الحكومة الدستورية وأوهام الآخرين في العودة الى الوراء

المحامي طالب الوحيلي

الواقع الدستوري منذ تاسيس الدولة العراقية يدور في ذات المدار الذي ساد العالم الثالث بعد انقضاء الحقبة الاستعمارية،واكتساب الدول المستعمرة(بفتح الميم) لسيادتها التي لابد ان تدور ضمن فلك الأقطاب السياسية التي حكمت العالم ،لاسيما في مرحلة الحرب الباردة، وقد استمد النظام الدستوري العراقي أصوله من ذات القاعدة السائدة في الانظمة العربية التي استولت على الحكم من خلال الانقلابات الدراماتيكية ،ولعل متابعة للدساتير التي شهدها العراق منذ صدور القانون الاساسي وحتى الدستور المؤقت لسنة 1970 تشترك جميعها بصفة كونها مؤقتة وانها كتبت من قبل افراد دون ارادة الشعب العراقي وكانت تفتقر الى الدوام والعمومية وتتنافى مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وان كانت تصر على ادراج تلك المبادئ في متونها الا انها تحولت الى مصادر للتنكيل والاضطهاد بمختلف أبعاده وجميعها لا تتعدى شروط الظروف الطارئة التي تنافي حق تشكيل السلطات الدستورية الثلاث وتعارضها بالقول والفعل واضعة محلها صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية ومجلس قيادة ثورته لحكم ابدي له لاينتهي الا بمعجزة .

الواقع العراقي لا يتجاهل هذا النمط مطلقا ،وقد خرج الجميع من كابوس الحكم الدكتاتوري الحزبي ومن ثم الفردي وما ال اليه العهد الصدامي  من خراب ودمار ،بين منتشي بنشوة الانتصار حين رأى أصنام الظلم تتهاوى ومتفائل بقبر ذلك الماضي اللعين ومترقب لما سيحدث فيما بعد،اومتحسر على ماض كان يجد فيه خلاصة تأريخ ينتمي الى عهود الاستبداد الطائفي والشوفيني ، فهو غير مستعدة لأن يتخلى عن (امتيازاته) التاريخية،فغدت هذه الحالة ثقافة عامة ( لفئة) من مكونات الشعب العراقي رأت انها لا تقبل بأن تشاطرها الفئات الاخرى، ولأول مرة، حكم العراق ،وامتيازاتها الدينية والسياسية وحتى الإعلامية التي طالما فرضت على الجميع ايديلوجيا ومثل لا يتعاطون معها او يميلون اليها لانها تلغيهم بالرغم من كونهم الاكثرية العددية والسياسية، وهذا موقف متشنج يضر (هذه الفئة) نفسها لأن العالم تغير ولأن الشعب أصبح جزءا من عولمة إنسانية بدأت تنتزع حقوقها وترسمها وفق ماتشاء.

هذا الموقف المتشنج تجذر كثير ليكون السبب المباشر في زيادة الخراب وفي تعميق هوة الخلاف بين مكونات الشعب العراقي وتعطيل كافة الطاقات الخلاقة في بناء النظام الدستوري الحضاري،متباكية على ماض لم يرث الشعب منه سوى الحقد والبغضاء التي سرعان ما طفت على سطح الأحداث لتمخر في بحار الدم العراقي الذي أريق لهذا السبب دون سواه على مرأى ومسمع من الامم المتحدة ومجالسها وهيئاتها التي شرعت القاعدة التي بني عليها هذا التغيير عبر القرارات الدولية ،ومنها استمد النظام الدستوري الجديد في العراق قوته مما يمنحه ذلك صفة متفردة في العالم ترفعه عن الانظمة الانقلابية السائدة وتضعه في مصاف النماذج المثالية في التأسيس للحكم الديمقراطي الفعلي حيث وجدت فية الاغلبية المضطهدة ملاذا لها في تقرير مصيرها واختيار حاكميتها وتشريعاتها عبر تجارب انتخابية دلت على مكامن النقص لدى القوى المعارضة في قبول الخيار الديمقراطي ،فاتخذت دون ذلك بديلا عبر فتح العديد من الجبهات التي ولدت عشرات الجماعات الارهابية التي تجاهر بفرقتها عن بعضها، وتضمر توحدها في الأهداف، مستثمرة خبرتها الاعلامية والدعائية والادارية في عكس الوقائع وتمييع الحقائق والظهور بمظهر المظلوم المغلوب على امره، في الوقت الذي الغت حقوق الجميع في الحياة وفي مادون ذلك، مادامت قد أعلنت حربها على الحكومة المنتخبة والمنصبة دستوريا، بالرغم من مشاركتها الفعلية في هذه الحكومة ،وما زال البعض داخل الحالة الوطنية العراقية يفكر بعقلية المعارضة وليس كجزء من الحكومة، ليتحول في خارج أروقتها الى داعية للارهاب ،متخذا من المنافذ الإعلامية التي تعتبره ضالتها، منبرا له يتحدث فيه كيفما يرغب دون تروي  او مسؤولية ،طاعنا الشعب العراقي باغلبية حين يستنكر علية حقه الانتخابي واستحقاقه السياسي الذي وهبه وفئته بعضه رغبة في خلق جو من الثقة والتفاهم الوطني من اجل وحدة العراق ارضا وشعبا،بكل بساطة يطالب احدهم بالغاء الدستور الدائم وبحل الحكومة العراقية وبحل ما يسمى بالميليشيات الشيعية دون الميليشيات السنية ويطالب بمطالب لا تقل عن عودة حزب البعث الى السلطة بعد الافراج عن صدام حسين والتعويض له ولاجهزته الامنية وجيشه المنحل والحكم على الشعب العراقي بالخيانة العظمى لانه رفض نظام صدام وحاشيته!!! .

لقد جاءت هكذا تصريحات مع تصريحات لشخصيات برلمانية اخرى منسجمة مع بيان نشرته وكالة رويتر  الاسبوع الماضي حيث قالت) - دعت جماعة عراقية متشددة بقيادة القاعدة في بيان نشر على الانترنت يوم الخميس المسلمين السنة الى قتال الشيعة وقالت ان الذين يموتون مثواهم الجنة. وقال البيان الذي نشرته جماعة مجلس شورى المجاهدين على الانترنت "يأهل السنة.. ليس أمامكم غير مجاهدة هؤلاء الذين كفروا صحابة نبيكم وطعنوا بعرض رسولكم واستباحوا دماء المسلمين ولن تنفع مؤتمرات المصالحة مع من اتخذ الكذب دينا والغدر عبادة).

والملفت في الامر ان هذه التصريحات وهذا البيان كانت كردود افعال لمؤتمر العشائر العراقية في إطار السعي للمصالحة الوطنية وما لهذا المؤتمر من أهمية في عكس الرغبة الشعبية لترصين الوحدة الوطنية وسحب البساط من تحت القوى الإرهابية التي لابد ان تبقى منعزلة وشاذة امام التلاحم العشائري الذي يمثل العمق الاجتماعي للحالة العراقية، وما يعنيه ذلك من أعراف تكاد تتفوق على خصائص القانون في بعض الظروف الحالكة ،لذا كان متوقعا ان تتصاعد الجرائم الإرهابية خلال الأيام الأخيرة ،لافتة النظر الى تكرار أسلوب إجرامي من ذات النوع الذي شهدته الكرادة والطالبية والزعفرانية في الأسابيع الماضية ،وهو يعتمد على مزيج من التفخيخ والتفجير عن بعد والقصف الصاروخي المركز ،مما يؤدي الى حصد اكبر عدد من الضحايا من نساء واطفال آمنين في محال سكناهم،ناهيك عن استهدافها لمواقع يشغلها أتباع اهل البيت ،بما في ذلك مناطق محافظة ديالى التي شهدت تصعيد تكفيري بعثي كبير وكارثة مركز تطوع الحلة ،  مما يساهم في إحداث ردود أفعال تنذر بخطر لاحدود له،ويرمي بثقله على الجميع ولاسيما الحكومة والجهات الأمنية بالذات التي ينبغي عليها اعادة النظر بأسلوب إدارة الأزمة ،والبحث عن صيغ موضوعية مع القوات المتعددة الجنسيات في تطبيق خططها الأمنية،وكل ذلك يقع ضمن صلاحياتها الدستورية وما ينبغي ان تكون عليه التجربة العراقية الديمقراطية ..  

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 11/ايلول /2006 -17/شعبان/1427