روايا ماريا للكاتب جوستن غاردر

الرواية: مايا

المؤلف: جوستين غاردر

الناشر: دار (الكلمة) – دمشق – 2001.

(ثمة مصادفات عجيبة تعطي الحياة طعماً، وتنمي دورياً الأمل المكنون بوجود قوى خفية تبسط رعايتها على حياتنا، وتسحب، بين الفينة والأخرى، خيوط أقدارنا...)، جاء هذا الكلام على لسان إحدى شخصيات رواية (مايا) التي صدرت أخيراً عن دار الكلمة (دمشق -2001)، وربما انطبق هذا الكلام – بصورة ما – على سيرة كاتب الرواية النرويجي جوستين غاردر الذي بدأ حياته مدرساً للفلسفة، وانتهى إلى كتابة الرواية فطبقت شهرته الآفاق، ولا سيما بعد روايته الشهيرة (عالم صوفيا) التي بيع منها في تسعة أعوام أكثر من 16 مليون نسخة في أكثر من خمسين بلداً، وحولت إلى فيلم سينمائي، والى قرص مدمج، والى مقطوعة موسيقية.

وفي روايته الجديدة (مايا) اتي ترجمها إلى العربية، بكثير من الحرص والاهتمام ياسين الحاج صالح على الرغم من صعوبة الرواية وعوالمها الغريبة التي تستدعي الكثير من الجهد، في هذه الرواية يجد القارئ نفسه أمام نص أدبي غير تقليدي، مليء بالنظريات العلمية والآراء الفلسفية والأسئلة الوجودية المقلقة، نص متميز في حبكته وبنائه وشخصياته، مختلف في طريقته الفنية، فالرواية مصاغة من قبل بطل الرواية النرويجي فرانك أندرسون عالم الأحياء التطوري إلى زوجته المنفصلة عنه فيرا، على الرغم من الحب الذي يربطهما، لكنهما آثرا الانفصال لأنهما (فقدا ابنتهما سونيا حين كانت في الرابعة والنصف، ولم يستطيعا بعد ذلك المضي في العيش معاً، إذ كان هناك كثير من الأسى تحت سقف واحد) ففضلا تقسيم حزنيهما إلى حزنين منفصلين.

تبدأ مجريات الرواية – الرسالة في إحدى الجزر الفيجية الصغيرة (تافوني) التي تقع على خط الطول 180 درجة، وهي أول مكان تشرق عليه الشمس، حيث يستهل فرانك رسالته بصورة غنية بالتفاصيل عن تلك الجزيرة التي قدم إليها في أواخر القرن المنصرم استكمالاً لأبحاثه ونظرياته العلمية فيلتقي هناك مصادفة بشخصيات الرواية الأخرى: جون سبوك روائي إنكليزي أرسل إلى الجزيرة بمهمة من هيئة الاذاعة البريطانية لإنجاز برنامج يتعلق بقدوم الألفية الثالثة، ويقضي فترة حداد على زوجته المتوفاة، وآنا وخوسيه وهما زوجان اسبانيان يستحوذ عليهما حب جارف من نوع خاص وغير مألوف، فكثيراً ما يخوضان في نقاشات فلسفية غامضة حول الوجود الإنساني، ونشأة الكون، وجدوى الحياة ولغز الموت، ولديهما قناعات راسخة تسمى بـ (المانيفستو) كثيراً ما يرددانها في صورة أقرب إلى طقس ديني مقدس، ومما يثير استغراب القارئ هو أن آنا بعينيها السوداوين الجميلتين وبشعرها الأسود الفاحم تشبه تماماً لوحة (ماخا) للفنان الاسباني الكبير غويا، والتي رسمها قبل مئتي سنة من أحداث الرواية، بيد أن هذا التشابه أو التطابق بين آنا ولوحة (ماخا) ليس هو اللغز الوحيد بل ثمة ألغاز كثيرة.

ومن الشخصيات الأخرى التي يلتقيها الراوي فرانك، شخصية لورا ذات عين بنية وأخرى زرقاء، والتي تزوجت من رجل لا تحبه فتشبه قدرها بقدر تاجيموشيا (وهي اسم بحيرة تقع في الجزيرة المذكورة).

على الرغم من القضايا والمسائل الكثيرة التي تتناولها الرواية، إلا أن القارئ لا يستطيع أن يجازف باختيار واحدة منها لجعلها محور الرواية، ذلك أن قصص الشخصيات تتشابك وتتداخل في صورة تتلاشى معها المقولة الأساسية للعمل، ناهيك عن أن الحوارات تمتزج بخيوط من الوهم والغموض والأحلام والأساطير والأخيلة بحيث يصعب تحديد ما ترمي إليه الشخصيات لا بل يصعب – في كثير من الأحيان – تصديق ما ترويه، فهي حوارات على درجة عالية من التعقيد، قريبة من الرواية الاكاديمية في المعالجة، ومليئة بالألغاز كما أشرنا، ومع ذلك فإن الرواية تنطوي، في أكثر من مكان، على سرد جميل وحميمي عن الحب والصداقة والذكريات الجميلة لأنها في الأصل رسالة موجهة من زوج إلى زوجته، وتختصر أحداثاً عاشها الراوي في جزيرة تافوني ثم سلمنكا فاسبانيا، وتكتسب الرواية نكهة غير مألوفة، لكون البطل – الراوي ينتمي إلى صنف من البشر ممن يرغبون البقاء إلى الأبد حيث لا يستطيع هؤلاء أن يفهموا كيف يمكن للحياة أن تستمر بعدهم، بمعنى أن لديهم توقاً حارقاً للأبدية، هي مسألة تحيلنا وبصورة عفوية على أجواء ملحمة (جلجامش) فهي بدورها – شأن الرواية التي نحن بصددها – عالجت قضايا جوهرية في النفس البشرية ما زالت تشغل فكر الإنسان وتؤثر في عواطفه وحياته، كمسألة الموت، وما بعد الموت، والصراع بين الفناء وإرادة الإنسان في التشبث بالبقاء، كما أنها تفيض بصور الحب والكره والصداقة والبطولة، وتصور عجز الإنسان أمام الموت وبحثه عن سر الخلود، كل ذلك يطرح بقوة في سياق رواية جوستين غاردر لكنه يعيد صياغتها في لبوس عصري تنسجم مع أفكار وآراء المرحلة التي نعيشها.

اقتبس الكاتب اسم الرواية من اسم إحدى بطلاته وهي آنا ماريا – مايا التي أتينا على ذكرها، ومايا اسم أحد الأعشاب من عائلة كوموزيتا وهو ذاته المارغريتا، ومعنى كلمة مايا فتاة شابة أو ملكة جمال في اللغة الاسبانية, كما انها ايضاً اسم شعب قديم في امريكا الوسطى، لكن ما يقصده غاردر ليس كل ما سبق بل إنه يقصد – كما نقرأ في الرواية – بأن (مايا هي وهم العالم. إنها أصل الوهم الماكر وهم أنك مجرد أنا بائسة انفصلت عن الروح العظمى، وليس أمامها من فسحة للعيش سوى أشهر أو سنين معدودات...).

(مايا) هي رواية فلسفية – إذا جاز لنا التعبير – تغوص في عمق النفس الإنساني، وتبحث في ماهية وجوهر الإنسان، تضعها مخيلة شخصيات لا تنقصها الحكمة ولا يعوزها التمتع ببهجة الحياة وغرائبها، ولا يتأخر غاردر في تبرير سلوكها الهذياني والقلق فيقول على لسان إحداها: (لا يحدث أحياناً أن حياتنا، على رتابتها، استثنائية جداً إلى درجة أنه ما من خيال فني يمكن أن يتفوق عليها).

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا