبين المركز..ومع ان موعد تطبيق هذا
القانون قد تأجل الى عام ونصف العام، إلا أن هذا الوقت قصير إذا ما قيس
بحياة الأمم الطويل، وليس في التأجيل ما يثقل على الاغلبية أو يلحق بها
حيفاً مهما كان صغيراً..فالعام ونصف العام المقبلين سيكونان فرصه
للتدريب والتجريب قبل أقامة الأقاليم بنهاية مدة التأجيل .
وعلى ذلك، نعتقد بأن اقرار قانون الأقاليم والمحافظات كان حدثاً
كبيراً وعظيماً في تأريخ الشعب العراقي، وكان اساساً رصيناً في بناء
الوحدة الوطنية العراقية المتماسكة اختيارياً وليس قسرياً، ولعلها نقلة
نوعية تأريخية من الحكم المركزي الذي هجره العالم المتمدن الى حكم
الأقاليم والمحافظات المعمول به في الكثير من دول العالم الكبرى
والمتقدمة وحتى بعض الدول النامية.
وبالتأكيد أن الحادي عشر من تشرين الأول من عام 2006 لم يكن يوماً
عادياً في حياة الشعب العراقي، كان فاصلة بين عهدين من تاريخ وحياة
الشعب العراقي ومهما عمل الآخرون على افشاله فلن يحققوا ما يصبون إليه،
لأن الفيدرالية هي استجابة لارادة الشعب وتلبية لطموحاته في حكم نفسه
بنفسه، فضلاً عن كونها سياجاً يحميه من الارهاب أولاً ومن التسلط
ثانياً ومن عودة الدكتاتورية أخيراً.
وعليه، فان الرابح الوحيد من تشريع قانون الأقاليم والمحافظات هو
الشعب العراقي بكافة مكوناته، وحتى الذين رفضوه فانهم سيدركون يوماً ما
جدواه..ومهما ما قيل من أن هناك من يرغب في تقسيم العراق، فان ذلك
القول لا أثر له ولن يكون ذا أهمية، لأن المتمسكين بالفيدرالية
وآلياتها هم الاكثر حرصاً على وحدة بلاد وادي الرافدين، لكنهم يريدونها
وحدة بالاختيار لا القسر، ويريدون بلاداً يسودها العدل وتتصاعد فيها
وتائر البناء، ويكون للمواطن العراقي صوتاً مسموعاً عبر ممثليه في
الأقليم أو في المركز..يريدون وطناً موحداً جغرافياً وقبل ذلك بشرياً
وهذا هو المهم. |