في العراق يعتقد البعض بأن الحرب الأهلية غير العراقية قد
بدأت منذ وقت ليس بالقصير، طبعاً طبقاً لبعض تعاريف الحرب الأهلية.
في لبنان البعض يصنف الحرب الأخيرة بأنها الفصل الأول من الصراع
هناك، فلا يستبعد أن يكون الفصل الثاني أو الثالث منه حرباً أهلية غير
لبنانيه كذلك، وفي هذا السياق يرى هؤلاء بأن جرّ قوات اليونيفل يمكن أن
يتحول الى فخ خطير للأوروبيين إنْ لم يوقفوا التنافس العالمي اللامحدود
مع الأميريكيين من جهة، وكتب النجاح لتفخيخ فتفجير الملف النووي
الأيراني.
هل تكون المنطقة قد دخلت أو أوشكت على دخول عصر الحروب الأهلية
بمفهومها غير الأهلي الجديد ؟
لتجعل من العالم مكاناً عنيفاً، وصعباً، وأقل أماناً و إنسانية،و
أكثربعداً من السلم والرخاء والإستقرار والديمقراطية الواقعية
المستدامة ؟
ربما، وذلك لغياب أي مبادرة جادة شاملة لإحتواء الأزمة هنا أوهناك
عبرمصالحة دولية، ولإصرار البعض في تصوير حل الأزمة بالهروب من الحل
بالإصرار على توسيع ساحة ورقعة الفوضى الخلاقة لتشمل دول أخرى غير
أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، إنقياداً وراء تلك الأسطورة
اليونانية عن طائر فونيكس......... ذلك الطائر الذي يقال أنه ولد من
أنقاض دماره. فونيكس أسطورة يونانية قديمة تمّ تجريبها سياسياً دون
جدوى، ولأكثر من مرة، وفي أكثر من مكان في قرون سابقة، فالأسطورة تبقى
أسطورة، وهي أقرب إلى الخرافة والجمود منها الى الخيال والإبداع.
العلاقات الدولية والسياسات الخارجية لا يمكن أن تستند إلى تجريب
المجرب الأسطوري، والإبتعاد عن المرحلية والبراغماتيه المشروعة ، كما
لا يمكن السماح لها بالغرق في الثورية اوالقياس والتعميمات غيرالواقعية
مثل نظرية الدومينو التي كانت تردد بالنسبة لإنتصار( ألفبيت منه ) في
فيتنام التي كانت تفترض أنه فيما لو أعتنقت دولة أسيوية واحدة
الشيوعية فإن كل جارة من جاراتها قد تحذو حذوها، مثل صف من أحجار
الدومينو التي يجعل الواحدة منها، الأحجار المجاورة تتساقط واحداً تلوى
الآخرى. كما في رسالة آيزنهاور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونيستون
تشرتشيل في 4 ابريل 1954، والتي تحدث آيزنهاور فيها عن فرض النظام
السياسي السوفيتي الشيوعي وحليفها الشيوعي الصيني على جنوب شرق اسيا
محذراً من تكرار تجربة ميونيخ حين قال :
((و إذا جاز لي الإشارة ثانية إلى التاريخ فقد فشلنا في وقف
هيروهيتو، و موسيليني، وهتلر لأننا لم نتصرف يداً واحدة في وقت مناسب.
وهذا ما أطلق العنان لسنوات كثيرة من المأسي الصارخة والمخاطر
الشديدة. ألم يحن الوقت لكي تكون أممنا قد تعلمت شيئاً من هذا الدرس.))
حقا ً ألم يحن الوقت لكي يكون الجميع قد تعلم شيئاً من هذا الدرس بعد
أكثر من نصف قرن أومنذ تدشين العمل بنظرية الفوضى الخلاقة المدمرة
للكبار والصغار بعد تحرير العراق. أتصور أن الوقت قد حان وربما تكون
الفرصة الأخيرة لقيام الحكماء في العالم بالمهمة الصعبة الممكنة
الأخيرة. للإنتقال من النزاع إلى الأمن، ومن الفوضى إلى التوازن
والنظام، ومن الدكتاتورية الى الديمقراطية، ومن الظلم الى العدالة، ومن
الحيونة الى الأنسنة، ومن...الـخ، لجعل الحرية فالديمقراطية فالرفاه
والسلام وليس الحرب هو العلامة المميزة للمستقبل وهذا يتطلب اموراً
منها :
1- أن يبقى نمط التعامل مع كل من نظام صدام وطالبان في العراق و
أفغانستان إستثناءاً، مع تأصيل مبدأ تغيير سلوك الأنظمة بعيدا عن
المناورات والصفقات السوداء، وذلك للخصوصيات الفاشستية الفريدة
للنظامين المذكورين، والمرحلة، والتوقيت، والصدمة التي شكلتها، والفرصة
الذهبية التي قدمتها العمليات الوحشية الإرهابية في 11 سبتمر، وهذا لا
يعني إلغاء التحفظات والإنتقادات على مارافق وتبع ذلك النمط وما يزال
متواصلاً، كما لا يعني ذلك عدم الإدانة للأرواح البريئة التي أزهقت،
والحقوق التي خرقت، فالدم يبقى دماً أينما اريق، والجغرافيا لا تتمكن
من تحويله ماءاً، وحقوق الإنسان هي حقوقه وجزء لا يتجزأ منه أينما كان.
كما يعني ذلك الإلتزام الإعتراف للرأي العام العالمي بالأخطاء التي
ارتكبت خلال وبعد تحرير افغانستان والعراق مع تصحيح المسار، وهكذا فيما
يرتبط بالأخطاء التي ارتكبت في فلسطين ولبنان لتكريس الديمقراطية
وتعزيز رعاية حقوق الإنسان وتفتيت وحدة الإرهاب والتفرغ لمكافحته بجدية
في جبهة موحدة.
2- الحوار المباشر الثنائي الإستراتيجي المعمق، لتسوية كل الملفات
المترابطة المعلقة لسد الأبواب أمام المزايدات والإبتزازات فالإنتقال
الى
المصالحة الدولية فالشراكة العادلة المتكافئة وفقاً للنظرة الواقعية
التي تفيد بأن النظام الدولي لم ينتقل من الثنائية القطبيه إلى
الأحادية القطبية بصورة كاملةً بعد، بل إنتقل من الثنائية القطبية إلى
قطب مميز متاخم من ناحية النفوذ لأنصاف أقطاب عديدة بعضها يتقاتل
بشراسة مع الزمن للقفز الى الصدارة فالقطبية، و يؤيد تلك النظرة خطوات
وإجراءات الرئيس الأميركي في دورته الرئاسية الثانية مع كل من فرنسا
والهند والصين وغيرها، إضافة الى ما تسرب من تهديدات متبادلة غير
مباشرة بين أميركا وفرنسا مع وقف إطلاق النار في لبنان، وقضية إستقرار
اليونيفل هناك، فذلك يساعد على رسم حدود أخلاقية سلمية عادلة للتنافس
وضمان المصالح لإيقاف التنافس اللا أخلاقي المفتوح للسيطرة على العالم
بدلاً، وتحويله الى تنافس بناء على طريق قيادة العالم بحكمة وأليات
سلمية حضارية نحو السلام والأمن والرفاه والديمقراطية والعدالة الأخلاق
ومحورية الإنسان.
3- الإنفتاح على الجميع بالحوار المحدد المترابط البنّاء، لحصر
الخلافات الدولية في نطاق دبلوماسي وسياسي، فالخروج بإتفاقات بيضاء لا
تساوم على الإصلاح والحكم الرشيد والدمقرطة وحقوق الإنسان. بل تبحث
بجديه من جهة عن ستراتيجية شاملة لدحر الإرهاب وتجفيف جذوره، وتنقب من
جهة اخرى عن مخرج للمأزق والتراجع الذي بات يكتنف ملفات الإصلاح
والدمقرطة التي تعتبربحق من الملفات الإنسانية الجوهرية والتي يمكن
عبرها تدعيم اسس الأمن والإستقراروالعدالة والتعايش في العالم.
3- إنعاش مفاوضات السلام المستدام الشامل وجهود الإصلاح وتفويض
متابعتها الجدية إلى الأمم المتحدة وبالتوازي مع إصلاحها، وبمشاركة
فاعلة متوازية للبنك الدولي، ومؤسسات المجتمع المدني المعنية.
4- إنقاذ المنطقة من عصر الحروب الأهلية والتركيز على بناء دولة
المؤسسات الدستورية الديمقراطية اللامركزية في العراق، وبسط الأمن
والإستـقرار في ربوعه من زاخو وحتى الفاو، وتفعيل إعماره وبناء إقتصاده
ليصبح نموذجاً يقتدى به، فعندما يستقر الوضع في العراق، ويتقدم سياسياً
وإقتصادياً وتكنولوجياً وإعلامياً وسيادياً، وينتعش فيه التعايش سيتحول
الى قدوة للإصلاح والدمقرطة الذاتية، لأن النموذج الجيد يصدر نفسه
بنفسه، وهكذا الأمر بالنسبة لإنتـشال أفغانستان ولبنان و فلسطين من
الفـوضى والتأزم المتواصل.
5- المصداقية الديمقراطية في الموقف والتعامل مع الجهات والشخصيات
التي توصف من قبل البعض بالمتطـرفـة، و التي تصل الى سدة الحكم عبر
صناديق الإقتراع، لأن الديمقراطية ستروضهم وتصلحهم اوتقيلهم وتهمشهم في
الدورة القادمة اوقبل ذلك وعبر نفس الاصوات التي اتت بهم، فلا يصح إلا
الصحيح الذي يتمثل في الإعتدال والوسطية والأحزاب والتجمعات البرامجية
الديمقراطية التي تحمل و تجسد هموم وتطلعات الناس التي سئمت الشعارات
الفارغة.
ما بين السياسة والأخلاق في بعض القرارات مسافات ومسافات، لكن
السياسة تبقى فن الممكن... السياسة تبقى فن الميسور، والوقائع والأحداث
والحريق الكبير الذي يتوقع البعض وقوعه يؤكد بأنه لا مناص من
تغييرالمسار كي لا نأسر الإنسان في العالم لئن :
يعيش في الزمن الخطأ
ويقـف في المكان الخطأ
ويقاتل بالسلاح الخطأ
المهمة مهمة حكماء العالم وكل حكماء العالم، وهي كبيرة ومصيرية
للعالم
كله، لكنها مهمة ممكنة لإخراج العالم من المأزق الحالي الخطير
وتغيير المسار، وطرق التغيير كثيرة ومتداخله مثل البصمات لا يمكن أن
تجد بصمتين بنفس الشكل.
*معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات –
واشنطن
http://www.siironline.org |