اشتهر الفلسطينيون بكثرة «إنجاب» تنظيمات وفصائل متعددة
ومتنوعة من مشارب مختلفة، ويتبع أيضاً الكثير منها إلى هذه الدولة أو
تلك؛ بتقاطع مصالح أم بتحالفات سياسية. هذا «التفريخ المتزايد
للتنظيمات» أوجد في فترة سابقة حالة، بشكل أبو بآخر مريحة للقيادة
الفلسطينية المتمثلة بالمرحوم ياسر عرفات استخدمها ضد معارضيه، ولكنها
أيضاً أفرزت وبشكل سلبي جداً حالات عديدة من الاقتتال الداخلي
الفلسطيني ـ الفلسطيني، أو الفلسطيني ـ اللبناني، أو الفلسطيني ـ
الأردني في مراحل مختلفة من عمر الثورة الفلسطينية.
واليوم ثمة عناصر سياسية واقتصادية ونفسية في الواقع الفلسطيني داخل
قطاع غزة خصوصاً تغذي المخاوف بشأن احتمال إندلاع مواجهات أهلية
فلسطينية داخلية، ولكن هذا لا يعني أن هذه الحرب واقعة لا محالة، رغم
كل المظاهر والمقدمات الحاصلة وهذا يستدعي تضافر كل الجهود لمنعها.
ورغم أن العديدين يدركون ما رمت وترمي إليه الأهداف الإسرائيلية من
وراء «التخلص» من غزة التي اعتبرتها الأوساط الرسمية الإسرائيلية
دائماً، عبءاً وكابوساً يجب التخلص منها، وهي التي تجمعت فيها عوامل
الضغط والازدحام يُراد لها، أن تكون مختبراً تنفجر محتوياته على أصحابه
بـ «حرب أهلية»، يُعلن من خلالها فشل الفلسطينيين وعجزهم عن إدارة
أمورهم وحُكم أنفسهم!
إن الذي يجعل احتمال المواجهة الأهلية، أحد الاحتمالات الواردة وجود
الاختلاف الجوهري في البرامج السياسية والمصالح والتنازع على الصلاحيات
بين رئاسة السلطة الفلسطينية والحكومة، وبين الحكومة وجهازها الوظيفي،
وتداخل الصلاحيات بين المؤسستين، وتناقض الخطاب السياسي بينهما بسبب
تناقض المرجعية والبرنامج السياسي. هذا إلى جانب تعدد القوى والأجهزة
الأمنية واختلاف مرجعياتها مما ساهم في تدهور الوضع الأمني، وتوتر
الشارع الفلسطيني وسقوط العديد من الضحايا نظراً للاستقطاب الثنائي
الحاد والحشد العسكري والتحريض المتبادل في وسائل الإعلام... وهذا يعني
بقراءة موضوعية بعيدة عن الحساسيات أن استبدال البرنامج الوطني المتمثل
بدحر الاحتلال عن الأرض الفلسطينية وتحقيق عودة اللاجئين والحرية
والاستقلال، بالصراع على السلطة المقيدة الصلاحيات أحد الأمور الأساسية
التي يُتخوف من خلالها من أن تؤدي إلى إندلاع المواجهات الأهلية.
وفي ظل حالات الضغط المتزايد على حكومة حماس معاقبة للشعب الفلسطيني
على اختياره، أصبح من الواضح أنه مع تزايد حالات الفلتان الأمني في
مناطق السلطة في القطاع. وأحياناً في الضفة، أن الأمور تتجه وبشكل سيء
إلى المزيد من الاحتقان وربما الانفجار الداخلي الذي باتت نذره واضحة
ومعالمه تبرز بشكل أكثر وضوحاً مع ازدياد حالات القتل واحتلال المباني
الحكومية، إضافة إلى التظاهر والتظاهر المضاد في حالة تجييش واضحة
المعالم هدفها إبراز قدرة كل طرف على التجييش وإظهار القوة في وجه
الطرف الآخر. كل هذا دفع ثمنه المواطنون «البائسون» الذين وحّدهم الجوع
وفرّقتهم السياسة واختلاف البرامج. البعض يحمّل حماس مسؤولية التقصير
في عدم «اعترافها بإسرائيل» و«خوضها» مواجهة ضد المجتمع الدولي، في حين
يتخلى العرب عنها أو يدفعون باتجاه المزيد من الضغط عليها لـ «تليين»
مواقفها أو لتعديل برامجها التي لا «تتوافق مع مرحلتها الجديدة في
الحكم». أما البعض الآخر فيحمّل فتح المسؤولية؛ فهي التي تفردت بالقرار
الفلسطيني. وهي التي تقود الطرف الآخر من الثنائية المضادة لحماس ولم
تقم بمساعدتها عقب فوز الأخيرة بالانتخابات التشريعية...
وهكذا ما بين استمرار العدوان الإسرائيلي الذي بات لا يُلتفت إليه
في هذه الأوقات، بات الفلسطينيون يعيشون هاجس الأمن بكل تجلياته خوفاً
من الحاضر القاتل «عدم الأمان، الجوع..»، والمستقبل الذي يبدو أنه لن
يكون في صالح الفلسطينييين إذا استمرت حالات الفلتان الأمني المتصاعد
والفارض نفسها بقوة «الإرهاب»، واستمرار «إراحة» إسرائيل وأمريكا من
الالتزامات والاستحقاقات التي يجب عليها القيام بها تجاه عملية
«التسوية». ففي ظل هذه الحالة يصبح الأعداء في وضع مريح جداً فيما يدفع
الفلسطينيون الثمن. ويبقى كيل الاتهامات المتبادلة سيد الموقف. ويتحمل
الباقون من القوى والشخصيات غير المنتمية لأي من حركتي فتح وحماس
مسؤولية عدم الوقوف الجدي في وجه ما حصل ويحصل بين الحركتين. وإذا كانت
السلطة ككيان يعمل على ضرب وحدة الشعب الفلسطيني ويهدد منجزاته!! فعلى
العقلاء أن يقوموا بحلها والعودة إلى مربع المقاومة ولتتحمل إسرائيل
ومعها أمريكا والمجتمع الدولي المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع.
وخصوصاً أن إسرائيل تعتبر أنه «لا شريك» فلسطيني للمفاوضات، ومضيها في
خطوات أحادية الجانب، وتفريغها «خارطة الطريق» من مضمونها، بالتحفظات
الأربعة عشر، متجاهلة إخلاء البؤر الاستيطانية العشوائية، والتي ناهزت
الـ (120) بؤرة، وتستمر حكوماتها ـ حكومة أولمرت وقبله شارون ـ بغض
النظر عن إقامتها، بل تقوم بحراستها ومدها بالبنى التحتية تمهيداً
لتحويل بعضها إلى مستوطنات ثابتة. هذا عدا عن جدار الفصل العنصري الذي
تسعى إسرائيل لجعلها «الحدود المستقبلية لإسرائيل»، متخذة من آلتها
القمعية وسيلة تسعى من خلالها «لكي الوعي الجمعي الفلسطيني» و«إحداث
صدقه الهزيمة» لديهم.
ومن المعروف أن حرباً أهلية فلسطينية ستكون خدمة لإسرائيل التي تسعى
لذلك بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة.
فقد كشف تقرير لموقع «دبكا فايل» نقلاً عن مصادر استخبارية
إسرائيلية (4/6/2006)، وُضع عن آخر المستجدات غير المُعلنة في الصراع
الداخلي الفلسطيني، بين حركتي حماس وفتح عن الموقف الإسرائيلي حيال
ذلك. وأوصى التقرير: «الأجهزة المخابراتية الإسرائيلية بالعمل على
تطويع تلك الأحداث لصالح إسرائيل، وخدمة المصالح الإسرائيلية، وعلى
رأسها توفير الأمن للمستوطنات اليهودية القريبة من قطاع غزة، والتي
تتعرض لقصف فصائل فلسطينية مُسلحة بصواريخ محلية الصنع».
وفي تقرير آخر، أعده البروفيسور ستيفان دافيد، بعنوان: «الحرب
الأهلية الفلسطينية المطلوبة»، دعا فيه إلى الدفع باتجاه الحرب الأهلية
الفلسطينية الداخلية، معتبراً أن هذه الحرب تخدم إسرائيل في أمرين:
ـ أنه لا يمكن لإسرائيل أن تقيم سلاماً إلا مع حكومة فلسطينية قوية
وقادرة على تصفية المنظمات «الإرهابية»، وكل الذين لا يسلمون بحق
إسرائيل في الوجود.
ـ أن إسرائيل قد تجد صعوبة في السيطرة على «الإرهابيين»، ومن شأن
ذلك أن يكون صعباً جداً وأن يكلفها غالياً، ولذا من الأفضل أن يقوم
الفلسطينيون بذلك بأنفسهم.
ورغم أن الأماني الإسرائيلية كثيرة في إحداث حرب أهلية فلسطينية،
إلا أن آلة القمع الإسرائيلية تعمل على توحيد الفلسطينيين في المواجهة
وإن انحرفت البوصلة في وقت من الأوقات عن اتجاهها الصحيح. فبعد ست
سنوات من الانتفاضة لم تستطع آلة القمع الإسرائيلية «كي الوعي الجمعي»
الفلسطيني وإحداث صدمة «الهزيمة» لديهم، بل على العكس استطاع
الفلسطينيون بمجمل حركتهم ونضالهم تحقيق العديد من المكتسبات التي إن
تمت مراكمتها في سياق توظيفي حذر يستوعب المتغيرات الحاصلة داخل
إسرائيل، ويتجاوز في حركته وبوتائر متسارعة التصدعات الداخلية لبناء
برنامج القواسم المشتركة الذي يقضي على بذور التفجير الداخلية «الفلتان
الأمني...»، ويوجه كل الطاقات لإفشال المشروع الإسرائيلي في فرض
الوقائع بالقوة مما سيساهم في تحقيق الأهداف الفلسطينية. وغير ذلك
سيجعل الخسارة محققة والفلسطينيون سيحصدون المزيد منها...
*كاتب فلسطيني
Email: haithem15@yahoo.com |