الأقليات Minority
إن عبارة الأقليات تذكّر أولا بتجزئة مجموعة على مجموعتين داخليتين
على الأقل، تكون إحداهما أكثر عدداً من الأخرى أو إذا كان ثمة أكثر من
مجموعتين داخليتين، أكثر عدداً منها كلها. وإلى جانب كونها الأكثر
عدداً، يمكن للأكثرية أن تضيف خصائص أخرى، فالأكثر عدداً يمكنهم كذلك
أن يكونوا الأقوى: وذلك ما يحصل، من وجهة نظر سياسية حصراً، في الأنظمة
الديموقراطية. ويمكن أن يحصل، على العكس، أن يعتبر الأقل عدداً هم
الأفضل. كما في الأنظمة الأريستوقراطية، أو في المجتمعات ذات التوجه
النخبوي.
في شتى الأحوال، ما أن يحصل التمييز بين الأكثرية والأقلية (أو
الأقليات)، حتى تطرح سلسلتين من الأسئلة. أولاً، هل تنجم التجزئة عن
انقسام؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن وحدة المجموعة تكون قد تحطمت. وإذا
أخذنا التمييزات الكلاسيكية لهيرشمان (hirschman)، تواجه الأقليات
بثلاث استراتيجيات ممكنة. فهي تستطيع بواسطة ((الولاء)) أن تبقى في
المجموعة وأن تمتثل لإرادة الأكثرية. وإذا بدت لها هذه الارادة امرا
مفروضا، لايبقى لها خيار سوى الانفصال أو المعارضة..تقر هاتان
الاستراتيجيتان متغيرات تمّ التدقيق فيها إلى حد ما، إلا أن
مجال بحثنا ليس هنا. إن ما يهمنا الإشارة إليه هو أن الاستراتيجية
الأولى (الولاء) والاستراتيجية الثالثة (المعارضة) بصورة خاصة، تمّ
صوغهما من قبل منظّري الأنظمة الديموقراطية، علماً أننا نستطيع تعريف
الديموقراطية بأنه النظام الذي تمّ فيه ترتيب العلاقات بين أكثرية
المواطنين وباقي الجسم السياسي بطريقة تجعل التعايش السلمي بينهم
ممكناً.
كيف تمّت إقامة هذا الترتيب وكيف تمّت المحافظة عليه؟ علينا، لكي
نتحاشى ما كان يسميه توكفيل والليبراليون في القرن التاسع عشر بطغيان
الأكثرية، أن نسعى لإقامة تحديد دقيق لصلاحياتها. فالأكثرية لا تعترف
فقط بوجود ((الآخرين)) الذين ينتسبون إلى الجسم السياسي كما تعترف
بنفسها. ولكنها تعترف كذلك بأن ((الآخرين)) لهم حق ملاحقة مصالحهم
الخاصة، والتعبير عن آرائهم المتميزة. وينجم عن ذلك نتيجتان اثنتان.
إذا كانت الأكثرية لا تستطيع أن تدعي أي تفوّق في القيمة والجدارة، فهي
لا تتميز عن الأقلية إلا بطبيعتها وإتساع صلاحياتها، وبالتحديد قدرتها
على اتخاذ قرارات تلزم الأقلية كذلك. أما النتيجة الثانية فهي أكثر
أهمية أيضاً. ليس مسموحاً لأي قسم من الشعب أن يعتبر نفسه الشعب بأسره.
إذا لم تتمكن الأكثرية من الاستفادة إلا من تفويض تمنح بموجبه مهمة
تقرير بعض القضايا المتعلقة بالمصلحة العامة، فالأقلية لا تستطيع من
باب أول أن تتبجح في الحديث عن ((الشعب بأسره)). هذا المفهوم الضيّق
لحقوق الأكثرية، الذي يضمن بصورة متلازمة، عبر قاعدة التناوب أو أي
تدبير مؤسساتي آخر، حقوق المواطنين الذين يشكلون أقلية، يعتبر أحد
المكتسبات الأساسية للمفهوم الدستوري للديموقراطية.
إن فكرة الأقلية لا تنحصر بفكرة المعارضة التي تنتظر بهدوء، في
الديموقراطيات التعددية، دورها لتسلم الأمور، مستقوية بحماية صلبة ضد
أخطار التعسف والاستعباد.
إن الهوية المفهومية كذلك، باعتبارها فرقاً جذرياً، تطرح مسألة
تراتبية الولاءات، التي ينبغي احترامها من قبل جميع المجموعات المنتسبة
إلى المجتمع نفسه، لمجرد أنهم ينتمون إليه. السؤال نفسه نجده مطروحاً
بالنسبة للأقليات المتطرفة، الذين يقتضي تمييزهم عن الأقليات الأثنية
أو الوطنية. هل إن ((تحرير)) النساء، ، ومدخني المارغوانا، ودعاة
البيئة، تطرح قضايا مختلفة عن تلك التي يطرحها تحرير الأرمن، أو الصراع
ضد. اللاسامية؟ ووفقاً لرأي مقبول، إن ((اللاسامية)) هي التي ((تصنع))
اليهودي. والاباء الجلادون هم الذين يصنعون الأبناء اللواطيين.
فالمتسلط يلقي على أغراض خيالية نوازعه الخاصة. وما لا يتسامح به لدى
الآخرين، هو ما لا تتسامح به الأنا المثالية لديه. يعتبر الحكم المسبق
خطأ قبل كل شيء. إذا نظر اللاسامي إلى اليهودي كما هو، سيدرك أن
الخصائص السلبية التي يلصقها به غير موجودة. هذا التفسير ليس عارياً عن
أية صحة. إنه يفترض علاقة بين الاعتداء، الذي يعتبر بمثابة استجابة،
وكبتاً مسبقاً، ولكن فضلاً عن كونه لا يوضح أبداً هذه العلاقة، فهو
يهمل نقطتين أساسيتين. أولاً، إن تفسيرات التصرفات المعادية للأقليات
بالنزعة التسلطية والأحكام المسبقة تتجاهل مطالب الأقليات. فاليهودي هو
شيء آخر غير الصورة المقلوبة للاسامية. اليهودي ينسب لنفسه الصفات
الإيجابية التي تعرَف هويته، ويريد أن يعترف له بها. وأخيراً تتجاهل
هذه التفسيرات المحتوى الإيجابي لمطالب الأقليات. ويتجاهل كذلك الشروط
الاجتماعية التي يمكن ضمنها وضع هذه المطالب موضع العمل. لا نرى أن
النساء، حتى الأكثر نسوية، يردن قطع العلاقة الاجتماعية التي يقمنها مع
الرجال، بشكل جذري، كما اقترح الوطنيون الجزائريون قطع الروابط
القانونية والسياسية التي تربط بلدهم في ((الاستعمار الفرنسي)).
وبمقدار ما لمجموعات النسويين أو مدمني المخدرات هوية أقل ثراء من هوية
الأقليات الأثنية والعرقية، تبدو للوهلة الأولى، المشكلة المطروحة على
المجتمعات الديموقراطية من قبل ((الأقليات الجديدة))، أقل صعوبة من
المشكلة التي طرحت فيما مضى على الإمبراطورية الوحدوية من قبل الدخلاء
الاثنيين أو الدينيين. ألا يكفي التذكير بالمبدأ القاضي بأن كل واحد حر
بأن يفعل ما يحلو له طالما أنه لا يمس حقوق الآخرين؟
يمكن معالجة مطالب ((الأقليات الجديدة))، بطريقة التسامح، إذا كانت
كلها محددة ومنتظمة بدقة. من المرجح أن زوال المحظورات الأكثر كبتًا
يستمر تدريجياً، بصورة بطيئة إلى حد ما، وكيفية. ولكن مطلب ((الأقليات
الجديدة)) ليس موجهاً ((فقط ضد بعض المعتقدات الغريبة، وإنما له كذلك
سمة شمولية ومتفشية. فمطلب جماعة البيئة يتصدى لنظام قائم على
((الكسب)) و((لمجتمع الاستهلاك))، كما أن الحركات النسوية تهاجم الكبت
الجنسي. ينجم عن ذلك انزلاق دائم للمطالب يؤدي بها باستمرار إلى تجاوز
نفسها، وتراجع من جهة المحافظين أو الامتثاليين يؤدي بهم إلى رفض أي
تنازل، خشية أن يجرهم ذلك إلى أبعد من النقطة التي يرضون بملاقاة خصمهم
عندها.
يخفي تصرف الأقليين أشكالاً متنوعة بقدر ما يخفى تصرف الأكثريين، أو
الامتثاليين، حيال الأقليين. يجد الأقليون أنفسهم في مواجهة عدد معيّن
من المآزق. أولاً، يستطيعون البحث عن التسامح أو الاعتراف. يمكنهم
السعي إلى اعتراف فوري وللحال، بمطاليبهم أو اعتراف جزئي ومؤجل. يمكنهم
المطالبة كل واحد لنفسه، أو أن يوحدوا مطاليبهم. هذا الخيار الأخير ذو
مغزى خاص. إذا سعت أقلية إلى الإئتلاف مع أقليات أخرى، فإنها تدخل في
لعبة التجمع الديموقراطي. إن ما تهدف إليه، بإدخال مطاليبها الخاصة في
برنامج يقويها عبر تجاوزها، هو جعلها مقبولة من قطاعات من المحتمل أن
تكون واسعة جداً من رأي عام هو في الأساس معاد جزئياً أو متحفظ. تسعى
الأقلية عبر هذه الاستراتيجية، من أجل الاعتراف بشرعية مطلبها، إلى
الحصول على مساندة الرأي العام الأكثري. وعلى العكس، إذا انغلقت على
مطلبها الخاص، فإنها تعزل نفسها وتصبح أكثر ردايكالية. إنها تنعزل إذا
اقتصرت على نفسها. وتصبح أكثر راديكالية إذا لم تسع إلى مساندة سوى
القطاعات التي تقدم، على غرارها، مطاليبها على قاعدة ((كل شيء أو لا
شيء)).
يتم إدراك وضع الأقليات وفقاً لنموذجين متطرّفين، وكلاهما قليلاً ما
تحققا. يمكن فهم الأقليات باعتبارها جسماً غريباً (دخيلاً)، متشكلة من
هامشيين، معرّضين لأن يصبحوا منحرفين، إذا لم يكن منشقين ومتمردين: تلك
هي النظرة المحافظة والامتثالية. ولكن الأقليات يمكن أن تعامل على
العكس باعتبارها ملح الأرض. وإذا كانت اليوم محتقرة ومضطهدة، فهي تعد
بمستقبل تساهم مساهمة رئيسية في بنائه. يبدو أكثر تعقلاً تبني وجهة نظر
أكثر تحفظاً إزاء الأقليات. فهي تبرز درجة التنافر التي يمكن لمجتمع ما
أن يتسامح معها في داخله، دون التعرّض لانقطاعات قاضية، أو دون الحاجة
إلى إعادة ترتيب عميق لتراتبية القيم وتراتبية الولاءات التي تقتضي
احترامها من قبل أعضائه. وهكذا يعلن ظهور أقلية:
1- تسارعاً في عملية التمايز الاجتماعي؛ 2- بروز النزاعات أو
اشتدادها؛ 3- خطر انقطاع في التسلسلية الاجتماعية، مع خروج من المحتمل
أن يكون عنيفاً للأقليات أو للدخلاء؛ 4- الوعد بالتجديدات وبقفزات
نوعية، مقدمة في آن معاً إلى الأقليات (المجموعات الأثنية في فترة
الصهر) وإلى المجتمع بكامله؛ إمكانيات أفضل للفوز.
إن مفهوم الأقلية ينطوي على الأبعاد
الرئيسية الآتية:
أ- إن الأقلية في الأساس هي ظاهرة ثقافية، فقد يشترك أعضاؤها في
واحد أو أكثر من مقومات التاريخ واللغة والدين والعرق، فنكون بصدد
أقلية لغوية أو دينية أو عرقية وقد يشتركون في هذه العوامل كلها فنكون
إزاء أقلية متعددة المقومات، وفي كلتا الحالتين تنعكس تلك الخصوصية
الثقافية في أطر تنظيمية وأنماط متمايزة للتفاعلات الداخلية.
ب- إن الأقلية يجب أن تكون واعية تماماً بتلك المقومات المشتركة
التي تحقق لها التضامن الداخلي والتمايز في التعامل الخارجي، وذلك أن
الأقلية هي نتاج عمليتين متكاملتين، الأولى هي استقطاب كل من يشترك
معها في تلك المقومات، والثانية هي استبعاد كل من يختلف معها فيها،
ولهذا تعد الأقلية كالعملة ذات الوجهين: أحدهما الشعور بالانتماء،
والآخر هو الشعور بالتمايز.
ج- إن الأقلية عادة ما تُكَوِّن هذا الوعي نتيجة المعاملة المتحيزة
التي تلقاها بواسطة الجماعة المسيطرة وهي ليست بالضرورة الأكثر عدداً،
فقد تكون عكس ذلك، ويطلق البعض على مثل هذه الجماعة التي تجمع بين قلة
العدد وبين الفعالية السياسية تعبير الأقلية الاستراتيجية (المجتمع
السوري نموذجا).ً
د- إن الانتماء للأقلية ليس جامداً وإنما هو متغير تحركه المصلحة
حيث لا يمكن فصل أي من عناصر الاختلاف الثقافية أو الطبيعية للجماعة
الفرعية عن طبيعة الواقع السياسي الذي تعيش فيه.
هـ- إن الأقلية هي جزء مما يعرف باسم الجماعات المهمشة وهي الجماعات
التي لا تحظى بمعاملة متساوية لأسباب متعددة. ونتيجة هذا التعدد فإن
مفهوم الجماعة المهمشة يعد أكثر اتساعاً من مفهوم الأقلية، فهو يشمل
بين ما يشمل النازحين من الريف إلى الحضر والذين يطوقون المدن الرئيسية
بأحزمة الفقر ويعمرون أحياءها السكنية العشوائية. كما أنه يشمل بعض
الذين يعانون من بعض إعاقات جسدية أو ذهنية. إضافة إلى شموله المرأة في
بعض المجتمعات.
ولما كانت ظاهرة الأقليات تمثل ملمحاً من ملامح الدولة الحديثة إلى
حد اعتبار كيث هيندل في عام 1992 أن هناك أقل من 10% من دول العالم
تتمتع بالتجانس الثقافي. وأهم من ذلك أنه لما كانت هذه الظاهرة هي
السبب المباشر في اندلاع الصراعات الداخلية إلى حد توصل معه
رودلفوستافنهاجن إلى أنه منذ نهاية الثمانينيات وحتى عام 1991 استأثرت
مشاكل الأقليات بـ 36 صراعاً من إجمالي 111 صراعاً داخلياً على مستوى
العالم. تقدم الأمين العام السابق للأمم المتحدة د. بطرس بطرس غالى في
17/6/1992 بأجندة للسلام تستهدف احتواء الصراعات التي تهدد السلم
والأمن الدوليين وفي طليعتها "العصيان الإثني، أو الديني، أو الاجتماعي،
أو الثقافي، أو اللغوي"، كما تستهدف حفظ السلام، وبناء السلام بعد
الصراع. وبذلك دخلت أجندة السلام في صميم الجدل الذي دار منذ انتهاء
الحرب الباردة، وانصب على آلية التدخل الدولي الإنساني ومدى مشروعيتها
في حالات انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها حقوق الأقليات، على أساس أن
أحد التدابير المقترحة في إطارها هو التدخل العسكري الجماعي لفصل
القوات المتحاربة ونزع سلاحها. |